مضت الأيام و تيسر علينا الحال بما يدره عمل أمي من مال و صرت أملك دفاتر خاصة لقصصي و أشعاري التي أنظمها
جرت الأشهر على نهج سريع و وجدت نفسي أمام أبواب الإجازة الصيفية ستكون ثلاث أشهر طوال من الكد و العمل هذا ما عزمت عليه مسبقا فما كنت لأكتف الأيدي مشاهدة والدتي تفقد صحتها ببطء أمامي و هذا ما كان..يوم الإثنين و مع إنسلال أول خيط نور من غمد الظلمة شددت و أمي الرحال نحو البلدة حيث تعمل ،و ذلك كي أجد مصدر رزق طيب لكلتينا عسى أن أخفف من حمل والدتي
بلغنا البلدة مع إستنارة السماء هبّ النسيم عليلا و أكاد أجزم أني سمعت أحد العصافير ينشد أغنية رقيقة ما ،رفعت هذه الأجواء -التي بدت لي حماسية- من معنوياتي فهببت لتوديع أمي و الإنصراف جريا في وجهتي التي حددتها منذ الاشهر التي خلت _
المكتبة!
لم يستغرقني الأمر طويلا
فها أنا أقتحم المكتبة محدثة ضجة طفيفة إضافة لصوت الأجراس العالي الذي دبّ في الأرجاء لافتا أنظار جميع مرتادي المكان إليّ
إعتذرت بخفة و أسرعت الخطى إلى الجهة الغربية من المكتبة ،هي ليست كبيرة جدا لكنها ليست صغيرة بل و تضم أجمل الكتب التي قرأتها في حياتي و يجدر بكم معرفة هذا!، وجدت غايتي قادمة نحوي بنوع من العجلة لا بدّ أن الضجة التي أثرتها جدبته كيف لا و هو أمين المكتبة نظر إلي و هو يرفع نظراته فوق أنفه المكوّر و يقول بعجل :
"أهلا رحمة ..ثم أردف و هو يتجاوزني .. وداعا رحمة "
"مهلا سيد أنس أن.."
" سأتفقد مصدر الإزعاج ذاك و أع.." توقف جسده الممتلئ الذي يكسيه سروال بيجي و قميص أبيض تعتليه كنزة ملونة - لا يهم -
إستدار نحوي و هو يضيق عينيه ثم يتجه نحوي
"هل صادف و كنت من سبب ذلك الضجيج ؟"
رسمت ابتسامتي الصفراء مدعية البراءة و أنا أومأ ببطء و أقول :"ربما.."
عدل نظراته ثم تحرك بعملية متجها نحو مكتبه ثم أشار لي بإتباعه:
"رحمة يا رحمة كم مرة علي تذكيرك| إلزمي الهدوء في المكتبة| "ثم نظر إلي بطرف عينه
دلكت جبهتي بقلة حيلة و بادرت معتذرة:" أنا آسفة حقا _ إنه الحماس الزائد"
همهم بتفهم
"إنه يوم عملك الأول هنا "
أومأت بحماس ضامة يدي إلى صدري
" هل أنتي مستعدة " قال و هو يغمزني و تعتلي وجهه إبتسامة أظهرت تلك الغمازة بخده الأيمن
"أجل!" هتفت بحماس لفت الأنظار ناحيتي .. مجددا
" سيجعلني صخبك أعيد التفكير في توظيفك"
"آسفة!"
قلت بابتسامة عريضة و أنا أحك مؤخرة رأسي
- يا إلهي أنا وسط الكتب و رائحة الورق طوال اليوم هل هذا حلم أم حقيقة؟
مر اليوم على نحو سلس، و لم أنتبه السماء التي بدأت تسدل سوادها ،أمضيت هذا الأخير بين مسح الرفوف الخشبية و ترتيب الكتب و المطبوعات و غيرها إضافة لمساعدة القرّاء على إيجاد ضالتهم في بحر الكتب هذا
شكرني السيد أنس على عملي الجاد و أعطاني مبلغا محترما ترددت في رفضه نظرا للظروف التي نمر بها لكن ذلك لا ينفي أن هذا اول يوم و كذا من المفترض أن يدفع لي نهاية الأسبوع
لكنه أصر عليّ أن أقبلها و أعتبرها كهدية من سيد عمل لموظفته
كان السيد أنس يعلم وقع هذه الكلمات على أذني فبمجرد قوله أني موظفة و أني أملك عملا الآن تفجر داخلي حماسا و أخذت منه المبلغ ثم غادرت المكان بسرعة متجهة نحو محل الزهور حيث ،تعمل أمي، و وجدتها بالفعل واقفة عند الباب تنظر في اتجاه قدومي و المحل خلفها مغلق، أرجو أنها لم تنتظرني طويلا
استقبلتها بعناق الدببة الطفولي خاصتي و الذي لطالما أقحمت أمي فيه ثم أمسكت يدها و مشينا مغادرين السوق و أنا أحكي لها كيف أمضيت يومي الأول ، عرجنا على متجر المواد الغذائية و أقتنيت الكثير من كل شيئ مع العديد من المشروبات كنت سعيدة جدا و أنا أشعر بكوني أتحمل المسؤولية و رغم تردد أمي إلا أن باقي المال الذي اودعته في يديها جعلها تبتسم لي بلطف و تأخذ الأكياس البلاستيكية عني كي نواصل مسيرنا نحو بيتنا العريق بسلام و كنت أفكر أننا لن نعاني من الجوع بعد الآن بل و أننا لن تضطر لصرف المال للأسبوعين المقبلين لأننا نمتلك ما نحتاج إليه و زيادة
دخلنا إلى المنزل مع إنسحاب الشمس المتلألئة سامحة للقمر الأخاذ بتوسط سمائها بنرجسية
اتجهت أمي نحو المطبخ بينما انسحبت انا الى مكتبي الصغير لانتشل مذكرتي الجميلة و قلم النعامة الوردي لأسجل على صفحاتها أحداث هذا اليوم المميز
"رحمة يا ابنتي العشاء جاهز!"
أغلقت الدفتر و جريت نحو أمي لأجدها تحتل المقعد الوثير بجانب الأريكة بدل كراسي طاولة المطبخ هذا يعني أننا سنخوذ حديثا ما
جلست بهدء على الأريكة و نقلت نظري من أطباق المعكرونة بالجبن الشهية و المسيلة للعاب نحو أمي التي أكتست وجهها معالم الجدية
"أهناك شيئ ..أمي؟"
زفرت أمي و قالت:" أنا لست مرتاحة لعملك أنت لا زلت صغيرة جدآ على العمل و هذا يزعجني"
"أمي !لقد تحدثنا في هذا مسبقا و أنا أعمل في مكتبوة مكان مغلق و هادئ و أعمالي تقتصر على تنظيف و ترتيب لا تتعبني أبدا بل و اني أقرأ ما أشاء من القصص حين تفرغي ثم اني لست صغيرة يا أمًاه! أنا في التاسعة "
"بلغتها منذ شهر!"
" لا يهم!"
تنهدت أمي بقلة حيلة لأقترب منها و أعانقها مربتة على ظهرها :"سيكون كل شيئ على ما يرام أمي فالله معنا و الله لا يسيع عبدا اذا دعاه و نحن ندعو الله دوما فلا تخافي و لا تحزني"
إلتفت يدا أمي حولي لتضمني متمتمة :"بارك الله فيك يا ابنتي"
"و الآن هل أستطيع إلتهام هذه المعكرونة اللذيذة لقد سال لعابي من زكاء رائحتها"
قهقهت أمي "أجل تفضلي و تذوقي ابداع أمك!"
و هكذا أمضنا أمسية لحنها ضحكاتنا التي ملأت أرجاء بيتنا الصغير..
~~~~~