أدركُ كم أنني فتاة تُشبهُ مدينةً ضجَّت بالياسَمين، تحاصِرُني الحِكايات وتحتلُّني البدايات، أنا رهينة الحبِّ وعينيه. وأدركُ كيف أنني كل يومٍ أتوسَّطُ سريري الخشبيَّ في غرفتي هذهِ، أراقب جدرانها الوردية من عليه وألبثُ بظنوني أنَّ حياتي مع حبيبي تشبه إلى حدٍّ ما تلك الجدران الوردية، كأنها مليئةٌ بالألعاب والحلوى لكنْ سرعان ما تتحول ظنوني الطفولية إلى ظنون مراهقةٍ شرقيةٍ لا يجيد قلبها الشَّقيُّ إلا اللّعب والاشتياق لهُ فتصبح جدران غرفتي من الشوق لرَجُلِي تنزف وكلما نزَفت أكثر اشتاق قلبي أكثر وصار كلانا ينزف.
وأشعرُ بالتعب وسط هذا الكم المُهيب من الشوق لهُ٬ فألجأُ أحيانًا للنوم حتى أهرب منه وأجعلهُ مجرد وهم أو بأن أذهب للنافذة حتی أتناسى قلبي المشتاق وهو يغرق بهِ، فإن اخترتُ النافذة أصبحتُ أراقب القمر الذي يزحزح عني همومي ويقبضُ على فجَوات قلبي تمامًا مثلما سأفعلهُ هذه الليلة، فقد تركتُ الجدران وظنوني والسرير وترنَّحتُ نحو الستائر، كشفتُها بعبثيةٍ ثم فتحتُ نافذتي بشغَب وكأنني أصارعها في صحراء فارغة من الرمال، سلاحي فيها قلبي والقمر وبعض من الهواء وبعد أن فتحتُها رأيتُ القمر في الأعلى، أفٍ للمعانه!، وذُهلتُ بشكلهِ المُكوَّر، فقد تفاجأتُ أن اليوم هو نصف الشهر العربي حتى أصبح القمر بَدرًا هكذا وصارت عيوني تلمع له وتغازلهُ بشقاوة، ورحتُ أذوب فيهِ وبالسماء المطلية بألوان النجوم وفِضّة الشُّهب، كان المكان هادئًا، لا يحتاج في هذا الليل إلا لكوب شايٍ ساخن مع أغنية "بس قلك حبيبي" لماجدة الرومي وصوتها الذي يوقظ غرائِزي الأنثوية لكنَّ أصوات صراصيرِ اللّيل من حولي عوَّضَت عن تلك النواقص وإحساسي بالنسيم الذي يهب كل ثلاث ثوانٍ فوق أنفي ليَحُكَّهُ أشعرني بالدفئ والنشوة، إلى أن بصدفة ما زاحت عيني نحو سور منزلي الأبيض في الأسفل حتى تراه، فهرعتُ وقتها، يا إلهي أهذا هو أم ماذا؟، قد رأيت رجلًا وعلمت لمَّا تأمّلتهُ بدقةٍ أنه حبيبي، فكان هناك يقف عند السور، يقفُ حالكًا كاللّيل ويرمُقني من بعيد بصمت.
رُجَّ قلبي وترَفرَفَ رِمشايَ عشرين مرة في الثانية من الصدمة؛ لأن وجوده غريب في مثل هذا الوقت والمكان، ألَا يوجد بابٌ ليَطرُقَ عليه أم أنه يحاول لعب دور العاشق الليلي أسفل نافذة معشوقتهِ بهذه الطريقة!، وبصراحة من شدة هرَعي نتيجة رؤيتي له فجأةً عند سور حديقة بيتي خفتُ جدًا ودون تردّدٍ أغلقت النافذة والستائر بسرعة و عدتُ لغرفتي أحومُ فيها بين جدرانها مضطربة.
أدور وأدور حول نفسي هناكَ بينما يدايَ موضوعتان على يسار صدري حتى تُهدِّئَ من روعة خفقان قلبي الصغير، صارت تخالِجُني مشاعر الخوف والقلق والحب والرهبة والبقاء والفضول والاشتياق حتى ظننت أنّ إعصارًا من المشاعر الفوضوية قد التهمني توًّا، وصرتُ أفكّر بأنّ هذا الرجل الذي أحبه رغم هيامي به قد أخافني حقًا بتصرفهِ الجُنوني، أكاد أجزم حماقة ما فَعَل، لا يُعقل وقوفهُ بهذه الطريقة عند السور، أكان يريد مراقبتي أم مفاجأتي بقدومه أم أنه جُنَّ فعلًا مثلما سيجعلني الآن أجَنُّ منه!٬ لكن وإن كان يريد مراقبتي فلستُ متأكدة من سبب فعلته؛ كونه يثق بي جدًا٬ وإن كان يريد مفاجأتي فإنه لغير عاقلٍ أن يفعل مثل هذا وأنا أعلم كم أن حبيبي عاقل جدًا وبعيد عن أيِّ تصرفاتٍ طائشة٬ إذن لم يبقى خيار إلا أنّ الفُصام قد أصابه أو فقد عقله بالفعل وأصبح مجنونًا وأنا أستبعدُ هذا. وكنت لا زلتُ أحلِّلُ وأفكر حتى أخفّفَ من توتُّري٬ ولأنني أحب أن أكون دومًا قويةً التقطتُ أنفاسي نفسًا نفسًا وأوصدتهُم داخل رئتي ثم توجهتُ مجددًا نحو النافذة وبرفقٍ فتحتُ طرف السِّتارة ونظرتُ نحو السور من خلف النافذة، أبحث هناك عن حبيبي، لكنني لم أجده فشعرتُ بمزيج من التوتر يتبعهُ راحة ضئيلة، فتحتُ الستائر كلها واقتربتُ من النافذة ثم ببطئ صرتُ أفتحها حتى عادت مفتوحةً على مصرِعَيها كما في السابق وبنفس الوقت كنتُ لا زلتُ أراقب حديقة منزلي متلفِّتةً يُمنةً ويسرة٬ لكنني لم أعثر عليه فيها مُطلقًا ولا قرب السور، فلم يكن في الخارج سوى ضوء القمر القوي بالأعلى والهواء وسكون الليل. لكنني ومع ذلك أرغمت نفسي على التأكد من خلوِّ المكان وأنني لم أكن أتوهَّم فعلا فاقتربتُ من النافذة أكثر ورجعتُ لمكاني كما كنتُ سابقًا وبنفس المسافة ثم فجأةً فتحتُ فمي وجَحظتُ عينايَ وشعرت أنّ أنفاسي تلاطَمت وأصبحتُ أريد الصراخ لكنني من الهلع عجزتُ عن التنفس أصلًا وإصدار أيِّ صوت، فقد رأيتهُ مجددًا، اللعنة!.. بحق الله٬ ك_ك_كيف عاد وك_ك_كيف لم أراه قبل قليل!.
فمرة أخرى شاهدته هناك واقفًا بنفس المكان الذي تركتهُ فيه، يراقبُني بصمت، وأشعلَ هذه المرة سيجارتهُ بهدوء ثم عادت أنظارهُ نحوي تتتبَّعُني، واقفٌ يدخِّنُ ويُطالِعني، بينما شعرتُ أنا أنَّ بركانًا استقرَّ في رأسي، فانفجَرَت أفكاري وتصادَمَت حواسي ومع ذلك حاولتُ أن أستجمع تركيزي ولو بعضًا منه، فشهقتُ شهقةً ضخمة ثم زفرتُ بقوةٍ وكدتُ أن أناديهِ باسمهِ في تلك اللحظةِ لكنني سهوًا عضضُّتُ لساني فتأوهتُ وأمسكتهُ بأصابعي فورًا لعلِّي أنقذهُ من الألم الذي حَلَّ بهِ وشعرت أنني قد فقدتُ سيطرتي، لكنني ومع ذلك مجددًا ومجددًا رغم الخوف والتعب في هذه الليلة أردتُ لفتَ انتباههِ للتأكُّدِ من هل هو واقفٌ من أجلي هَهُنا لمراقبتي فِعلًا أم أنّ هنالك سببًا آخر يدفعه للوقوف هكذا أمامي.
لذلك تحركتُ يمينًا بجسدي ففَعَلَ مثلي ثم عدتُ وتحركتُ شِمالًا فتبِعَني وهنا أنا بلعتُ لُعابي؛ لأنني تأكدتُ حينها أنه واعٍ بما يحصل وأنه فِعلًا يلاحِقُي ويراقِبُني، ثم بعد ثوانٍ أحسستُ أنّ المكان حولي باتَ مُظلمًا قليلًا وأنّ الضوء الذي كان يصدر من القمر خفَّ عن شاكِلَتهِ الأولى، فنظرتُ للبدر ولاحظتُ أنه بدأ بالمغيب رويدًا رويدًا وأنّ ضوءَهُ صارَ بسبب مغيبهِ خفيفًا، لكن هذا لم يُلهِني عن عودتي لاستراق النظر نحو حبيبي الواقف عند السور فعدتُ أبحثُ عنه وشاهدتهُ يتلاشى شيئًا فشيئًا وفي بادئةِ الأمر استغربتُ كوني رأيتُهُ ببطئ يختفي مع الضوء ويغيب في الظلام مثل القمر٬ لأدرك كم أنا غبيةٌ جدًا وأيقن أنّ كل تصرفاتي الحمقاء هذهِ ما هيَ إلا أوهام أنا اختلقتُها. فحبيبي الذي كان يقف عند السور لم يكن إلا ظِلِّي في الحقيقة، فواللَّهِ ما علمتُ أنَّ حُبي لرَجُلي قد صنع بي كلّ هذا التَّماهي، ليَجعلَنِي من الشوق والعشق أراهُ ظِلِّي وذاتي وانعكاسًا لمرآتي!.
وعدتُ لسريري في غرفتي بين الجدران الوردية، أضحكُ على ما حصل هذهِ الليلة وعلى مخيلتي وفي ذات الوقت نمتُ مع القمر ونام معه ظِلِّي وحُبي وشوقي لذاكَ الرجل.