الحُبّ والضياّعُ ، شهوةٌ للبؤَساءِ .
بهذاَ ، انساَنيَتُنا مُزدَوجةٌ، مُكوَّنةٌ مِن سريّنِ مُتكاَفئينِ ، يرصُدانِ بَعضهُماَ ، يَحتكاَنِ دوُن أنْ يُغيّرهُماَ ذلكَ أوْ قليلاً جِداً . أجساَدُناَ التيّ تَختَلِطُ بَبعضِها فيِ بَعضِ الوقتِ ، لاَ يُمكِنُ أنْ تَختَلِطَ رُغمَ كلِّ شيءٍ .
بِحسبِ نَظريّةِ الأمزِجةِ القديْمةِ ، وهيَ لاَشَكَّ خاَطِئةٌ ، لكِنّها شاعريةٌ بشكلٍ جميّلٍ جداً . فارِعُ الطوُلِ ، ورشيّقٌ ، تزحفُ السّمرةُ الخفيّفةُ علىَ بشرتِه الرّيفيّةِ البروُنزيّةٍ ، نشيّطٌ ، رأسهُ الأبيّ مرفوُع بشموُخٍ ، وعلىَ شفتيهِ ابتسامةُ شابٍ مُسيطِرٍ ، ابتسامةُ رجُل حامٍ مُتحمّسِ .
كاَنَ عازِف بيانوُ فيّ مَركزٍ تجاَريّ ضَخمٍ ، تَحتَ السّلمِ الكَهربائيّ فيّ الطاَبق الارضيّ . وقَد فُرشَت سجاّدةٌ حمراَءٌ ، ونُصبَ فَوقُها بيانوُ ابيضْ . وكاَن يعزِف ستَّ ساعاتٍ فيّ اليومِ ، وهوَ يرتديّ البذلةَ الرّسميةَ ، يعزفُ شوُبانْ ، كوُل بوُرتِر ، وموُسيقىَ منْ هذاَ النّوعِ عَنْ ظَهرِ قلبٍ .
وكاَنَ لديهِ لاَفتةٌ خُطَّت بشكلٍ أنيقٍ ، وقَد كُتبَ عليهاَ : سيعوُد عازِفُنا بعدَ قليلٍ ، يضَعُها فوقَ البياَنوُ حيّنماَ يذهبُ الىَ الحماَمِ ويُعاوِدُ العَزفَ .
كُنت أُراقِبهُ كلَّ يومٍ ، ولوقتٍ طويّل جداً .
خلفَ ابتساَماتيّ البلهاَءِ ، ونبضاَتِ قلبيّ المُتقطّعْ . أُمسِك سيّجارَةً وأنتَظِرهُ أنْ ينتَهيّ عَزفَهُ ، وينظَرَ اليّ ، حتىَ لَوْ كاَن بالخَطئِ . ويُبادلنيّ نفسَ شعور الُحبِ فيّ لحظَةٍ ماَ . فيّ لَحظةٍ ماَ مِن حياتيّ الفانيَةِ . ، التيّ كرَّستُها وَبُكل اخلاَصٍ لحبّهِ المُتفانيّ هذاَ .
أضحَكُ علىَ نَفسيّ ، وأناَ أُحاوِل تذَكُر ملامِح وَجههِ الضّبابيّةِ ، التيّ تُصبحُ جُزءاً مِن صلاتيّ اليوميّةِ . ملاَمحُ وجهٍ استَسلَمَ لهاَ تعبُ الزّمنِ . وسيّمٌ وطاَئشٌ ، هادئٌ وصاَخِبٌ . برُبطةِ عُنقٍ شدّيدةِ السوَادِ . ويَضعُ عِطراً سوُقياً رخيصاً قليّلُ الاستِعمالِ . لاَ أشمُه فيّ اَحدٍ سواَهُ .
مزيّجٌ مِنَ راَئِحةِ النّعناَع المُتمرّد والكحوُل الشّرِس ، جميّلٌ وَعذبٌ . راَئِحتهُ كالحُلم الأبيضِ الرّقيِق الطّفوليّ الذيّ يأخُذني فيّ نوبةٍ مِن السّعادةِ الجنوُنيّةِ كلّماَ اشتَممتُه . أقفُ مِنْ كراسيّ الانتظاَرِ .
مِن بينِ الحضوُرِ ، تحتَ السّلم الكَهربائيِّ ، كانَ يعزِفُ مقطوُعَةً ، أدنوُمِنهُ وبخِفّةٍ ، كاَنتْ تلكَ أشبَه بلحظةِ تحَرُر ليّ ، أرميّ أكياَس التَسوّقِ ، وأرقُص أماَم الجميّع ، بشجاَعةٍ وقلبٍ باردٍ .
أرمُقه بنظراتٍ جافّةٍ ، وأواصِل الرّقصَ بمُفرديّ .
صراَحةً أحببتُ نفسيّ فيّ تلكَ اللحظَةِ ، لأنّها كاَنت أشبَه بلَحظةِ تحَرُرِ ليّ ، تحرَرٌ مِن التراَجيّدياَ المَنزليّةِ والمَدرسيّةِ التيّ كُنت أعيشُها لسنواتٍ. سنوُنٌ مِن التراَجيدياَ الحقيّقيةِ والآَن اناَ أختَصِرُها برقصةٍ ، لامعنىَ لهاَ ، كَم كاَن الأمرُ مُضحكاً ومُؤلماً فيّ آنٍ واحِدٍ . أنْ تَكتَشفَ فيّ النهايةِ أنَ الألمَ ، ذلكَ الألمُ كلّهُ كاَن بلاَ جدوىَ .
وأنَك عانيتَ كحيوانٍ ، بلاَ جدوىَ ، لَم يكُن عادلاً أوْ غيرَ عادلٍ ، لَمْ يكُن سيئاً أوْ حسناً . كاَن فقَط بلاَ جدوىَ . هذاَ كلّ مايُمكنهُ قولهُ لنفسِكَ فيّ النهايةِ . ألمٌ لا جدوىَ مِنهُ ، أمرٌ يقوُدكَ الىَ الجنوُنِ ، اذاَ ماَ تفَكرتَ ، ولكِن مِن الأفضَل ألاَ تُفكّرَ فيّ ذلكَ ، كلّ ماَ بوُسعكَ فعلهُ أنْ تتجاَهلهُ ، تتجاَهلهُ تماماً .
يقفُ العاَزفُ ، وقَد سرَح شَعرهُ الىَ الخلفِ كعاَشقٍ ، وارتدىَ قميصاً جديداً . فيّ مُخيّلتيِ يُزيّنُه الأريجُ والسّلوىَ . والصّنوبَرُ الذيّ نَقليِه ، وحموُضةُ الكباَدِ الّضعيفةُ ، والحبوُب الثاّبتةُ والكراميّلُ . لكِن هذاَ كلّه كاَن ضِمن تلطيّف الجوِ فيّ عقليِ الباطنيّ . لأشعُر بالراَحةِ والروُمانسيّةِ وأناَ أنظُر اليهِ .
يُصفّقُ بيديهِ ويقوُلُ مُشيراً اليَ بابهاَمِه : " لِنَرقُص معاً ."
ضَحكتُ فيّ نفسيّ ، وأناَ أُحاَوِل مُجاراَة حركاَتِه بخِفّةٍ . كاَنت سنتيّ الأَخيّرةُ فيّ الثانويّةِ . وهوَ يُمسِكُ بخصريّ جيداً كماَ يفعلُ الراَقصوُنَ . بداَ الأمرُ جميلاً الىَ حدٍ كبيّرٍ .
ساَحرٌ للغاَيةِ ، أُحيطُ يديّ بخِصرهِ ايضاً ، وأعيُننا تتبادَلُ نظراتٍ ، يالَ جماَلِهماَ . البُنيّتانِ الواَسِعتانِ . خجَلتُ مِنْ نفسيّ . ومِن نظراتِنا الىَ بعضٍ ، وهوَ لَم يَكتَرِثْ . وضَع وجههُ فوقَ وجهيّ . يبحثُ عَن شفتاَيَ ، فيجُدهماَ ، ثُم يُقبلُهماَ . مِن بينِ خداَي الشاَحباَنِ . يسحبُهماَ فيّ قُبلاتٍ سينيماَئيةٍ ثابتةٍ وجامِدةٍ .
كتِلكَ التيّ يُمكنُ رُؤيتهاَ علىَ شاشةِ السيّنماَ كلَ يومِ أحدٍ ، والتيّ يُمكن اعتباَرُها بمثابةِ دعايةٍ مُخصصةٍ للاصقٍ سريعٍ ، يسموُنهاَ زلاَجاَتْ ، لكِن الزّلاجاَت الوحيّدة التيّ أعرِفُهاَ هيَ تلكَ التيّ أضعُها بقدميّ ، في المَنزِل ، انهاَ عتيقةٌ ذاَت زخاَرفٍ اسكتلنديّةٍ ، وراَئِحتُها سيّئةٌ .
علىَ أيةِ حالٍ تفوُح مِن العازِف الغَجريّ رائحةُ الصابوُنِ والعطوُرِ ، لكِنْ ايضاً فيهْ شيءٌ آخرٌ ، نباتيّ ، حلوٌ مُخَللٌ ، عطرُ حلوىَ لذيذةٍ خارِجةٍ مٍن مطبَخ صانعِ الحلوىَ ، مِن تتويجاتٍ آتيةٍ منَ مراعيّ واسعةٍ . لَم أجِد للعطر اسماً ، لكِنّه يخطِفُنيّ . وأشمُه سعيداً فوقَ عُنقهِ .وشفتيهِ اللذينِ أعدتُ تقبيّلهُماَ هذِه المَرّةَ اناَ .
أنت تقرأ
Feeling || One Shot
Romanceبهذاَ ، انساَنيَتُنا مُزدَوجةٌ، مُكوَّنةٌ مِن سريّنِ مُتكاَفئينِ ، يرصُدانِ بَعضهُماَ ، يَحتكاَنِ دوُن أنْ يُغيّرهُماَ ذلكَ أوْ قليلاً جِداً . أجساَدُناَ التيّ تَختَلِطُ بَبعضِها فيِ بَعضِ الوقتِ ، لاَ يُمكِنُ أنْ تَختَلِطَ رُغمَ كلِّ شيءٍ . - لاَيُ...