#2

96 13 10
                                    

أشرق الصباح على المدينة الكبيرة متسللة خيوطه الرفيعة عبر البنايات الشاهقة لتطرق الأبواب، تثاءبت مرارا وهي ترتدي كنزتها الصوفية لتداري بها جسدها النحيل الذي لم ينفض عنه بعد لذة نوم شتوي طويل، أزالت ستارة الشرفة وخرجت تمنح جسدها للنسيم الجميل.
- عم تشينلو صباح الخير..
صرخت تحيي البستاني البرازيلي العجوز الذي كان يتفقد حديقة القصر كعادته دائما.
- صباح الخير يا ابنتي، إنه يوم جميل، تعالي وتفقدي البتلات الصغيرة التي بدأت تستقبل الشتاء بالفعل.
رد الرجل العجوز وهو يرفع ناحيتها إصيصا صغيرا لبراعم الزنبق التي شقت طريقها في التربة نحو الهواء والنور.
ضحكت وهي تلوح بيدها للبتلات الصغيرة:
- صباح الخير أيتها الجميلة، لنقاتل هذا الشتاء الفتاك معا.
وانزوت خلف الستارة لتستعد لخروجها المنتظر.
جلست إلى الطاولة الكبيرة لتتناول إفطارها الصباحي، دنت منها الخادمة لتخدمها، التفتت حولها مرارا وتكرارا ثم سألت:
- أين الجميع؟
- خروجوا جميعا مع خيوط الفجر الأولى يا ابنتي، قالت والدتك أنهم سيقضون بعض الوقت في المزرعة قبل حلول الشتاء.
- لكن الجو بارد جدا هناك، سيكون خطرا على أبي.
- إنه هو من طلب ذلك ووالدتك لم ترغب في أن ترفض.
- مازلت غير راضية على هذا أبدا.. من ذهب معهما؟
- الجميع عداي أنا طبعا
- أنت أكثر من ينبغي له أن يكون هناك.
- وأتركك وحدك هنا؟ لن يغمض لي جفن يا ابنتي، الجو قاس هذه الأيام وأنت تتعافين بشكل جميل مؤخرا ولن نسمح أبدا بأن تتدهور حالتك من جديد، لن نعايش ذلك الرعب مجددا يا صغيرتي.
ضحكت وهي تمسك يد السيدة الواقفة عند رأسها:
- أنا لم أعد برعما صغيرا تخنقه الثلوج، أنا الآن شجرة قوية قادرة على القتال.
ضحكت السيدة الخادمة أيضا:
- ولكنني سأبقى معك رغم ذلك.
- لا فائدة يعني؟
- لا فائدة طبعا..
وضحكتا معا..
خرجت تقود سيارتها الصغيرة إلى وجهتها الموعودة، بعد ان تفقدت البستاني العجوز وحديقتها الكبيرة، تفقدت ساعتها وهي تدور عند المنعطف الأخير، إنها التاسعة والنصف صباحا.
- عظيم.. أنا مبكرة جدا وكأنني أخبره بطريقة مباشرة أنني متلهفة لرؤيته.
فكرت في الانعطاف لتضيع بعض الوقت في مراكز التسوق، لكنها ألغت الفكرة ومضت نحو موعدها.
دخلت القاعة الكبيرة المضاءة بنور خافت، تلفتت حولها نحو المقاعد الشاغرة ابتسمت بتهكم وهمست:
- أيها الناس الجاحدون!
- نعم.. إنهم أناس جاحدون..
التفتت نحو الصوت الخارج من ركز ما من مسرح القاعة، ابتسمت وهي تحييه بانحناءة صغيرة.
- لا أحد يصلي هذه الأيام يا ابنتي.
قال الأب القسيس وهو يتجه نحوها مشبكا ذراعيه خلف ظهره، انزوى بمحاذاة أذنها وأكمل هامسا:
- ولا أحد يعترف أيضا..
انتفضت مرتجفة وارتدت خطوتين للخلف وهي تحافظ على ابتسامتها:
- أنا هنا للصلاة، أتمنى أن أكفي؟
أجابها مبتسما بدوره:
- تكفين، بالطبع تكفين، الرب لا يرفض مؤمنا واحدا في حضرته.. صلّ.. المكان كله لك.
وطفق عائدا إلى ركنه في زاوية المنصة المرتفعة في القاعة.
جلست في الصف الخامس من القاعة، شبكت يديها الصغيرتين ببعضهما البعض وأخذت تصلي.
بعد بعض الوقت تفقدت ساعتها..
- ربع ساعة تأخير، بداية مشرقة.
جاءها صوت هامس من خلف أذنها تماما، التفتت منتفضة لتقابل وجهه الذي كان قريبا منها حد الشهقة.. شهقت وهي ترتد بجسدها النحيل للخلف..
ابتسم وهو يراقب فزعها الطبيعي جدا.
- نسيت أن أخبرك أنني رجل يصل متأخرا دائما.
ابتسمت بدورها وهي تلتفت لتعطيه ظهرها بينما يجلس في الصف السادس خلفها مباشرة:
- كنت سأقول "لابأس" من باب اللباقة واتكيت الكلام، لكنني امرأة لا تحب الانتظار، أتمنى ألا يتكرر هذا مجددا.
قالت وهي تشبك يديها لتدعو دعاءها الأخير.
- سأحرص على ذلك.
أجابها وهو يضع ساقا على ساق بينما يحرك عينيه ليكتشف الكنيسة التي يتحدث عنها الجميع.
أنهت دعاءها والتفتت إليه واستغرقت في ملامحه برهة:
- واحرص ألا تقاطع صلاة أحد مجددا أيضا.
ضحك بصوت عال:
- لم أعن أنني سأحرص على ألا أتأخر مجددا..
- ماذا إذن؟
- اقترب من وجهها كما المرة الأولى تماما:
- سأحرص ألا نلتقي مجددا..
أجاب وهو يقف ويشير لها بيده أن تقود الطريق للخارج..
وقفت لتقابله بدورها وهي ترد عليه بثقة:
- لا تكن واثقا جدا..
خرجا سويا من الكنيسة، وقفا امام سيارتيهما وجعلت تفتش في حقيبة يدها عن مفتاح سيارتها، فتحت السيارة والتفتت إليه:
- لا أحب أن يقود الناس بي ولا أحب أن أقود بأحد، لذا ليأخذ كل منا سيارته.
خطا نحوها فجأة وأغلق باب سيارتها وهي واقفة خارجها، رفعت رأسها إليه بنظرات متسائلة، أجابها سريعا:
- لنتمش..
- ماذا؟
- لا أنوي أن أطيل هذا الأمر كثيرا، لذا، لننهه في نزهة قصيرة على الأقدام، ماحاجتنا لموعد طويل وطعام؟
ضحكت لأول مرة وهي تتقدم حتى لم تبق إلا شبرا واحدا بينهما، رفعت رأسها لتواجه وجهه الصارم:
- أخبرتك ألا تكون واثقا جدا..
سارت أمامه تقود الطريق مجددا، ابتعدت عنه خطوات طويلة بينما ظل ساكنا عند باب سيارتها، التفتت إليه وصاحت:
- ألم تقل لنتمش؟
استدرك نفسه من شروده وسار ناحيتها حتى جانبها تماما:
- ماكان يبدو عليك أنك ستوافقين بهذه البساطة؟
- على ماذا بالضبط؟
- على المشي طبعا..
- ولم لا؟
- بدوت امرأة سترفض أي شيء أقوله وستفرض كل ما تقوله.
- إحذر الأحكام المسبقة سيد كيم..
صمتت قليلا ثم استأنفت:
- واحرص على أن تفرق بين الانقياد والتعصب والطبيعة.
ضحك وهما يغادران أخيرا الساحة الكبيرة للكنيسة، سارا في شارع فرعي مكتظ بالمتاجر المختلفة، كان بعض طلبة المدارس يتضاحكون ويتراكضون على الطرقات خارج الدوام الصباحي هروبا من المدارس، رائحة القهوة تملأ المكان ممتزجة برائحة الأعشاب المختلفة، الزنجبيل، الشاي، الريحان.. والورد أيضا.
- هل تحب الورود؟
سألته فجأة:
- هل يجب أن أحبها؟
أجابها وهو يتأمل الورود المطلة من واجهة محل للزهور في منعطف الشارع.
- ليس بالضرورة، أنتم الرجال لا تحبون الأشياء الجميلة عدا النساء غالبا.
ضحك مجددا:
- إحذري الأحكام المسبقة "آنسة تشوي"
ضحكت بدورها:
- هل تهاجمني بكلامي الآن؟
- إنه ليس إلا سياق الكلام.
- أيعني هذا أنك تحب الورود؟
- أنا أحب كل الأشياء الجميلة عدا النساء.
ضحكت بصوت عال هذه المرة:
- بربك..!
ضحك بدوره:
-ماذا؟
- لماذا قد لا يحب رجل النساء الجميلات؟
- غالبا ما تكون المرأة الجميلة مأخوذة بنفسها أكثر من اللازم، إنها تتجاوز الثقة بجمالها للغرور به، تصبح امرأة مملة ومتعبة.
ضحكت بشدة:
- أوه.. إحذر الأحكام المسبقة مجددا سيد كيم.
- أتعتبرين نفسك امرأة جميلة؟
- بالطبع، سيكون كذبا واضحا إن قلت "لا"
ضحك مجددا ولم يعقب:
- ماذا؟ ماذا؟
سألته وهي تسبقه بخطوتين وتسير عكسا لتقابله بوجهها بينما تمنح مقدمة الطريق ظهرها، أجابها وهو يضع يديه في جيبي بنطاله:
- إنك تثبتين لي أنه لم يكن مجرد حكم مسبق وأنكن معشر النساء الجميلات "مغرورات".
ابتسمت وهي تعود لجانبه مجددا وقالت:
- إنه ليس غرورا بل ثقة ثم إنك اعترفت توا بأنني جميلة.
- أنا لم أقل أبدا عكس ذلك، أنا قلت أن النساء الجميلات مغرورات وأنت أثبت ذلك الآن.
رفعت رأسها بغرور مصطنع وهي ترد عليه:
- المهم هو أنني وأنت الآن نعرف جيدا أنني امرأة جميلة.
ضحك وأكمل:
-ومغرورة.
- سمه ما شئت..
وضحكا سويا هذه المرة.
انعطفا يمينا عند محل الزهور، تمشيا وسط الصمت الذي بدأ يخيم على بقية الشارع حيث بدأت الحركة تقل شيئا فشيئا ولم يعد ثمة محلات، انتهى بهما الأمر إلى نهاية مسدودة للشارع، كانا مرتبكين للحد الذي لم يكتشفا فيه أنهما يسيران في الاتجاه الخاطئ، وقفا مدهوشين أمام السور الشاهق الذي يكاد يحجب نور الشمس عن البنايات البعيدة، نظرا إلى بعضهما البعض وانفجرا ضاحكين، في نهاية ضحكتها وقفت تتأمل بقية ضحكته، أمالت رأسها قليلا:
- ضحكتك جميلة جدا.
قالت وهي تشيح ببصرها عاليا نحو السماء التي بدأت تأخذ لونا رصاصيا مربكا.
- تنغلق عيناك تماما حين تضحك، يقولون أن ذلك منتهى النشوة وأنه لا نشوة في الضحك بعيون مفتوحة.
ابتسم و هو يحاول ان يستوعب كلامها:
- يفترض بي في موقف كهذا أن أقول أنك أول من يقول هذا لي من باب المجاملة، لكن الجميع يقولون هذا لي بالفعل.
ابتسمت بسخرية:
- انظروا من كان يقول عني مغرورة قبل قليل.
تنحنح وهو يرفع يديه ليعدل ياقة معطفه علامة الغرور، ضحكت وهي تسأله:
- ماذا؟ هل ستقول لي الآن أنها ثقة بالنفس؟
ضحك بدوره:
- لا، سأقول فقط أنها الحقيقة.
طفقا عائدين أدراجهما إلى الشارع الكبير، دخلا أحد مقاهيه، طلبت شايا عشبيا واكتفى هو بكوب ماء:
- من غير اللائق أن تطلب ماء في حضرة امرأة، ألا تعلم هذا؟
تجهم وجهه فجأة، وتغيرت ملامحه الضاحكة إلى الجدية وكأنه استدرك شيئا ما أخيرا، اعتدل في جلسته كأنه يستعد لإلقاء خطاب رسمي:
- لقد لطفنا الجو بيننا بما يكفي، أظن أنه يجب أن ندخل في الموضوع الآن؟
- آه.. ذلك الأمر..
أجابت وهي تحرك الملعقة داخل الفنجان الكبيرة.
جعل يتأمل ملامحها المبهمة وهي تجيب ببرود شديد كأن الامر لا يعنيها، بدا عليه الصرامة وهو يقول:
- لا أريد لهذا الزواج أن يتم بأي شكل من الأشكال، نحن لسنا صفقة تجارية، ما معنى أن يقحمونا في زيجة مدبرة من اجل شراكة اقتصادية لا يد لنا فيها أساسا.
- أنت تريد أن تفتتح فرعا للعطور في شركة والدك أليس كذلك؟
بهت للحظة، لم يكن يعرف هذا الأمر سوى ثلاثة أشخاص وهو، تساءل في داخله كيف عرفت بالأمر، لكنه لم يخرج السؤال إليها واكتفى بالصمت:
- أريد فرعا لمستحضرات العناية بالبشرة في شركة والدي أيضا.
أكملت حديثها بجدية غطت كل مزاحها السابق، رفعت بصرها إليه من كوب الشاي وهي تواصل حديثها:
- لنتزوج.. ولنفعل مايحلو لنا.
- هل تمزحين معي الآن؟ هل أنت موافقة على زواج كهذا؟
- هل تريد زواجا عن حب إذن؟ أحصل عليه بعد الطلاق، ليس وكأننا سنظل معا لأرذل العمر..
عادت تحرك الملعقة داخل فنجان الشاي بينما تواصل كلامها:
- إنها سنة واحدة أو سنتين على الأكثر، بعدها ليأخذ كل منا الطريق التي يريدها.
صمتت قليلا أمام علامات الاستفهام الكثيرة المرتسمة على وجهه، ابتسمت ببشاشة ومدت يدها تسوي بها خصلات الشعر المتناثرة على كتفيها:
- أنظر أنا أريد الكثير من هذا الزواج وأنت أيضا لديك حتما ماتريده، فقط لنمنحهم مايريدون ولنحصل نحن على مانريد، لننقذ عمل والدينا ولنحصل على أعمالنا الخاصة.. إنها صفقة مربحة للجميع.
تنهد عميقا قبل أن يسحب يده من على الطاولة ويمررها على رقبته:
- كنت قادما إلى هنا يسبقني حماسي أنك ستبادرين برفض هذا الزواج، لكنني كنت مخطئا.
- توقف عن التحدث عنه وكأنه مشروع حياة أو موت، إنه محض صفقة يمكننا إنهاؤها في طرف عين، حتى لو كنت قد دخلت علاقة مع امرأة سلفا فلا مشكلة لدي طالما تبقيها في الخفاء إلى أن ننتهي، وأظن أن الأمر سيكون سيان بالنسبة لك، لا أقول لك أن تقبل فورا، فقط فكر في الأمر بجدية من أبعاده المختلفة، فكر فيه على أنه علاقة صداقة بيننا، بعض الأصدقاء اليوم يبيتون في مساكن بعضهم مهما كان جنسهم بشكل عادي، لن يكون ثمة أي مشكلة في أن نقيم في مسكن واحد لبعض الوقت أليس كذلك؟
ابتسم بسخرية وهو يرد:
- لا علاقة للأمر بأين نقيم وكيف نقيم، إنها مسألة مبادئ..
قاطعته قبل أن يكمل جوابه:
- ليس وكأننا سنفسد مبادئك تلك، كن مطمئنا!
ضحك هذه المرة وهو يحاول ان يتفرس طموحها من هذا الزواج في ملامحها:
- تريدينه بشدة أليس كذلك؟
- أجل..
- لماذا أنا؟
تفاجأت لسؤاله غير المتوقع وهي تجيب بسؤال آخر:
- ماذا؟
ضحك مجددا:
- أظننت أنني لن أعرف أبدا أنك أردتني أنا شخصيا ورفضت أخي؟ أعرف أنك تملكين الكثير من المعلومات عني، تأكدي أنني أملك المثل عنك وربما أكثر، أشعر أنك تسعين لشيء غير العمل من هذا الزواج، أخاطر بكل شيء لأعرف ماهو حتى لو اضطريت أن أتزوجك.
ضحكت هي الأخرى بينما تسحب عنق الكنزة الصوفية الطويل إلى الأسفل ليستقبل ذقنها الحاد بعض الهواء، سحبت جذعها نحو الطاولة لتستند بمرفقيه المتعاقدين عليها، رفعت بصرها إليه بتحد:
- فلتفعل إذن..
قطع حديثهما المبهم صوت وصول رسالة إلى هاتف جونميون، أمسك هاتفه وهو يستأذن منها، فتح الرسالة يقرؤها بتمعن، بدا على وجهه آثار الغبطة الممزوجة بالقلق، وقف فجأة بينما يشير للنادل بالحساب، أعاد الكرسي مكانه تحت الطاولة علامة المغادرة، ابتسم لها قائلا:
- ستكون الأوراق اللازمة في بيتك بعد أسبوع من الآن، بعدها سيتوجب علينا أن نلتقي كثيرا أليس كذلك؟
قبل أن تجيبه بكلمة واحدة غادر المقهى الصغير وتركها تكتسحها الدهشة والاستغراب من تحوله المفاجئ، استدركت نفسها واستجمعت أغراضها وخرجت تقود الطريق إلى الشركة.
دلفت إلى مكتب بجوار مكتبها تتبعها السكرتيرة كعادتها دائما، انتبهت لها وهي تبلغ باب المكتب أشارت لها بالمغادرة ودخلت المكتب وحيدة.
خلف المكتب يجلس شاب ثلاثيني بملامح جادة وربطة عنق مفتوحة من أثر التعب، يدلك رقبته بيده اليسرى بينما يحرك باليمنى قلما على مجموعة من الأوراق المتراكمة أمامه على سطح المكتب، رفع بصره إليها بعد أن سمع نقرات كعب حذائها وهي تدنو منه في إشراقها المعتاد وأفرج عن ابتسامة واسعة:
- أوه آنسة تشوي جيل سو بشحمها ولحمها هنا في مكتبي، إلام ندين بهذا التشريف؟
ضحكت وهي تجلس قبالته تضع ساقا على ساق:
- أيمكن أن يكون للسيد كيم؟
انتفض في جلسته كمن باغتته طلقة رصاص، تهدجت أساريره وهو يسألها:
- حُلَّ الأمر؟
- بنسبة 80%
- وال 20% الباقية؟
ابتسمت بمكر:
- لنتركها للأيام..
ابتسم هو الآخر وهو يضرب كفا بكفها، صمت قليلا قبل أن ينطق بما كان يؤرقه منذ وقت طويل:
- ألستِ خائفة؟
- مممممممم
- إنه رجل جيد مما هو ظاهر، لكنه قد يتحول إلى رجل سيء في أية لحظة، بشهادة حادثة الطفولة، أعني.. نحن نعرف أي نوع من الأشخاص هو.. ماذا لو آذاك؟
- لو تركنا الأمر للخوف فلن نكون قادرين على أن نسترد منه شيئا، إذا كنت أريد أن أصفي حساباتي معه فعلي أن أكون شجاعة وجريئة ووقحة إن تطلب الأمر..
نهض الرجل من خلف مكتبه وتقدم حتى جلس في الكرسي المقابل لها، احتضن كفيها الصغيرين براحتيه وجعل يستشف مواطن الخوف والقلق في ملامحها، سألها كمن يلقي سهما في الهواء:
- ماذا لو أحببته؟
ضحكت ملء فيها، ضحكت بأعلى صوت ممكن لها، وقفت تجوب أنحاء الغرفة وهي تمسح الدموع المتراكمة في عينيها نتيجة الضحك، تقدمت من الرجل الجالس ينظر إليها بحيرة وانحنت حتى تساوى موضع أنفيهما:
- سيد تشوي مينهو... أنا لا أستطيع أن أحب أحدا في حياتي، أنا امرأة ينخر الربو الحاد رئتيها كما تنخر الصراصير والجرذان كوخا مهجورا... انا امرأة قد تموت في أية لحظة، قد تقتلني نزلة برد سخيفة، أو فزعة صوت الرعد مثلا، قد تقتلني شهقة انكسار فنجان القهوة، أو رعشة انقطاع الكهرباء.. أنا قد أموت لمجرد لهفة لمسة أو قبلة.. عن أي حب تتحدث؟ حتى لو كان هذا الرجل عدوي فأنا لن أورطه في قصة حب مع امرأة موعودة بالموت مثلي.
سحبت معطفها من مشجب المكتب بعصبية وانسحبت من مكتبه بانكسار يجرف كل تلك اللهفة التي دخلته بها إلى مجاري الوجيعة.
سحب نفسا عميقا وعاد إلى كرسيه خلف مكتبه وجعل يرتب الأوراق المنتشرة على طول الطاولة، تنهد وهو يتمتم:
- كيف وأنا غارق في حبك حتى لو متُّ معك؟!
تنهد مجددا وهو يأخذ سماعة الهاتف ليتصل بسكرتيرته ويطلب منها مرافقة الآنسة "تشوي" حتى أسفل المبنى، أجابته السكرتيرة بأنها غادرت بالفعل ولا يمكنها اللحاق بها، تنهد ثالثة وعاد ينغمس في عمله.
دخلت المصعد راكضة كمن يفر من حتفه، ضغطت الزر طالبة المرآب، ابتسمت لشحوبها في مرآة المصعد وسلمت نفسها لبكاء داخلي طويل.
خرجت من المصعد، ركبت سيارتها شغلت موسيقى كلاسيكية هادئة، تناولت هاتفها وشكلت رقما، بعد لحظات كان الجواب من الطرف الآخر من السماعة بلغة صينية خالصة:
- ظننت أنك لن تتصلي قبل أن أكون هناك في كوريا.
ردت وهي تدير المقود لتخرج بالسيارة من المرآب:
- يجب أن نسرع الأمور قليلا، لست في وضع يسمح لي بالتأخير.
- ماذا علي أن أفعل؟
- ٱحشري دماغه بالأقاويل، واحرصي على ألا يستعيد ذاكرته أبدا، على الأقل ليس قبل أن أنهي عملي.
- أخبرتك من قبل أنني لا أريد أذيته..
صرخت فجأة:
- أنا وضعتك هناك، وأنا أخذتك إليه، أنت هناك معه لأنني أردت ذلك وإلا كنت ستتعفنين في أزقة سيؤول للأبد، عليك ألا تنسي هذا أبدا.
توترت الأخرى خلف سماعة الهاتف وأجابت وقد ذهبت منها الكلمات:
- حسنا حسنا، سأبذل جهدي، أساسا سنكون في كوريا بعد أيام. سأحرص على أن يكرههم جميعا، لا تقلقي.
- أسرعي..
وأغلقت الخط من غيرما كلمة أخرى، قطعت كل سبل النقاش المتاحة، لم تودع لم تقل شيئا بعدها، وهربت إلى داخلها مجددا تستكمل بكاءها الصامت خلف مقود السيارة التي تقطع شوارع المدينة دون وجهة محددة، ومن الراديو تنبعث تلك الموسيقى الكلاسيكية الناعمة لتزيد الجو بكاء و شهقة، فكرت كثيرا قبل أن تقرر كل هذا، لقد خططت للأمر لسنوات طويلة، تريد أن تعرف كيف ولماذا حدث كل ماحدث، ذاكرتها لا تخطئ أبدا، إنها أصح وأقوى شيء في هذا الجسد المتهالك، تعرف في داخلها أن ما تقوم به يتنافى مع قلبها وأخلاقها ومع كل ما ترَبَّت عليه منذ بدايات الوعي الأولى، لكنها لم تنس أبدا مشهد النيران وهي تلتهم المزرعة الكبيرة عن آخرها، لم تنس صورة جثة جدتها المتفحمة في وسائل الإعلام، لم تنس مشهد الفتية الصغار وهم يسحبون بعضهم البعض من مدخنة الميتم ويفرون إلى وجهة غير معلومة، لم تنس أبدا ما سمعته من نقاشهم وتخطيطهم الهامس للهروب قبلها بخمس ليال، لم يصدقها أحد يومها، ولم تأخذ الشرطة بكلامها لأنها باختصار "طفلة في السادسة من عمرها" و لن يولي أحد الاهتمام لما تقوله أو تفعله.
أمطرت الدمع خفيفا ساخنا هذه المرة وهي تستحضر تهويدات جدتها من طفولتها الضائعة في المشافي والإبر وغرف الإنعاش الصدري، تلك التهويدات التي كانت تدفىء برد الغرف البيضاء الموحشة، وترمِّمُ شقوق صدرها المتصدّع سعالا جافا حدّ النزيف، مرِّرت يدها على عنقها تتلمّسُ قلادة وهمية فقدتها ذات عبث طفولي، وصوت جدتها الهامس يغني بلكنته الفرنسية الجميلة رائعة جان فرنسوا ميشال "أفكر فيك Je pense à toi"
Je m'éveille je pense a toi
Il fait soleil je pense a toi
On me téléphone je parle
Je pense a toi
Avec elle je pense a toi
Quelle heure ce soir je pense a toi
Ou allons me dit elle
Je pense a toi
Je ne sais même plus ou tu est ni ce que tu deviens
Mais ça n'a pas vraiment grande importance
Nos pas se perdent dans la ville
Vers de nouveaux chemins
Qui ne se croisent que par coup de chance
De chance
Il se fait tard je pense a toi
Si on rentrait je pense a toi
Je n'était pas très drôle ce soir
Je pensais a toi
On fait l'amour je pense a toi
Au petit jour je pense a toi
Je ne dors pas je pense a toi
Je ne sais même plus ou tu est ni ce que tu deviens
Mais ça n'a pas vraiment grande importance
Nos pas se perdent dans la ville
Vers de nouveaux chemins
Qui ne se croisent
Que par coup de chance
De chance
La nuit s'achève, je pense à toi
Même quand je rêve, je pense à toi
Je fume une autre cigarette
Je pense à toi
Le jour se lève, je pense a toi
Les yeux mi-clos, je pense a toi
Je ne dors plus, je pense a toi.

 أمطرت الدمع خفيفا ساخنا هذه المرة وهي تستحضر تهويدات جدتها من طفولتها الضائعة في المشافي والإبر وغرف الإنعاش الصدري، تلك التهويدات التي كانت تدفىء برد الغرف البيضاء الموحشة، وترمِّمُ شقوق صدرها المتصدّع سعالا جافا حدّ النزيف، مرِّرت يدها على عنقه...

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.


دندنت الأغنية بصوت هامس هي الأخرى وهي تراقب قطرات المطر المفاجئة التي بدأت تغطي زجاج السيارة دونما إنذار مسبق، ابتسمت لغرابة الجو الذي أمطر بعد أن كان مشمسا كما ليداري حرقتها، ابتسمت للذكريات الغائرة في مدن الذاكرة البعيدة، سحبت نفسا عميقا تبعته بتنهيدة أعمق، وانعطفت بالسيارة لتأخذ طريقها إلى المنزل.
- إلى متى تهربين من الشتاء يا جيل سو؟
سألت نفسها بسخرية مريرة وهي تصارع زحمة السير المعهودة في هذه المدينة الكبيرة، عينها على الطريق أمامها وقلبها عند والدها المشلول في بيت المزرعة وعقلها عنده هو "كيم جونميون" دائما وأبدا، رجل الذاكرة والنسيان معا، الرجل الذي تريد أن تنهيه بكل ما يمكنها، لكنها خائفة من ألا يمنحها الرب الوقت الكافي لفعل ذلك، وخائفة مما يمكن أن يفعله هذا الرجل في مقابل ذلك، وخائفة من كل ماهو آت.. لكنها لن تتراجع أبدا.

Penser !بانسيهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن