استيقظتُ صباحاً على صوت معدتي و هي تنهش نفسها مِنْ شدة الجوع، فَلَمْ اضع شيئاً في فمي منذ يومين، حاولتُ الخروج مِنْ غرفتي بحذر لكي لا ادهس على اقدام اخوتي الخمسة الذين يشاركونني الغرفة، ذاهباً الى المطبخ لكي أجد اختي الكبيرة تنظر الى كتبها القديمة التي ترطبت بدموعها بعد أنْ اجبرها والدي على ترك المدرسة، قاطعتُ دموعها سائلاً عن لقمة املأ بها فراغ معدتي، فمسحت دموعها قائلةً: "لنذهب الى العمة جارتنا، عسى أنْ تكرمنا بعض الطعام".
اخذتني اختي الى بيت العمة اللطيفة، قرعنا الباب عدة مرات فخرجت الينا العمة اللطيفة و تلك الابتسامة التي لا تفارقها تعلو وجهها. سألتها اختي بنبرة حزينة يكسوها الخجل: "هل لديكِ ما نستطيع اكلهُ يا عمة؟". تبدلت الابتسامة بنضرة حيرة و تردد و ساد الصمت لعدة ثواني لكي يكسره صوت بطني الخاوية، تنهدت العمة و قالت : "حسناً يا عزيزتي، انتظراني للحظة". لَم تتأخر العمة قبل أن تأتي و في يدها كيس من الخبز و علبة جبن مفتوح و لكن لم يؤخذ منه شيء، اعتقد انها كانت تنوي ان تأكله قبل مجيئنا و لكنها اعطتنا ما تملك. فقلتُ في نفسي: " يا لها من امرأة كريمة رغم بساطتها". تشكرنا منها بعدما اخذنا الطعام و عدنا به الى بيتنا الصغير الشبيه ببيت الرعب لبنائه القديم و جدرانه المتصدعة المتشققة و كأنه سيدفننا تحته في يوم ما. قامت اختي بعمل شطيرة صغيرة مما حصلناه لكل منا و جلسنا نأكل في صمت. قاطعتُ سكوتنا بسؤالي: "لماذا تملك جارتنا طعاماً على عكسنا رغم اننا نعيش في نفس العشوائيات". لكي ارى اختي قد جمدت في مكانها و كأن سؤالي قد صعقها في عقلها، انزلت اللقمة من فمها و حنت رأسها، ثم اعادت النضر الي و اجابتني: "لأن راتب زوجها الشهيد يكفيها و ابنتها لكي يعيشا منه، اما نحن لا مال معنا". فعدت أسألها مستغرباً: "الم يكن والدي يعمل و يأتي لنا بالمال". فأجابتني بصوت مثقل بالعبرة: "لأن صاحب السيارة التي كان والدنا يعمل بها قد استردها، و الان ابي بلا عمل" رغم أن عمري لا يتجاوز الحادية عشر، لكني استطعت ان افهم جزأً من كلام اختي، لذلك اكتفيتُ بما قالته لي و اكملت طعامي. و من دون أن اشعر، وجدتُ أن الشطيرة قد انتهت بينما جوعي لازال قائماً في داخلي، و لكني اضطررت للاكتفاء بما حصلت عليه، فلا يزال ورائي خمس اخوةٍ ببطونٍ خاوية.
جلستُ امام بيتنا منتظراً لمن يؤنسني مِن اصدقائي كي انسى جوعي، و لكن اعتقد انهم نسوا العابنا بعد وجدوا لعبة جديدة لا استطيع المشاركة بها. و بعد انتظارٍ ليس بالطويل اتى بعض اصدقائي و هم يتحدثون عن اسلحة و شخصيات تعود في الغالب الى لعبتهم الجديدة تلك. قفزت باتجاههم متلهفاً و سألتهم: "أتريدون اللعب معي؟". فابتسم لي احدهم بابتسامة تعلوها الحقارة و الشيطنة و قال: "إمتلكْ هاتفاً اولاً ثم تعال للَّعبِ معنا". و اكملوا طريقهم. كنت استطيع الاحساس بكلماته تخترق قلبي و تخزقه إرباً اكثر من مقدرتي على سماعها. كرهتُ نفسي، فقدتُ ثقتي التي احاولُ جاهداً ان استجمعها في كل مرة ارى نقصاً بي عن باقي اصدقائي. لكني لن اذهب هذه المرّة الى ابي شاكياً طالباً هذه المرة، لأني على يقين أنه سيعدني وعداً زائفاً مثل كل مرة آتي اليه لكي اطلب منه أن يبتاع لي شيئاً. و اثناء صراعي مع نفسي، سمعت صوتاً يناديني، إنه ابي، استطيع ان اميز صوته المختنق من كثرة التدخين و المتقطع بنوبات السعال لمرضٍ في قلبهِ. ذهبتُ اليه و ملامح الحزن بادية على وجهي، و لكن لم يبدو عليه الاكتراث لما انا فيه. وجدته متكئاً بظهره على الحائط مواجهاً لتلفاز، اقرب أن يكون صندوق خردة اكثر من كونه تلفازاً. لبّيت ندائهُ فأجلسني بجانبهِ و قال: "بُني، لقد كبرتَ الآن و اصبحت اهلا للمسؤولية، و انتَ ترى حالي الآن لا اقدر على الحراك كثيراً كالسابق، لذلك اريدك أن تحمل المسؤولية بدلاً عني...". انتبهت الى كلامه، كان اشبه بكلام رجال الدولة الذين يظهرون على التلفاز عندما يقعون في مأزق اقتصادي. قاطعت حديثه سائلاً: "و لكن ابي، ماذا تعني بأن احمل المسؤولية بدلاً عنك؟" فأجابني و لكن بنبرة كانت اكثر حدة: "اعني ان تذهب و تبحث عن عمل لكي نعيش منه". فأجبته بصوت عالي ممزوج بالحزن و الغضب معاً: "و لكني لا اريد ان ابحث عن عمل، هذا واجبك انت لا واجبي، لماذا اذا انجبتنا إن كنت لا تستطيع إعالتنا، ليس عادلاً ما تفعله بنا". فصرخ بي ابي و شرارة الغضب قد اشتعلت في عينيه بوضوح قائلاً: "لا ترفع صوتك يا عديم التربية، اذهب الان و ابحث عن عمل، و لا تعد للبيت دونه و إلا جعلتكَ تبات الليلة خارجاً في الشارع، و إياك و التفكير بالعودة الى المدرسة، فلتنسى امرها من الآن فصاعداً".
اعتقد أن دموع اليوم لن تنضب.
سِرتُ خارج منطقتنا العشوائية لأبحث عن عمل كما أمرني والدي، و في طريقي شرد ذهني و هو يفكر بالسؤال الذي سألته لوالدي عن غير قصد "لماذا إذا انجبتنا إن كنتَ لا تستطيع إعالتنا". فخطرت ببالي مقولةٌ سمعتها منه بالصدفة قال بها: "يأتي الطفل و يأتي رزقه معه". إذا لماذا لم يأتي رزقي معي؟ اعتقد أن هذه حجة واهية لإشباع نزوة في داخله، و لكن ما ذنبي انا ان كنت سأشقى عناء الفقر و التعب بسبب نزوة دامت لعدة دقائق، اعتقد ان ابي لم يكن يحتاج الى طلب العمل او الطعام، كان يحتاج لطلب وعي اسري و بضع اقراص مانع للحمل.
النهاية.