وتحررت من قيودي، الفصل الثالث:
لم يَخْفَ عليَّ ارتباكه الذي منعه من الرد بشكل مباشر، أخذ يتلعثم كثيرًا قبل أن يقول:
-هذه كانت مكالمة عمل طارئة.
قبل شهرين ظننتُ أنني ممثلة لا تمتلك أي موهبة في التمثيل، لكن اليوم رأيتُ الأقل مني موهبة...بل موهبته تكاد تكون منعدمة، كذبه كان واضحًا لدرجة جعلتني لا أستطيع التغافل عنها، فقلتُ وقد بدأ الشك يتزايد داخل قلبي:
-وهل مكالمة العمل ستجعلك متوترًا هكذا؟
صحيح أنني تغيرتُ بعض الشيء، ولم أعد (نعمة) المرأة التي تهاب زوجها أكثر من أي شيء آخر، ولكن...حينما رأيتُ ملامح (سيد) تتحول إلى الغضب، برغم أنني متأكدة أنه كاذب، تراجعتُ بخوف، ونويتُ السكوت، لكنه قال بنبرة حادة:
-(نعمة)، أنا لا أكذب، وكفي عن هذا العبث.
داريتُ خوفي من حدته حينما ابتسمتُ بسخرية وقلت:
-وأنا لم أقل أنك كاذب بالمناسبة.
تركني وخرج من الغرفة بأكملها، بينما ظللتُ أضرب أخماس لأسداس وأفكر...هل (سيد) خائن؟!
***
ومر أسبوع آخر...تحولت فيه حياتي من حياة مستقرة إلى حياة معقدة كثيرًا يملؤها الشك.
كانت داخلي رغبة جامحة في تفتيش هاتف (سيد) وأعرف كل ما يخفيه عني، لكني لم أكن أبدًا مثل أولئك النسوة الاتي يحللن التجسس على هواتف أزواجهن بحجة الاطمئنان!
حزنتُ كثيرًا....لقد شعرتُ بالاكتفاء طوال الفترة الماضية، كنتُ سعيدة جدًا...كنتُ أرى أن زوجي هو الزوج المثالي رغم ما فيه من العيوب، وفجأة...بدأ كل ذلك يتلاشى وكأنه لم يكن، بل كان دروب من خيال!
أتساءل...لماذا لا يخلص أحباؤنا لنا كما نخلص لهم؟ لماذا دائمًا هناك حاجز كبير بين أي متحابين؟!
حياتي أصبحت مملة كثيرًا... أفتقد دفئ العائلة من حولي، أهاتف أمي يوميًا علّي أجد في صوتها ذلك الدفئ الذي أرجوه، لكنها كما هي...لم تتغير أبدًا، وكل مكالمة تؤكد لي أنني حِمل كبير عليها ولا تريد أن آتي إليها مرة أخرى!
حتى حياتي أنا و (سيد) لا أعرف ما الذي سيحدث في حياتنا.
ترى إن كان أبي ما زال على قيد الحياة..هل كان سيسمح بما سيحدث الآن؟
أظن نعم، فهو كان مثل (سيد) في الأساس، لكم رأيته يضرب أمي وأنا صغيرة، وبعدها أمي تعود كسابق عهدها ولا تتخذ أي موقف تجاهه، لذا كان طبيعي جدًا أن تراني أنا و(يسرا) معتوهتان ليس إلا!
المشكلة أن (سيد) أصبح غريبًا لأقصى درجة، وشكي فيه بدأ يتفاقم كثيرًا، خاصة بعدما رأيته وقد وضع رمزًا سريًا لهاتفهه، رغم أنني لم أشرع أبدًا في مس الهاتف أو تفتيشه!
أكاد أفقد صوابي من فرط الشك.
وكعادة كل يوم من أيام الدراسة....كنتُ أجلس وسط الأبناء وأشاركهم مذاكرة دروسهم، وبين الحين والآخر كنتُ أرد على رسائل الاستفسار عن أسعار تفصيل الملابس ولا أستطع إنهاء تفصيل آخر الطلبات؛ لأن ماكينة الخياطة حدث فيها عطل كبير أثر على آداءها بشكل ملحوظ، و(سيد) تأخر كثيرًا اليوم، ولا أدري ما السبب، فعليًا قد نويتُ مواجهته بكل شيء، وإن لم أجد مبررًا مناسب؛ سأقلب الدنيا رأسًا على عقب!
لم تمر ساعة إلا وقد رأيته يدخل البيت وهو يمسك بصندوق هدايا، كان كبير الحجم جدًا، لم أستطع تخمين ما الذي من الممكن أن يكون داخل هذا الصندوق.
اقترب مني وابتسامة صافية تزين ثغره، وقال:
-افتحي هذا الصندوق فضلًا.
نظرتُ إليه ببلاهة وأنا أأخذ منه الصندوق، كان ثقيلًا بدرجة كبيرة، فوضعته على الأرض برفق، ثم انحنيتُ أفتحه وأحل الرباط الذي كان يتوسطه، فظهرت لي ماكينة خياطة حديثة جدًا...شهقتُ من أثر المفاجأة، بينما ترك أبنائي مذاكرتهم وأخذوا يصفقون بفرح.
أخذت ابتسامته تتسع وهو يقول:
-نظرًا لتعطل ماكينتك، هذه واحدة أخرى أحدث كثيرًا من السابقة.
صمت هنيهة، ثم أردف:
-منذ أسبوع...وحينما رأيتيني أتحدث في الهاتف كنتُ أوصي عليها، لم أكن أخونك كما ظننتِ يا (نعمة).
ضربتُ بأفكاري السيئة كلها عرض الحائط، وارتميتُ داخل أحضانه وأخذت أشكره بامتنان حقيقيّ.
برغم عيوب (سيد) التي لا حصر لها...إلا أنني لا أستطيع أبدأ أن أنكر أنني سعيدة جدًا لاهتمامه بي، قد شكوْتُ إليه سابقًا من تعطل الماكينة، لكنه لم يظهر أي اهتمام حينها، وظننتُ أنه قد نسيَ الأمر بالفعل.
هذه الليلة...نمتُ نومًا هادئًا لم أنعم بمثله لمدة أسبوع.
***
-"انظري يا (نعمة) ما فعله (سيد) شيئ جميل للغاية، لكن برأيي ليس بإمكانك الوثوق به بسرعة، لا تعلمين ربما يخفي عليكِ شيئًا كبيرًا يداريه بتصرفاته تلك."
هذه كانت رسالة (يسرا) لي التي أرسلتها عبر تطبيق "الواتس آب" فقرأتها وأنا مشتتة التفكير...أيعقل؟
هل من الممكن أن يكون كلام (يسرا) صائبًا؟! مستحيل...
لقد بدأتُ أشعر بتحسن معاملته بالفعل، لن أضع كلمات (يسرا) بعين الاعتبار، فلربما تقيس على تجربتها السابقة.
ولكن..رغمًا عني كلماتها تركت داخلي أثرًا كبيرًا، هل أسأل (سيد)؟!
ما هذا الغباء!؟ تفكير ساذج للغاية، الحل الأمثل هو أن أنسى الأمر برمته، لم أرَ شيئًا سيئًا من (سيد) إلى الآن.
تركتُ الهاتف من يدي، ودلفتُ إلى الغرفة، ثم صببتُ أربع أكواب من عصير البرتقال لزوجي والأبناء، وحينما عدتُ من المطبخ رأيتُ (سيد) يمسك هاتفي ويصيح في وجهي بغضب:
-ألم أقل لكِ كفي عن محادثة تلك المعتوهة؟!!
يتبع
أنت تقرأ
وتحررت من قيودي... للكاتبة مريم عمرو
Romanceجميع الحقوق محفوظة للكاتبة ممنوع النقل والاقتباس ما هذه الغرفة؟...لا أرى شيئًا! هل هي مظلمة؟ أم أنا كفيفة؟ أدركتُ أنني مبصرة حينما رأيتُ خطًا مستقيمًا للضوء يبدد ظلام الغرفة قليلًا. أخذت أتحسس الأشياء من حولي بحذر، أريد أن أعرف أين أنا..وما الفا...