أتوقع أنكم قد انتبهتم للحلقة المفقودة في حكايتي، "والدي". أقول والدي و ليس أبي، لأنه في نظري ليس أكثر من سبب مجيئي إلى هذه الدنيا، ليس أكثر من شخص قدم لي بضع كروموسومات لأستطيع أن أحيا. وما إن علم بما أهداه الله من فرصة لتكفير ذنوبه حتى فر هاربا. أليس مجنونا ؟ هل هناك من يتخلى عن حسنات مجانية، هل هناك من يرفض هدية من الله و بركة منه ؟ كم أنت غريبة أيتها الدنيا، رغم دنوك هذا فالناس يتهافتون للحصول عليك، يتخلون عن الجنة لأجل ما هو أدنى منها. مجانين، أغبياء، أم مجرد مجموعة من الأشخاص أعمى الطمع بصيرتهم ؟ والدي تخلى بكامل إرادته عن إحدى أسمى العلاقات الدنيوية "الأبوة"، لم يكتب لي أن رأيته من قبل. أحيانا أقول في نفسي ياليتني استطعت أن أراه لعلي أقول له ما في نفسي فيتراجع عن موقفه، لعلي إن أمسكت يده و أحس بتعلقي به سينسى أمر الرحيل و يعلق بي هو الآخر، لكن سرعان ما أتراجع عن التفكير في كل هذا بمجرد تخيل رحيله رغم قيامي بكل هذا، فرحيله رغم علمه بتمسكي به أمر وارد كما أن مواجهة الوضع كان ليكون له وقع نفسي عميق علي و على أمي. إذن، لا بأس، فعلى أي حال حب أمي يغمرني و يغنيني عن تسول الحب من أي شخص آخر.
بالحديث عن المشاعر، علي أن أخبركم عن حفصه. و ماذا في ذلك، فأنا مراهق و من الطبيعي أن أعجب بفتاة في مثل هذا السن. كانت تسكن حفصه مع والديها و أختها في نفس الحي، لكن أول مرة لمحتها كانت منذ خمس سنوات، كانت تلك آخر مرة أخرج فيها من البيت، لعل الله كان يعلم بذلك فأنعم علي برؤية ابتسامتها المنيرة. كانت تلعب رفقة صديقاتها بالحبل، كانت إحداهن تخاطبها : "حفصه، اقفزي أعلى، أعلى.."، هكذا إذا، اسمها حفصه. و بينما كانت أمي تشتري بعض الأغراض من البقالة المجاورة، كنت أراقب حفصه و هي تلعب و تمرح، فغمرتني بهجة و كأني كنت ألعب معها. لم تنتبه لوجودي، و عدت أدراجي إلى البيت بابتسامة عريضة و أنا أحفظ في مخيلتي وجهها البشوش. وفي الأيام الموالية، كنت شديد الحرص على مراقبة زقاقنا بدقة، خشية أن تمر دون أن أنتبه إلى مرورها. و بالفعل، بعد ثلاثة أيام، رأيت حفصه و هي تخترق زقاقنا فناديتها بكل ما أملكه من قوة : "ح حفصاااا...حف حفصااا.. هنا هنا، فوق فوق..." و لحسن الحظ انتبهت لندائي و لمحتني. لوحت لها بيدي، و لوحت لي هي الأخرى ثم ذهبت قبل أن أنطق بكلمة. و مع اختفائها ، ظننت أن أملي في رؤيتها قد تبخر. لكن يالجمال حظي ! لم يستغرق الأمر سوى بضع دقائق حتى عادت. كنت في شرفتي كالعادة أقرأ كتابي عندما سمعت صوتا من الخارج : "ههييي، أنت هناك، أنا هنا، أجل أنت، هل أنت أصم ؟ لايمكنك أن تكون كذلك و إلا كيف علمت باسمي ؟". أكاد لاأصدق أنها عادت.
-مرحبا حفصه، كيف حالك ؟
-أنا بخير ، ماذا عنك ؟ لحظة، لم يسبق لي أن قابلتك، كيف عرفت اسمي ؟
-إنها قصة طويلة، لماذا ذهبت عندما ناديتك ؟
-كان علي ان أتبضع لأمي، لذا كنت في عجلة من أمري لكني عدت الآن، لكن كيف تعرفني ؟
-لما لا تصعدي كي أخبرك ؟
-لا أستطيع، أوصتني أمي ألا أدخل بيت الغرباء!
-اسمي ايكوت، عمري 14 سنة، أسكن هنا و لا أذهب إلى المدرسة، هاانت الآن تعرفينني، لم أعد غريبا.
-غريب أمرك، هل هناك من في سنك و لايذهبون الى المدرسة ؟
-انتظري لحظة.
وضعت صورتي في ظرف و رميتها إلى الخارج. أمسكتها، تفقدتها باهتمام و قالت: "حسنا، سأخبر أمي ثم أعود أليك".
و كانت هذه بداية أجمل صداقة حصلت عليها، لعلها الوحيدة. منذ حديثنا هذا تعددت لقاءاتنا، و صارت تتردد إلى بيتنا كلما سنحت لها الفرصة. كنا نلعب سويا، تخبرني عن المدرسة و أجواءها، عن رفقاءها و أهلها، كانت تحدثني عن كل شيء بتفاصيله المملة، لكن دون ملل أو كلل. كنت أحب صحبتها، فالوقت يمر بسرعة برفقتها، لكن ما إن تذهب حتى أبدأ بحساب الوقت إلى اللقاء الذي يليه. كنت أشعر معها بأنني سوي. لم أرى قط شفقة في عيونها. شعرة بالسعادة أخيرا تطرق باب حياتي بعد سنوات طوال. و قد استمرينا على هذا الحال لأشهر عدة، و لم يسبق لي أن رأيت أمي سعيدة كما كانت برؤيتها لي ألعب و أتحدث مع حفصه. لكن، بينما كانت السعادة تستعد و تستأذن الدخول حياتي، كان القدر لها بالمرصاد، ليذكرني أنه لا وجود للسعادة في الدنيا، و من يطمع في الحصول عليها يرجع خائبا. ففي أحد الأيام، جاءت حفصه برفقة أمها إلى بيتنا، بدا لي أن صديقتي الشغوفة قد حدثت أمها عني و دغدت فضولها. قضينا أمسية باردة، لم تلقى أمي مقابل عبارات الترحيب و الألفة سوى عبارات جافة و موجزة. علمت حينها أن شيئا ما على وشك الحدوث. لقد كانت آخر مرة أرى فيها ابتسامة حفصه المشرقة. حاولت جاهدا إقناع أمي أن تستفسر الأمر، لكنها رفضت، لذلك كنت أغضب و أخاصمها ظنا مني أنها لم تعد ترغب بقدوم حفصه. و هنا تعددت تأويلات هذا الحدث. و على ما يبدو، اختارت والدة حفصه أن تفارق بيني و بين ابنتها، ظنا منها أني لا أشكل سوى مصدر قلق، تشويش، عطف، مضيعة للوقت، أو أبعد من ذلك.
كفى !ساعدوني ! فأنا حقا أرغب بإدراك حقيقة الأمر، لماذا كل هذا النفور من أصحاب الكراسي ؟ ما الفرق بيني و بينك غير هذا الكرسي اللعين ؟ إن كان هذا الكرسي يجردني من اجتماعيتي، فإن أفكاركم المبتذلة جردتكم من إنسانيتكم.
**************************************
أنت تقرأ
أيكوت Aykoute
Fiksi Remajaوحيد فوق الكرسي، أسترجع الذكريات وأغازل النجوم، لم أنحني للحياة و لم أعلن يأسي، قدري الانعزال فقررت إلى شرفتي اللجوء... تعالوا واكتشفوا قصتي وكونوا من بين الشخوص...