#1

326 25 31
                                    

تيك تاك تيك تاك ..
تصدر الساعة العتيقة على حائط الكوخ صوتا مزعجا لكنه محبب في الوقت نفسه ، تحتك عقارب الساعة الثلاث عند الرقم الخامس منها ، ثم ينزلق عقرب الثواني وحيدا ليجر الوقت معه نحو صباح جديد.
الخامسة وخمس وعشرون دقيقة صباحا ، المكان خال من أي بادرة حياة سوى عواء الذئاب في الخارج تحمله الريح من عمق الغابة مرورا بالوادي ووصولا إلى سفح الجبل .. حيث هو.
تشتد الريح شيئا فشيئا لتكنس الأرض من آخر أوراق الخريف استعدادا لاستقبال الضيف القاسي الذي سيغطي البلاد بردائه الأبيض و الذي يبدو أنه سيكون أبرد من المعتاد هذه السنة ..
في هذا الكوخ حيث يقضي وحدته بين الفينة والأخرى، لا أحد يستطيع الوصول إليه هنا ، إلا..
صوت رنين الهاتف يتعالى من على طاولة المكتب الصغير ،صوت مزعج لا يتوقف رغم محاولات التجاهل الكثيرة ، ترك الزجاجات الصغيرة من يده أرضا لتجاور مثيلاتها اللاتي افترشن أرضية الكوخ، ووقف قاصدا الهاتف، كان يعرف المتصل من غير أن ينظر الاسم حتى، ابتسم ابتسامة جانبية وهو يقرأ الاسم الذي يضيء الشاشة ليؤكد معرفته ليس الا..
- يا رجل ..
أتاه صوت ضحكة ساخرة من عمق الأثير عبرت سماعة الهاتف واخترقت أسوار الكوخ الصغير، توقفت الضحكة وتبعها صوت المتصل:
- أتظن أنني سأتوقف إن تجاهلتني؟
رد بنبرة ساخرة:
- لااااااا وكيف أجرؤ على مجرد الظن، أنت حتى في كوابيسي لا تتوقف عن الاتصال.
- كن ممتنا أن لديك صديقا مهتما مثلي يقلق لأجلك ويتصل بك حتى وأنت تتجاهله.
- سأكون ممتنا أكثر لو خلصتني من اهتمامك الجميل هذا.
قهقه الرجل في الجهة الأخرى من الهاتف وقال:
- أنا وراك حتى الجحيم يا صاحبي.
- كل مكان أنت فيه هو جحيم حالك.
ضحكا سويا.. يعرف الرجلان بعضهما معرفة يقينة، صداقة طويلة الأمد صقلتها التجارب الكثيرة والمواقف، وصنعت بينهما رباطا وثيقا يشدهما الى بعضهما كلما قست الحياة أكثر، هذه السخرية التي تغلف حديثهما وليدة الود الجميل بينهما، الود الذي يخلق من المزحة يدا تربت على كتف الوجع، وكتفا تسند الرأس المثقل بالذكريات!
شيء من الصمت بينهما قطعه الصوت القادم عبر سماعة الهاتف متنحنحا:
- إلى متى ستستمر في التقوقع على نفسك هكذا وتنسى الأمر؟
- هل نسيت أنت؟
- لا ولكنني مدرك أنه مقدر لنا أن نعيش هذا بعد كل شيء تماما كما هو مقدر لنا أن نستمر في العيش بعد كل شيء ورغم كل شيء.
- تعرف أنني لا أؤمن بالقدر!
- ربما هذا مايجعلك هكذا.. أنت لا تؤمن بشيء حتى بنفسك..
- هل اتصلت بي في هذا الوقت لتسمم مسامعي بهذا الكلام؟
ضحك الآخر خلف السماعة ضحكات متقطعة وأجاب:
- لا ولكن من الممتع جعلك تفقد أعصابك هكذا فعلا مع أني لم أقصدهذه المرة فعلا ..
صمت قليلا ثم استأنف:
- والدك لا يستطيع الوصول إليك، لقد بدأت اتصالاته المتكررة بي تجعلني أشفق عليه، حتى إنه أتى إلى مبنى المجلة في وقت متأخر ليلة البارحة، تواصل مع الرجل وجدا حلّا لهذا الخلاف بينكما.
شبح ابتسامة ارتسم على شفتيه لذكر والده:
- لا شيء بيننا يستدعي التواصل فعليا، إنه فقط لا يفهم، ولا يريد أن يفهم.
- وكأنك تفهم!
ضحك..
- أتساءل أحيانا، لا.. أعني دائما إن كنت صديقي أم عدوي؟
ضحك الآخر بدوره:
- أنا صديقك مادمت تعرف طريقك وأتحول إلى عدو حالما تحيد عنه.. تواصل مع الرجل وخلصني من مهمة ساعي البريد التي أقحمتماني فيها إقحاما..
- دعنا من هذا الآن.. أين أنت؟
- في لامكان.. أنا هائم بسيارتي من شارع لشارع، مالذي قد يفعله رجل منبوذ مثلي في هذه الساعة؟
- من يسمعك يظن أنك مهجور في جب عميق، يارجل نصف نساء كوريا تتجولن حولك كيراعات الينابيع، أنت فقط أخرج من مستنقعك الضحل ذاك.
- لا أريد يراعة لا تنير إلا عند الينابيع يا صاحبي، أريد أنثى يعسوب تغرق معي في مستنقعي.
ضحك بسخرية:
- حسنا يا ذكر اليعسوب دعنا نلتقي حين تشرق الشمس إن كنت متوفرا.
- أنا متوفر دائما.. دعنا نلتقي في المقهى ونزعج ذلك العجوز قليلا..
- سيقتلنا يوما ما..
- سيموت بحنقه أولا.
وضحكا سويا.. وانتهى الاتصال.
عاد يقلب الزجاجات المزروعة أرضا أمامه وعلى وجهه ابتسامة دافئة لا يستطيع مداراتها، إنه يحب هذا العمل للحد الذي يمكنه أن يواجه كل شيء من أجله حتى والده.
لكنه لا يريد أن يخرج به إلى النور من دون موافقة والده، يكافح منذ سنتين لكنه العناد المتوارث في هذه العائلة كمرض خبيث.
ابتسم لأفكاره العشوائية وقام يجميع الزجاجات الصغيرة ويرتبها في رفوفها كالمعتاد كنس أرضية الغرفة بعناية شديدة، رتب سريره، التقط حزمة المفاتيح الكثيرة من على طاولته الصغيرة ومضى قافلا وراءه باب الكوخ قاصدا المدينة.
لم يكن الطريق إلى المدينة يأخذ أكثر من خمس وأربعين دقيقة لكنه استغرق ساعتين لأنه مر على العجوزين الذين يديران ملبنة صغيرة في بداية الطريق الرئيسي إلى المدينة وساعدهما في فتح الملبنة واقتنى بعض الأشياء الطازجة ومضى مجددا إلى المدينة.
الساعة السابعة والنصف كانا يقفان عند باب المقهى يحمل كل منهما أغراضا خفيفة وقلبا مثقلا، تبادلا حديثا قصيرا عن الجو البارد واحتمالية أن تمطر اليوم قبل أن يقطع حديثهما صوت ركن سيارة سوداء على بعد شبر واحد من أن تصدمهما، ترجل منها رجل صغير الحجم بملامح طفولية وتقدم نحوهما وهو يبتسم ابتسامة جانبية مر بجانبهما من دون أن ينطق بكلمة واحدة أخرج المفاتيح من جيبه وطفق يفتح البوابة الحديدية للحديقة المحيطة بالبوابة الخلفية للمقهى وهو يقول:
- هل رأيتماني في حلمكما لتأتياني في هذه الساعة؟
- تعني كابوسهما..
جاء صوت ضاحك من خلفهم جميعا، التفتوا لمصدر الصوت الذي كان يتقدم منهم وهو يشدد رباط الشال الصوفي على عنقه بيد ويحشر يده الأخرى في جيب معطفه الفضفاض، واصل كلامه وهو يصافح الرجال الثلاثة:
- أي حلم هذا الذي يجعل المرء يخرج إلى الشوارع في مثل هذا الصقيع؟ وحدها الكوابيس تفعل ذلك.
رد صاحب المقهى:
- هل هو الكابوس نفسه الذي أحضرك هنا في هذا الصقيع؟
- ربما..
وتجاوز الرجال الثلاثة يفتح لهم طريقا إلى حديقة المقهى، وقبل أن يتجاوز البوابة الحديدية التفت إليهم قائلا:
- لدي شيء لكم سيجعل كل كوابيسكم هراء!
نظر الرجال الثلاثة إلى بعضهم البعض وعلامات الإستفهام تتأرجح على ملامحهم بينما يدلفون إلى المقهى ويعلقون معاطفهم على المشجب، أخذوا مقاعدهم حول طاولة دائرية وعقد كل منهم ذراعيه ينتظر الخبر القادم كالقنبلة.
جعل صاحب المعطف الفضفاض يتأمل نظراتهم المعلقة به للحظة ثم أطلق تنهيدة طويلة وشابك كفيه على الطاولة أمامهم :
- لقد أرسلت رسائل للجميع أخبرتهم أن الأمر جاد وأنه يجب أن نجتمع في أقرب فرصة ممكنة لكن يبدو أنه لم يقرأ الرسالة سواكم.
- أي رسالة؟
قالها الرجال الثلاثة في صوت واحد وهم يبحلقون ببعضهم البعض.
- الرسالة التي أرسلتها ليلة البارحة.
- لم يصلني شيء - ولا أنا
قال الرجلان، بينما أخرج صاحب المقهى هاتفه ليتأكد من رسالته وقال:
- أنا أيضا لم يصلني شيئا.
-ماذا؟
صرخ الرجل ذو المعطف الفضفاض وهو يخرج هاتفه ليتأكد هو الآخر أنه أرسل الرسالة فعلا لكن الهاتف كان قد فرغ شحنه بالفعل، رفع نظره إليهم وقال وملامح فارغة تغمر وجهه:
- لقد فرغ شحنه! أقسم أنني كتبت الرسالة ونسختها في بريد الجميع ، هل انطفئ الهاتف قبل أن ترسل الرسالة؟ لقد كنت ثملا على أية حال.
ضحك الرجال الثلاثة بينما يضرب صاحب المقهى كتف صاحبه بقبضة يده بقوة وهو يقول :
- وأنا أقول في نفسي كيف أصبح تشانيول جديا هكذا، أنظر أنت حتى في لحظة كهذه تضيعنا وتضيع نفسك، لقد غسلت يدي من خبرك العظيم هذا قبل أن تقوله حتى.. اجمعوا بعضكم البعض وغادروا مقهاي حالا لست متفرغا لتفاهاتكم، هيا.. هيا.
- لماذا نطرد جميعا بينما هي غلطته وحده؟
تساءل بيكهيون وهو يضع ساقا على ساق علامة الاستقرار.
- فعلا فليخرج تشانيول وحده لماذا تحشرنا في حماقاته هكذا؟
أكمل جونميون وهو يقلد صديقه بوضع ساق على ساق ويضرب كفه بكف بيكهيون.
دفع تشانيول الطاولة نحو بيكهيون وجونميون قائلا:
- أي نوع من الأصدقاء أنتم؟
- هيا هيا غادروا حالا، ماكان يجب أن أدخلكم من الأساس.
قال مينسوك وهو يدفع كرسيه لينهض من مكانه قاصدا مطبخ المقهى قبل أن يسحبه تشانيول من ذراعه ويعيده إلى وضعية جلوسه الأولى:
- يارفاق، خذوني بجدية لمرة واحدة في حياتكم، حسنا لقد كنت ثملا وربما لم أرسل الرسالة لذلك السبب فعلا على الأقل اسألوني لماذا كنت ثملا؟
رد جونميون:
- هل تركتك مجددا؟
أجاب مينسوك ضاحكا:
- إنها تتركه بمعدل ثلاث مرات يوميا أين الجديد في هذا؟
ضحك تشانيول وهو يضرب كفا بكف:
- أنتم حقا قد تكونون كل شيء إلا أن تكونوا أصدقاء.
قاطع بيكهيون متعتهم قائلا:
- أرسل القنبلة يارجل دعها تنفجر مرة واحدة وكفانا مقدمات.
- فعلا..
رد جونميون ومينسوك معا.
اعتدل تشانيول في جلسته وأخرج من جيب معطفه ظرفا صغيرا وأخرج منه مجموعة من الصور ونشرها على الطاولة أمامهم، جعل الرجال الثلاثة يتفحصون الصور واحدة واحدة وعلى ملامحهم أمارات الاستغراب، ثم قال بيكهيون:
- من هذا؟
- فتى المدخنة.
أجاب تشانيول وهو يبتلع ريقه بصعوبة كبيرة وقد امتعضت ملامحه..
تابع جونميون تفحص الصور بيديه بينما يقول:
- ماذا تعني بفتى المد..
بهت فجأة وذهبت منه بقية الجملة، وبهت الجميع حوله ماعدا تشانيول لإدراكهم ما أدركه، توتر الجو فجأة، سحب جونميون كرسيه وخطى خطوات متثاقلة إلى الجدار الزجاجي المطل على الحديقة مسح رأسه بيمناه مرار كأنه يمسح عرقا وهميا ثم عاد إلى مقعده وجعل يتصفح الصور مجددا، بينما اكتفى بيكهيون ومينسوك بالصمت الثقيل الملفوف بالدهشة..
- هل كان حيا كل هذه السنوات؟
قطع مينسوك الصمت المخيم على الجو وهو يوجه نظراته وسؤاله لتشانيول الذي أجابه بتلقائية:
- نعم..
وقف بيكهيون وركل الطاولة بقدمه وهو يردد:
- أمر لا يصدق .. أمر لا يصدق!
- لكنهم قالوا لنا أنه مات في الحريق.
تساءل جونميون وهو يوجه نظره إلى تشانيول هو الآخر، ابتسم تشانيول وهو يجيبه:
- لقد كانت الجثث مشوهة يومها واختلطت الأجساد ولم يكن ثمة من يسأل أو يهتم أو يجري اختبارات DNA بطبيعة الحال.. لذا اعتبروا كل المفقودين موتى، وربما لو نجحنا في الفرار يومها لاعتبرونا موتى مثلهم أيضا.
- إذن.. فقد نجح في الفرار.
أكمل مينسوك بتلقائية.
صرخ جونميون وهو يمسك رأسه بكلتا يديه:
- لا.. مستحيل لقد طالته النار أمام عيني، ما كنت لأترك يده أبدا لولا لهيب النار الذي ترامى إلى وجهي ولفحني فأوقعته وسمعت صوت ارتطامه أسفل المدخنة، أنا متأكد أنه لم يستطع الخروج سليما من الحريق وإن سلم من الحريق لن يسلم من تلك الوقعة أبدا، على الأقل لن يستطيع الفرار بساق مكسورة أو ذراع.
- كيف تفسر كونه على قيد الحياة إذن؟
تساءل بيكهيون الذي سحب كرسيه مجددا وعاد للجلوس..
- لا أدري.. لا أدري!
- أين هو الآن؟ كيف ومن أوصل لك هذه الصور؟
وجه مينسوك سؤاله لتشانيول، السؤال الذي جعل الجميع يركز نظره على تشانيول مترقبا الإجابة :
- الصور أتت لبريد الشقة من مجهول، الشقة مسجلة باسمك هيونغ، لذلك أعتقد أنك المقصود بهذا البريد.
قال تشانيول موجها كلامه لجونميون الذي هم بقول شيءما قبل أن يقاطعه رنين الهاتف الذي سجل رقما مخفيا، نظر الرجال إلى بعضهم البعض نظرات ريبة وهم يتابعون حديث جونميون على الهاتف:
- ألو..
- صباح الخير
صوت أنثوي بلثغة خفيفة يخترق سماعة الهاتف وصولا إلى مجلس الرجال الأربعة الذين يصغون للمهاتفة بصمت:
- صباح الخير..
رد جونميون :
- من معي؟
- أظن أن الصور قد وصلتك بالفعل..
بهت الجميع وجعلوا يتبادلون النظرات الصامتة:
- أخبريني أولا من أنت؟ أجاب جونميون.
- لا تقلق.. لم أبحث عنكم كل هذا الوقت لأبقى متخفية، سنلتقي قريبا جدا، أنا خارج البلاد حاليا لذلك آثرت أن تسبقني الصور إليكم، واضح أنها وصلتكم، اجمع رفاقك مهما كلف الأمر سنكون هناك في غضون شهر واحد على الأكثر، إنه يريد أن يلتقيكم جميعا.
وأغلقت الخط..

Penser !بانسيهحيث تعيش القصص. اكتشف الآن