أول موقف

48.5K 188 67
                                    

التمسك ، عادة ما نسمع أن هناك من خسر حبيبا أو قريبا أو فرصا لا تعوض في الحياة فقط لأنه تمسك بما يراه صوابا ، هل التمسك المؤدي للخسارة عيب ؟ أو بالأحرى هل هو خسارة في حد ذاته ؟ لا أبدا ، فكلما كان الإنسان متأكدا من صحة مبادئه و أفكاره و حارب العالم كله من أجلها كان النجاح مآل كفاحه و تضحياته بالغالي و النفيس فالإهتمام بآراء البشر و طرق تفكيرهم و اعتبارها مرجعا سيؤدي بك للدمار ... فأنشتاين لو اهتم بآراء من حوله لما ركعت عقول علماء العالم كله احتراما لأفكاره و إبداعاته...
بين جمال و نظافة الطرق و وسط زقزقة العصافير في صباح يوم ربيعي جميل بشمس دافئة تطل من فوق مقام الشهيد لتدغدغ أنظار كل نشيط يتوجه لعمله في ذلك الوقت وشط شوارع العاصمة الجزائرية " الجزائر " ، كان بين المنطلقين لأعمالهم انثى تبدو في نهاية العشرينيات بقوام ممشوق و جسد رياضي و نظرات تبدو حادة نوعا ما ، استقلت سيارتها متوجهة إلى عملها في ذلك الصباح الباكر
ولجت تلك الفتاة لمقر عملها المتمثل في عيادة طبية ، لم تلقي التحية على أي شخص مكتفية بصعود السلالم وصولا لمكتبها المتواجد أعلى البناية في صمت رهيب لا يكسره سوى صوت ارتطام حذائها ذو الكعب العالي بالأرض وسط سكوت تام من كل العاملين و كأن ذلك الحذاء يدوس على أفواههم متسببا في غلقها
بمجرد دخولها إلى مكتبها بدأت تتفقد أوراق و سجلات العيادة و ترتب الأوضاع لبداية أسبوع جديد من العمل ، عمل يشمل تسيير اوضاع العيادة و تقديم دروس لساعات معينة في كلية الطب لمصلحة الطلبة و فجأة دق باب مكتبها ، سمحت للطارق بالدخول ، دخل شاب في ريعان شبابه مطأطأ الرأس يبدو عليه الرعب و الذعر لتقف من مكانها ضاربة مكتبها بيديها ضربة قوية جعلت الشاب ينتفض بقوة ، قائلة :" العيادة ليست ملكك، أنت مجرد عامل هنا و بما أنك لا تلتزم بالقوانين فأنت مطرود " ، لتنزل دموع الشاب تلقائيا منطلقا في اعتذاراته مؤكدا لها أنه لم يقترف أي خطأ لتدخل خلفه مباشرة إخدى العاملات محاولة الدفاع عنه لكن الرد جائها حازما صارما :" من سمح لك بالدخول بهذا الشكل دون طلب الإذن يا قليلة الأدب " ، صمتت العاملة و لم تجرؤ على النطق بأي كلمة ، لتنزل عليها الجملة الموالية بردا و سلاما رفقة ذلك الشاب حيث كان مفادها :" إذهبا لعملكما و كفا عن الأخطاء التافهة " ، شكرها الإثنان و غادرا مسرعين فرحين لعملها رغم الكسر المتواجد في قلوبهما نتيجة الذل الذي تعرضا له ...
عالم تافه ، يسمحون بأن يكسروا و يذلوا لأجل بعض المال ! لما لا يريدون أن يجعلوا لأنفسهم قيمة عالية و هيبة كبيرة ليحظوا باحترام الكل ؟ الإحترام لا يكون أبدا حسب الوظيفة أو الوضع الاجتماعي بل الشخص في حد ذاته هو من يفرضه على من حوله كيف ما كان وضعه الإجتماعي، فعلا مجتمع تافه ! هذا هو ما دار و يدور دائما في فكر فرح مستغربة كيف يتحمل الناس كل هذا الذل !
انتهى أول يوم في الأسبوع كغيره من الأيام بدون أي جديد يذكر ، عادت القوية المتعجرفة إلى بيتها الذي لم تعد تطيق العيش فيه فلا موضوع يدور فيه و لا صوت يعلو فوق صوت والديها اللذين يحثانها دائما على الزواج ، فرغم كثرة الفرص التي أتيحت لها إلا أنها دائما ما ترفض متحججة بسبب أو بآخر ، ليتحول موضوع الزواج لكابوس بالنسبة لها لكن على عكس قريناتها اللواتي يتمنين فقط حضور من يتقدم لخطبتهن و لن يضيعن أي فرصة ، الكابوس و المخاوف تزداد بالنسبة لوالديها يوما بعد يوم خشية أن يغمضا أبصارهما و يغيبا عن صغيرتهما المدللة و الوحيدة لديهما و هما غير مطمأنين على إكمالها شطر دينها...
نامت الآنسة المتسلطة و استيقظت لتزين نفسها و تخرج في أبهى حلة لها و كأنها تنافس اشعة الشمس في سطوعها و ضوء القمر في جماله العفوي الطبيعي دون أي إضافات كثيرات تحدثها على وجهها، انطلقت صوب كلية لتقدم بعض الدروس للطلبة ،و ما إن دخلت إلى قاعة المحاضرات حتى دب الصمت في المكان فحتى الطلبة يعرفون مدى صرامتها و عدم تسامحها ...
بدأت بشرح الدرس مباشرة دون مقدمات ، كانت متمكنة جدا في عملها و توصل المعلومات للطلبة كما ينبغي و فجأة حاولت إحدى الطالبات السخرية منها علنا ، ليكون ردها هادئا جدا حيث فتحت الباب و أمرتها بالخروج غير مكترثة لمحاولاتها للتبرير لتيأس تلك الطالبة فعلا و تغادر غير مدركة لما سيحصل لها ، واصلت شرح الدرس للبقية و ما إن انتهت حتى رفعت تقريرا مفصلا لمدير الكلية حول ما حصل...
في اليوم الموالي دخلت الطالبة لكليتها غير مدركة لما ينتظرها و بينما هي في وسط إحدى المحاضرات دخل عليهم أحد العاملين بإدارة الكلية طالبا منها مرافقته ، لتفعل و الرعب قد بدأ يسلك طريقه إلى مختلف مناطق جسدها ، رعب ازداد عند دخولها لمكتب مدير الجامعة الذي أعلمها بأنها مقبلة على مجلس تأديبي قد تكون نتيجته فصلها من الجامعة لسنتين بالإجماع ، قرار كاد أن يجعل تلك الطالبة في عداد الموتى فعلا فهي تحس أن نبضات قلبها تزداد بسرعة و أن ضغطها الدموي قد ارتفع ، عادت إلى بيتها و هي لا تعلم ما الذي عليها فعله إلى أن اقترحت عليها إحدى صديقاتها التوجه للأستاذة و الإعتذار منها بشكل رسمي في مقر عملها الثاني البعيد عن الكلية و وصفت لها مقر العيادة ، لتوافق الطالبة دون أي تردد فلا حل أمامها سوى هذا لإنقاذ مسارها الدراسي و مستقبلها الذي بنته و الذي تراه يهدم أمام عينيها ...
عادت فرح إلى عيادتها الخاصة منطلقة في عملها فيها دون أي كلل أو ملل فمن المعروف عنها أنها إنسانة نشيطة جدا في عملها ، و بينما هي منشغلة و منهمكة في الملفات و الأوراق الطبية إذ بإحدى العاملات تدخل عليها بدون إذن ، استعدت لتوجه لها وابلا من الإنتقادات و الكلام القاسي لكن تلك العاملة قاطعتها بشجاعة غريبة نوعا ما لكن إن عرف السبب بطل العجب ، كان السبب قدوم لجنة وزارية لتفقد العيادة و ما تحتوي عليه و سيرورة العمل بداخلها ، نهضت فرح بسرعة من مكانها لتستقبل اللجنة القادمة دون سابق إنذار...
ما إن وصلت إليهم رحبت بهم ترحيبا لائقا على عكس عادتها مع بقية الناس لكن تصرفاتها لم تتغير و بقيت بنفس القوة و الثبات و الشموخ ، انطلقت اللجنة في عملها و هي تراقبهم و تتمنى أن لا تكون هناك تحفظات قد تضر بعيادتها و مستقبلها ، انتهت اللجنة و بالفعل وجهت لها عدة تحفظات أبرزها الحديث عن قلة النظافة نوعا ما و أنها لا تتناسب و الشروط الوزارية المحددة ، حاولت تبرير موقفها لكن رئيس اللجنة قاطعها قائلا :

عليك بالعمل على تحسين بعض الظروف هنا و هي الظروف التي سنذكرها لك الآن

لكن أظن أن عيادتي تحتوي على كل الضروريات ولا داعي لأي تحسين أو تغيير

نحن هم من نحدد إن كانت تحتوي على كل الضروريات فعلا أم أن بها نقائص و لست أنت

لكن يا أستاذ أنا أكلمك من وجهة نظري فقط

وجهة نظرك في هاته الحالة غير مهمة ، لديك أسبوع لتحسين ما سنحدده لك و إلا فإن عيادتك ستصبح عبارة عن ماضي ، هل هذا مفهوم يا دكتورة؟

مفهوم ...

قالتها بتهكم و انكسار لم تعتد عليه خصوصا وسط موظفيها لتغادر اللجنة و تغادر معها هي الأخرى لكن إلى مكتبها و عيناها لا تفارقان الأرض غير قادرة على رفعهما فهي تتخيل الآن نظرات عمالها التي تملؤها السعادة نظرا للموقف المحرج الذي تعرضت له منذ لحظات ، و بينما هي تهم بصعود السلالم مسرعة إذ بالطالبة تدخل العيادة ، حظها تعيس فعلا ! لا أظن أنه أقضل وقت للحضور إلى هنا لتكلم الدكتورة و تعتذر منها ...

يا ترى ما الذي سيحصل ؟ و هل ستقبل اعتذاراتها ؟ ماذا عن تلك اللجنة ؟ هل ستجد أن كل النقائص قد صححت عند عودتها ليكون هذا بمثابة انتصار و لو مؤقت للدكتورة فرح و عيادتها ؟ أم أن كبريائها لن يسمح لها بتنفيذ ما أمروها به ؟
سنعرف كل هذا لكن في الأجزاء القادمة

#الماستر_الغامض

#كبرياء_خاضعة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن