مفاتيح

496 36 120
                                    

أمسَكَت كوبَها الساخِنَ بكِلتا يدَيها لتَشعُرَ بالدِفئ بينما أخَذَت تُراقِبُ أضواءَ المدينةِ المُتلألِئة. كُتَلٌ من الضبابِ كانَت تتجَمَّعُ و تتلاشى مع كَلِّ نَفَسٍ تُخرِجُه. مَرَّت عِدَّةُ دقائقَ هادِئةٍ قبلَ أن يفَتَحَ أحَدُهُم البابَ المُؤدِّيَ إلى سَطحِ المَبنى و يَخرُجَ إلَيها مُنادِياً اسمَها.

-"ستِلا؟ عَرَفتُ أنَّني سأجِدُكِ هُنا....كالعادة، حتى في هذا البَردِ القارِس!"
-"من الأفضَلِ أن يكونَ لدَيكَ سَبَبٌ جيِّدٌ لتُزعِجَني من أجلِهِ دايسونغ"
-"أُزعِجَكِ؟! لَمْ يَتَبَقَّى على آدائنا سوا خَمسُ دقائقَ يا آنسة!"
-"خَمسُ دقائق؟!"

وَضَعَت ستِلا كوبَ القهوةِ على حافَّةِ السورِ لتَتَفَقَّدَ ساعةَ يَدِها.

-"ياه...إنَّها مُتَوَقِّفةٌ مُنذُ ساعَتَينِ و لَمْ أُلاحِظ!"
-"أنتِ تُصابينَ بالجُروحِ و الكَدَماتِ ولا تُلاحِظين فكيفَ ستُلاحِظينَ أمراً تافِهاً كهذا؟!"

عَقَّبَ زميلُها ساخِراً قبلَ أن يَستَديرَ ليعودَ إلى الداخِلِ على عَجَل.

-"هيا أسرِعي!"

____________________________

في مُنتَصَفِ أحَدِ ساحاتِ المُجَمَّعِ التجارِيّ كانَ هناكَ آلةُ تشيلو مُسنَدةٌ إلى رفيقِهِا البيانو؛ كِلاهُما كانا في انتِظارِ كُلٍّ من دايسونغ و ستِلا. وَصَلا في تمامِ الساعَةِ الثامِنة ليَتَّخِذَ كُلٌّ منهما موقِعَهُ و يبدأَ بالعَزف؛ دايسونغ على أوتارِ التشيلو و ستِلا على مفاتيحِ البيانو. من كُلِّ اتِّجاهٍ و من كلِّ طابَق راقَبَتهُمُ أعيُنُ المستمعين. تَتابَعَ عَزفُهُم لإحدى أغنياتِ بيتهوفِنِ المُعَدَّلةَ بسلاسة، حتى عندما شَعَرَت ستِلا بالقُشعريرةِ و عَرَفَت من خلالها أنَّهُ قد أتى مثلَ كُلِّ ليلةٍ و أنَّ عيناهُ مُثَبَّتتانِ عليها الآن. كان شابَّاً في أواخِرِ العشريناتِ من عُمرِه؛ قامةٌ مُتوسطة؛ شعرٌ أسود؛ أعيُنٌ سوداءٌ ثاقِبةٌ تَنبَعِثُ منها رِسالةٌ غيرُ واضِحةٍ دوماً. رَفَعَت نَظَرها و رأَتهُ هناكَ بالفِعلِ بينَ جُموعِ المتفرِّجين.

"حسناً، لا مزيدَ من التَشَتُّت."

أغمِضَت ستِلا عَيناها و أكمَلَت العَزفَ بهدوء مُحاولةً تجاهُلَ هالَةِ الشابِّ التي فَرضَت نَفسِها على المُحيطِ من حولها.
....حتى قَطَعَ تركيزَها صوتُ فتاةٍ تَصرُخُ بفَزَع، تلى ذلك صوتُ رَفرَفَةٍ ثُمَّ سقوطُ شيءٍ ما على يدَيها.

-*شهقة*
فَتَحَت ستِلا عيناها ساحِبةً يدَاها نحوها برُعب.
تَوَقَّفَ العَزفُ و أخذَ من لَمْ يرى ما حَدَث يسألُ من بجوارِه: "ما الذي يجري؟!"
سُرعانَ ما اكتَشَفَت ستِلا أنَّهُ ما من شيءٍ يدعو إلى الخوف؛ كان مُجَرَّدَ غُرابٍ مُصاب و قد سَقطَ على مفاتيحِ البيانو مُلَطِّخاً بياضَها بدِمائِه.

Stellaحيث تعيش القصص. اكتشف الآن