يعيش ادموند في مدينة "ستون" التي لم يكن لها ملك يحكمها فكانت هذه المدينة في فوضى عارمه ، وانتشر بها الفقر واعداد اللاجئين فيها يزدادُ يوماً بعد يوم ، أما عن النظام الذي يسود هذه المدينة فهو سلطةُ القوي على الضعيف ، فامتلأت شوارعها بقطاع الطرق وهبّت بها العصابات المتسلطه وكانت اشهرُ عصابةٍ خضعت لها معظم نواحي ستون ، هيَ عصابة جيش الظلام التي يترأسها فتاه تدعى رينو ، "عُرفت بالبطش والفتك " فحَكَمَتْ هذه العصابة معظم شواطئ ستون ولم يكفها ذلك فسعت الى حُكمِ المدينةِ بالكامل .
وفي ذلك اليوم ، صعدت رينو على منصة ستون لتلقي خطابها المتسَلّط قائلةً : اليوم حكمتُ شواطئ ستون وغداً سأحكمُ ستون بأكملها ، فمن اراد العيش فعليه ان يخضعَ لأوامرنا ومن فكر بالعصيان فهو هالكٌ لامحال .
كان ادموند وصديقهُ المقرب(أكسل) من ضمن المستمعين لخطابها المتعجرف .
فراود إكسل الفضول فقال : اودُ ان ارى الى ايّ حدٍ سيأخذها غرورها !!
اجابهُ ادموند : سيأخذها الى الهلاك .
اكسل : كيف تهلك وهي تملك عصابةً لا يجرؤُ احدٌ على الوقوف امامها ، بل نحنُ من سيهلك في اللحظه التي ستحكم كامل ستون فيها وسنصبحُ عبيداً لها .
ادموند : ياصديقي المغفل ان استطاعت تأمين البحر فلن تستطيع تأمين البر .
اكسل : وإن استطاعت تأمين البر والبحر ؟!
ادموند : لن تسلم من سكانها .
ضحِكَ إكسل ساخراً منه ونظر اليه وقال مستصغراً له :
ومن انت حتى تقول هذا !؟
ادموند : أنا من سيوقفها .
أكسل : انك فتىً مضحك حقاً ، واستمر بالضحك ...
ادبر ادموند ولم يرُدّ على تفاهاته وفي كل خطوةٍ تقودهُ الى منزله كان يفكّرُ بخطةٍ يقضي بها على جيش الظلام ، فلم يكُن لأدموند عصابةٌ يجابههم بها ، يملك فقط العدد المعقول من الاصدقاء الجبناء للأسف .
وصل الى المنزل واستلقى على سريره والافكار تشغله حتى خلدَ الى نومٍ عميق .
وفي صباح اليوم التالي نهض ادموند كالعادة مفعم بالنشاط والحيوية وقام بإعداد وجبة الافطار له لتمد جسده بالطاقة الكافية للعمل في ورشته المتواضعه ، وبعد انتهاءه اتصل على إكسل ليتبادلان اطراف الحديث سوياً حتى يصل الى الورشه كالعادة ، فارتدى معطفهُ الأسود وخرج من المنزل ليلتقي به ويمضون في طريقهم ، ولكن هذه المرة قاطعَ حديثهم صوتُ رجلٌ مسن يطلب النجدة ..
أدموند : هل تسمع ما أسمعه يا إكسل!؟
إكسل : نعم نداء مسنٌ يطلب النجدة بالتأكيد هاجمهُ جيش الظلام .
ادموند : تعال لنتتبع صوته وننقذه من ايديهم الظالمة.
إكسل : ماذا هل جُنِنت؟؟ ألم تسمع رينو على منصة ستون بالأمس ؟! آسف ياصديقي لااريد الموت فلا زالت هناكَ حياةٌ تنتظرني .
رد عليه ادموند وهو في شدة الغضب : تباً للحياةِ التي تعيشها أيها الجبان .
فذهب ادموند وحده لمساعدَتِه أما إكسل فَفَرّ هارباً ..
تَتَبع ادموند الصوت حتى وصل إليه وبالفعل وجد ذاك المسن الذي اشتعل رأسُه شيباً مُلقى على الأرض تترتجف جميع اطراف جسده خوفاً وعجزاً من ذلك المتمرد الذي وقف على رأسه وكما قال إكسل كان من احد افراد عصابة (جيش الظلام) .. لم يتحمل ادموند هذا المنظر المؤلم فتقدم نحو هذا المتمرد سريعاً ولكمه حتى أسقطَهُ أرضاً والتفت نحو المُسن ليساعده بالنهوض مستنِداً به على كتفه وفي هذه الثواني المعدودة حاوطهُ جميع افراد العصابة المُسلحين ينتظرون الإشارةَ من زعيمتهم حتى يُقضوا عليه .
وقفت رينو امام هذا المشهد لبضع دقائق ولم تقل كلمةً واحده بينما ينتظرون عصابتها الاشارةَ منها وهم في غيض ، ولكنها دُهشتْ من جراءته فهو أول شاب يجرؤ على هذه الفعله ، فضنت انه أَحَد افراد العصابات المنافسة لها ويريد ان يفرض قيادته امام الجميع ليهنها ويهين عصابتها ..
فلم يكن موقفها الا أن تقدمت نحوه لترى على من يسند ظهره بفعلته هذه ..
رينو : منهو زعيمك الذي بث بداخلك الجرأه حتى تعتدي على ماهوَ ملكٌ لي؟!.
ادموند : ان هذا المسن ليس ملكاً لك حتى تعامله عصابتك بهذه الطريقه ، وأما عن اعتدائي لهذا المتمرد فهو يستحق ما أصابه .
رينو : ولكنك لم تجب بعد على سؤالي من هو زعيمك؟؟
ضحك ادموند منها ونظر اليها بشفقة وهو يقول :
هل حقاً تظنين انني سأحتاج الى زعيمٍ اختبئ خلفه حتى أقف امامك ، من تظنين نفسك !!
جن جنون جميع من سمع إجابته من افراد العصابه وقاموا بتصويب اسلحتهم نحوه يريدون قتله إلاّ ان رينو امرتهم بخفض الاسلحه مما دعى رجال عصابتها تتعالى اصواتهم بغضب قائلين : دعينا نقضي عليه ونتخلص منه فقد بدأ يلهث على موته .
لم تسمع لهم واقتربت منه لتقول له بتعجرف : إنظر لمن حولك فجميعهم يختبئ خلفي ولست انا من يختبئ خلفهم ، وكما تعلم اشارةٌ بسيطه مني تلاقي بها حتفك .
ادموند : هذا العدد من الاشخاص خلفك لايجعلك زعيمه كما تدّعين .
رينو : وماذا يجعلني اذاً ؟؟
ادموند : مسكينه يُشفقُ عليها لأن الزعامة الحقيقية لن تجعلكِ انتي وعصابتك تحتاجون لأرهاب هذا المُسن .
نظرت رينو الى هذا المسن العاجز الذي وقف خلف ادموند يحتمي به فرأت كم انه على حق فصمتت وافسحت له الطريق ، لم يستطع احداً معارضتها ولكن نظرات الذهول بدأت تظهر فيما بينهم .. فلأول مرة تسامح زعيمتهم
شخص اعتدى على فردٍ من عصابتها .
بقى ادموند مع هذا المسن حتى اوصله الى منزله ، وحين وقف المسن امام باب بيته التفت الى ادموند وفي عينيه الامتنان لفعلته وقال له بصوت راجف : لن انسى فعلتك هذه ايها الشهم وسأرُدُ جميلك مادمت حياً بإذن الله ، فوعدني ان احتجت لأي شيء ان لاتترد فالطلب مني ..
ابتسم له ادموند بعدما قرأ المسن عيناه التي بدأت وكأنها تقول ُ: ماذا سيستطيع تقديمه هذا المسن العاجز ؟
فنظر له وقال : يابُنيّ اني اعلم مايجول في داخلك إنك مندهش كيف سيساعدك هذا المسن الفقير الذي لم يستطع تقديم المساعده لنفسه حتى ، ولاكنني لااقصد هذا النوع من المساعده.
ادموند : ماذا تقصد اذاً ؟؟
المُسن : انني اكبر منك سناً وعشت من الحياةِ مايكفي لتعليمكَ مواجهة اي مشاكل تمر عليك وستعلمُك الحياة ما اقصده وستتأتي إلي .
شكرهُ ادموند واستأذن للأنصراف إلا ان المسن أصر عليه بأن يتناول الغداء معه فخجل ادموند من رفض طلبه المصر ووافق ...
خلع نعليه ودخل الى منزله الذي يكاد يتسع لشخصين ليجلس امام طاولةً صغيره وضع عليها المسن غداءه المتواضع ، وبدأ المسن يتحدث عن حياته وعن شبابه الذي عاشه في جزيرةٍ هادئه بعيداً عن هذه الفوضى مما دفع ادموند للفضول نحو مجيئه الى هذه المدينةِ البائسه وترك النعيم خلفه!!
فسأله ولاكن المسن ظل صامتاً ولم يجبه فأحس ادموند بثقل سؤاله واعتذر .
انهى ادموند غداءه فشكر المسن على استضافته له وانصرف .
اليوم التالي ..
الساعة : الثامنة صباحاً . المكان : ورشة العمل .
فور دخول ادموند لبدء العمل في ورشته صرخ {تشارد}
_________________________
نبذه تعريفيه عن تشارد :"اخوه الذي لم تلده امه، ومساعده بالعمل" .
_________________________
صرخ بوجهه : أين كنت بالأمس لقد قلقتُ عليك .
فروى ادموند حكايته له فجن جنون تشارد وبدأ يوبخه خوفاً عليه من بطشها وخُبثها ، وفي هذه الاثناء وإذ بهم يلمحونها قادمةٌ نحوهم ، فتخبط تشارد مسرعاً يبحثُ عن الةٍ حاده وهو يقول : أرأيت لقد اتت لتقتلك ابحث معي عن سلاحٍ ندافع عن انفسنا به .
اجابه ادموند ضاحكاً : هَدّء من روعك لو اتت لتسفك الدماء لما اتت وحدها .
حاول تشارد ان لايظهر ارتباكه وهو يقول: نعم إنك على حق.
لم يراود ادموند ادنى فكرةٍ عن سبب مجيئها فنتظرها حتى دخلت وسألها سؤال العامل لزبونه المعتاد :
تفضلي كيف استطيع مساعدتك ؟
لتجيبَ بِكلّ غرور : انا من سيقدم لك المساعده .
ادموند : لااعتقد انني طلبتها ..
رينو : اسمع اولاً .
ادموند : قلت لكِ انني لااحتاج الى مساعده ، مالذي تودين الوصول إليه؟؟
رينو : حسناً سأخبرك ولاكن هل سأظل واقفه؟
ادموند : اعتذر تفضلي بالجلوس ، ماذا تشربين ؟؟
رينو : شاي .
ادموند : قدم لنا كوبان من الشاي ياتشارد لو سمحت .
.. والآن لنرى سبب مجيء هذه الخبيثه ..
التي تحاول ان تتصنع في كلامها الود وحُسن النية إلاّ ان سيماهم في وجوههم ، فخُبثُ النوايا أوضحُ من الشمس في عينها المظلمةِ بالشر ...
بدأت تتبسم وتنظرُ إلي محاولةً جذبي إليها وبدأت تخبرني الان عن سبب مجيئها :
بعد حادثةِ أمس وتأكدي انك لست تبعاً لأي عصابه علمتُ المقدار الهائل الذي تملكه من الشجاعة ، وهذا ما اعجبني واشغل تفكيري وتوصل بي إلى ان اعرض عليك العمل معي ، فإن وافقت كنت لي اليد اليمنى واخرجتك من هذه القمامة التي تعملُ فيها ، فما قولك ؟.
استمع اليها ادموند بإنصات حتى انهت ثرثرتها ، وضرب اجابته بوجهها : أولاً الشجعان ليس لهم عمل مع الجبناء ، ثانياً لاأتشرفُ حقاً العمل معك ولو وضعتيني بمنصبكِ ، وثالثاً لا ألومُكِ على تسمية ورشتي بقمامة فأنتي لاتعلمين ماهوَ العمل الشريف ، لاتعرفين سوى هذا المسمى بسبب حياتك التي تعيشينها ، وإن كنتي انهيتي حديثك الفارغ اخرجي ولاتشغليني عن العمل ..
كانت رينو متوقعةً ردة فعله فلن يسمح له كبريائه بالعمل مع امرأةٍ وقف ضدها بالامس ، ولكنها استمرت بتمثيل الزعيمة الطيبه التي تتمنى له الخير وهي تقول : لك الحرية ولكن فكر في عرضي جيداً ، واعتذر ان جرحتُك بما قلته عن هذا المكان ولكن صدقني شابٌ مثلك يستحق الأفضل .
ادموند : لن احتاج الى التفكير حتى .
رينو : فكر فإن عرضي لك يتمناه الكثير .
ادموند : لكني لستُ من هاؤلاء الكثر .
رينو : سنرى .
خرجت بعدما اخذت جوابها ولكنها لم تفقد الامل وستظل تسعى جاهدةً حتى تضمه لعصابتها ، فلم تتوقف عن التفكير لوهلة وظلت ترسمُ خططاً تجبره على الموافقة ... فالواقع توصلت الى فكرة ولكن من شدة خطورتها ترددت في تنفيذها ، فقد بحثت هذه الافعى السامة عن حياة ادموند بالكامل لتعلم نقاط ضعفه فلم تجد ، فتوصلت الى تخريب حياته ،.. فـ ادموند يسعى لِتأمين لقمة عيشه من خلال العمل في ورشته ، فهي الباب الوحيدة الذي يسترزق به والتي تمكنه من سداد آجار منزله وشراء احتياجاته ، ففكرت بسلبها من بين يديه ، هذه فكرتها الوحيده وحلها الاخير ..
ولكن كيف ستنفذ خطتها وتسلبها ؟ ..
أمرت بإجتماعٍ لجميع أفراد العصابة في مجلس الباخرة المخصص
للأجتماعات في تمام الساعة التاسعةِ مساءً .
الساعةُ الآن 8:50 لم يتبقى سوى عشرُ دقائق على حضور الزعيمة رينو ، وجوه الجميع وضح عليها الاستفهام وتعالى همسهم من اسألة الفضول حولَ مالدى زعيمتهم ، فضلوا يترقبونها على أحر من الجمر .
وفي تمامَ التاسعة دخلت رينو وطلبت منهم الصمت حتى تستطيع التحدث ولم تنهي جملتها حتى عمّ الصمت فجميعهم كان يترقب عمّا ستقوله ..
رينو :
اعلم كمية الفضول التي تغمركم نحوَى سبب الإجتماع ، لذلك سأختصرُ لكم ، جمعتكُم هذه الليلة لأمرٍ فكرتُ به مراراً وتكراراً ، فكما تعلمون هدفُنا واحد وقد حاربنا الصعاب وتخطينا الكثير من المتاعب في سبيلِ تحقيقه ، فناصرتكم وناصرتموني وكلُّ فردِ منا ممتنٌ للآخر ، ولكن لضمان تحقيق
حكم مدينة ستون بالكامل علينا من زيادة قوتنا .
قاطعها فردٌ من العصابة : لماذا نحتاج الى زيادة قوتنا ؟؟ اننا نملك من القوة ماجعلنا نحكم معظم شواطئ هذه المدينة ، وقد شاع اسمُنا في نواحيها ..
فردَّ آخر عليه : اخرس ايها الأبله مالفائده من شيوع الأسم مالم نحكمها بالكامل!! ..أكملي أيتها الزعيمة وأخبرينا كيف نزيد من قوتنا ؟.
رينو : هذه الليلة مهمةٌ بالنسبةِ لنا جميعاً ، فسنُنَفذ عملية تضم لنا فرداً جديد ذكائهُ سيساعدنا على تحقيق هدفنا بشكلٍ اسرع .
سألوها افراد العصابة في دهشة : ماهذه العملية ومن هذا الشخص أيتها الزعيمة؟.
لم تخبرهم أن هذا الفرد هو ادموند فتفادت سؤالهم وبدأت تشرحُ خطتها : سنقوم بحرق ورشة عمل فمن يرى منكم انه نداً لهذه العملية فليتقدم .
عند قولها ورشة عمل علِمَ ذاك الشاب الذي قام ادموند بلكمه انه هو الفرد الجديد فلم يتمالك نفسه وانفجر عليها متناسياً بطشها : إنكِ تقصدين أدموند اليس كذلك !! ... ألم يكفي انكِ لم تعاقبيه على مافعله بي والآن تودين ضمَّه إلينا ؟؟ أنا لاأقبل ذلك وسوف احرق ورشته فوق رأسه .
لم تكن رينو بفتاة تخوض نقاشً مع معارضيها فأخرجت سلاحها وأطلقت على رأسه حتى وقعَ أرضاً ، وأمرت بإلقاه جثته فالبحر .
نظرت بعدها الى جميع المستمعين وهي تكرر : هل من معارضٍ آخر ؟!.
لم يُودْ أيٍ منهم ان ينتهي مصيره مثلَ هذا المسكين فلم يعارضها أحدٌ بعده .
أخذ هذه المهمة ثلاث شُبان تعتمد عليهم رينو دائماً في تنفيذ خططها ... الساعة الآن هي الثانيةَ عشر ليلاً .
توزع هؤلاء الشبان حول الورشة يحملون عبوات البنزين الضخمة ، فأختبأ الأول خلف بعضٍ من خردوات الورشه عند الباب الأمامي ، وانتظر الثاني عند الباب الخلفي ، أما الثالث فبتعدَ قليلاً ليراقب الوضع ويحذرهم في حال قدومِ أحدٍ ما .. بعد نصفِ ساعة من الإنتظار خرج ادموند مرهق من يومه الشاق ، فما إن خرج وابتعد حتى قاموا بسكب عبوات البنزين حول الورشة واشعلوا فيها .
وبسرعة البرق اشتعلت النيران لتضيء ظلام الليل الدامس ، وما إن همُّو للهروب حتى سمعوا صرخات شخصٍ بالداخل ، لقد كان تشارد محبوساً بداخل النيران التي خنقت انفاسه وبدأ صوته يتلاشى رويداً رويدا ، لم يكن من ضمن مخطط رينو ايذاء أحد وحرصت على تحذيرهم من ذلك ، ولكنهم لم يأخذوا تحذيرها على محمل الجد وهذا ماحصل ... توقفوا لينظروا الى هذه الورشة الصغيره التي بدأت تتهشم ولم يكن باليد حيلة سوا تفكيرهم بحجة لتنقذهم من غضب رينو ...
لم تكن سوا دقائقٍ معدودة حتى خرج كلُّ سكان الحي حين مارأوا السماء قد امتلأت بِدُخانِ الحريق ، فعندما لاحظوهم رجالُ العصابة فروا هاربين كي لايراهم أحد .
حاول سكان الحي مساعدة تشارد الذي كانت صرخات نجدته تضيع في أرجاء المدينة ، كانت تلك الصرخات المؤلمة التي لم يكن بوسع احد الرد عليها ، فالنيران سدت جميع الطُرق المؤديةِ إليه ، لم يكن بمقدورهم سوا حمل هواتفهم النقالة والإتصال على الدفاع المدني لإنقاذ الوضع ، ولكن لم تسمح طرق ستون الرديئه للدفاع المدني بالوصول إلّابعد فوات الأوان ... رغم أن كل شخص من سكان الحي ساهَمَ في إطفاء الحريق ولكن لم يكن باليد حيلة .
وصل الخبر إلى ادموند الذي خلد في نومٍ عميق بعد يومه الشاق لينهض مفجوعاً من فراشه على صرخات أولائك الفتيه خلف باب منزله ، فذهب مسرعاً ليرى مالذي اتى بهم في هذا الوقت المتأخر ، فتح الباب : ماذا يحدث ؟!.
بالكاد كانوا الفتيه يلفظون انفاسهم فظلوا يرددون فقط باسم (تشارد).
علم ادموند من تعابير اوجُههم انه قد حصلَ لصديقه أمرٌ مريع ، فخرج مسرعاً يركض فالطرقات المؤديةِ الى الورشه بلباس نومه ، حافيَ القدمين ، حتى ظن كل من رآه بهذه الحاله انه قد جُن .. وصل ادموند الى الورشة ، ومارآه جعله يسقط على ركبتيه وادخلهُ في صدمةٍ تربط لسانه عن الصراخ وتوقفُ عيناه عن ذرف الدموع .. نعم لقد كان موقفٌ مؤلم جداً ، ومنظراً تتقشعرُ له الأبدان ، فتخيّل أنك تخرج من عملك مرهق كلياً وتذهب لمنزلك تبحثُ عن الراحة ، ولاتعلم أنك ستعود بعد ساعةٍ من حيثُ اتيت لترى جثت أقرب الناس إليك تخرُج على أكتاف الناس أمامك ومن مكانٍ قضيتم معظمَ أوقاتكم فيه ، وعشتم اجمل اللحظات والذكريات تحتَ سقفه !!
إنه لأمرٌ مريع حقاً ...
بعد ما أخرج الدفاع المدني جثته التي لاتكاد ان تتعرف على صاحبها من بأسِ منظرها وضعوه بالكيس ليغلقوا عليه ، فلم يتحمل ادموند وبدأ يحاول السير نحوه ولاكن ثقلُ قدماه أصعبت عليه ذلك ، فظل ينوح لهم بأن يخرجوا صديقه من هذا الكيس حتى يستطيع التنفس ، كان يعلم ان صديقه فارق الحياه إلا انه يصعب عليه تصديقَ ذلك ، فقامت عائلة من معارف ادموند بحمله ألى منزلهم وبدأو يحاولون تهدئته وتذكيره بأن لكلّ نفسٍ أجلها ، ولكن صدمة ادموند كبيرة جدا ً لدرجة تخيف من حوله .
بات ادموند هذه الليلة في منزلهم فقد رفضوا إرساله إلى منزلة وحده وهو في هذه الحالة المزرية..
وفي اليوم التالي بدأت مراسم العزاء ،
بدأت لتطفوا على قلب ادموند نيران غليظه وليبدأ معها صراع البرد والنيران بداخله ، سينتهي العزاء حتماً ولكنه سيُخلّد في قلبه إلى الابد ، وسيبقى الذكرى المؤلمة التي طالما ستكون هي كلّ أسباب انيهاره .
ارتدى الجميع ذاك اللباس المتشائم المغمّس بالسواد ، وعلقوا على صدورهم صورة هذا الرجل الطيب المحبوب للكل .
إنّ فقده كبيرعلى اهالي المدينة ومؤلمٌ على قلوب أحبته ...
امتلأ المنزل بالمعزين وكل من يأتي منهم يتجه لمساندة ادموند اولاً لشدة حزنه الواضح من عينيه و حالة الصمت المريبة التي خلدتها الصدمة في نفسه ، فمن يلومه؟.
فاليوم هو أول أيام العزاء لشخصٍ كان اهله وسنده طوال حياته .
ومضت الدقائق حتى لاحظ ادموند الدهشةَ على أوجهه الجالسين وهم ينظرون إلى الباب ،فعلم أدموند من القادم ...
إنها زعيمة جيش الظلام أتت لتقوم بالتعزية ، ولكنه لأمرٌ عجيب فهل يأتي الإنسان لتعزية شابٍ مات ضحيةً لخططهِ الماكره !!.
حقاً كم هنالك أناسٌ تعجزُ عن فهم عقولُهم .
تقدمت هذه الأفعى نحوَ ادموند متزيفة للحزن وقامت بتعزيته إلّا أنهُ لم يجيبها بكلمةً واحده ، وهذا حاله مع كل من أتاه ، فخرجت بعد ذلك متعذرةً بازدحام المكان .
وتمضي الساعات حتى تغرب الشمس ويخلو المنزل من الزوار ولايتبقى سوى ادموند واصحاب المنزل وعلى هذا الحال حتى بعد مضي ثلاثة أيام وبعد إنتهاء العزاء حاول ادموند استجماع كامل قواه للعودةِ إلى منزله والتفكير بما سيفعلهُ الآن ، فبعيداً عن فقده لمن هو أعزُّ عليه من نفسه فقدْ فَقَدَ معه عمله ولقمةَ عيشه ، فنهض وشكرَ أصحاب المنزل على فتحِ بابهم له بكلِّ رحابة وعلى مساندتهم وعاد ادراجه لبيته بمظهرٍ صامت وعقلٍ ثرثار .
وصلَ إلى المنزل واستلقى على الأريكةِ بجانب النافذة وبدأ يحاول الاجابة على جميع التساؤلات التي تغمره .
هل توفى تشارد مقتولاً ؟
وهل إشتعال الورشة مكيدةً نصبها أحدهم أم انه مجرد حادث !!
أين سأجد عملاً جديد ؟؟
وكيف سأصمت فم مالك المنزل البخيل عن آجار هذا الشهر!
تعالى صوت التساؤلات في عقله حتى ارهقته ، فصرخ ممسكاً برأسه و قام يتخبط في أرجاء الغرفة حتى سقطَ أمام المرآة ، نظر إلى نفسه ولم يستطع التعرف إليها ، بدأ وكأنهُ ينظر لشخص آخر ضعيف يرثى لحاله ، جعلهُ هذا المنظر يتدارك نفسه وينهض ، "فمهما عثرت عليك الحياة حتى اسقطتك لاتستسلم واخبرها بأنك قادر على النهوضِ مجدداً"...
والآن عاد تفكير ادموند المنطقي يخبرهُ بأنه لن يستطيع الاجابة عن تساؤلاته طالما يجلس مكتوف الأيدي ، فستعد للخروج باحثاً عن الاجابات .
كانت وجهتهُ الأولى الى الورشة التي تساوى بنيانها مع الأرض نتيجة الأحتراق ، فبدأ يبحثُ عن ادلةً ويستجوبُ سكان الحي بجواره عن ما إنكان هنالكَ أحدٌ قد رأى كيف احترقت ، ولكن للأسف فاشتعال الورشة كان في وقتٍ متأخر من الليل والجميع في منازلهم ولم يخرجوا حتى أحسوا فيه ، أي انه لايملك حتى الآن دليلاً بأنه حريقٌ مخطط له ، فستمر فالبحث و من غير جدوى ، فقد أخفت رينو جميع الدلائل التي خلفها عبيدُها المأمورين ، وفي نهاية بحثه ورؤيته بأنهُ لم يتوصل لأيّ نتيجة بدأ يشعر بأنه قد توهم قصةً لفقها دماغه وهو في صدمة ، وانّ ماحصل مجرد حادث وقدر .
وأنتهى اليوم الأول وقد حصل على إجابة سؤالٍ من بين تساؤلاته ، نعلمُ انها اجابةٌ خاطئه ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ..
(هل سيستمر طوال حياته مصدقاً لهذا الجواب الخاطئ ؟!)
لانعلم .. فالزمن يخبئ لهُ مانجهلهُ جميعاً .
في اليوم التالي ..
نهض من فراشه باكراً لتبدأ رحلته بالبحث عن عمل .
بدأ يرسم البهجة على وجهه والتفاؤل يغمره بأنه سيعود وقد حصل على مبتغاه ، خرج من المنزل بعد ما أنهى افطاره وارتدى زيّه الرسمي ..
ليستقبلهُ في فالخارج مالك منزله البخيل بوجهٍ عبوس بعد علمه بفقد ادموند لورشته ، ظن ادموند انه سيقوم بتعزيته لانه لم يحضر الجنازه ولكن ظن ادموند يعكس نيته الصافية وليس نية هذا الرجل الدنيء الذي عبسَ ليس خوفاً على حال ادموند بل خوفاً من عدم قدرته على دفع ماله له ، فهو الآن عاطل من غير عمل .
بادرهُ ادموند بالسلام ، فرد عليه بنبرةٍ غليظه : وعليكم السلام أيها الكسول ألم تبحث عن عمل حتى الآن !!.
علمَ ادموند تلميحه وأصرها في نفسه وبداخله يقول : يالي وقاحتك أيها البخيل هل أتيتَ لترى انكنتُ قادراً على دفع الآجار أهذا هو همك !!...
قال داخلهُ عكس ماأظهرهُ له ، فقد تبسم لسؤاله وأخبره انه ذاهبٌ الآن للبحث عن عمل .
بعد خمسِ ساعات من البحث المتواصل عاد ادموند لمنزله بائس وحزين فلَم يحالفه الحظ لهذا اليوم وعادَ خاليَ الوفاض ، ولكن التفاؤل لازال يرافقه فعاد للبحث صباح اليوم التالي وساعات متواصله حتى بدأت الشمس تغرب وبدأَ الأمل في صدر ادموند يتلاشى معها جزئياً وعاد ادراجه الى منزله يتختلُ في الطرقات بِبُؤسٍ شديد حتى رأى على طريقة لائحة قد عُلقت على أحد المتاجر ، تقدم نحوها ليقرأَ محتواها وإذ بهم يطلبون موظفاً للعمل وبدون تفكير فتح باب المتجر ودخل ليقدم طلبه للعمل عندهم فقد كانوا أمله الاخير بعد الله .
دخل بوجهٍ بشوش رغم كمية الحزن الهائلة بداخله والقى التحية إلّا أن صاحب المتجر لم يرُدّ عليه فظن أدموند انهُ لم يسمعه فطرق الباب للفت انتباهه وأعاد إلقاء السلام ..
فإذ بهِ هذا الرجل يرفعُ رأسه نحوَ ادموند ، ويجيبه : ماذا تريد ؟؟
دُهشَ ادموند من نظراته الحاده والمستحقرةِ له ومن نبرة صوته الغاضبة التي لايعلم سببها ، ولكن السلام سنه ورده واجب فهل وصلَ بهذا الرجل الجهل حتى يطغي غضبه على معرفة الواجب !!.
ومع ذلك حاول ادموند ان يحافظ على بشاشة وجهه وأن يتغاضى عن ردة فعله ، وقال : لقد قرأت اللائحة المعلقة على بابِ متجرك وأتيت لأقدم طلبي لهذا العمل .
وفور لفظه بهذه الجملة نهض صاحب المتجر من مقعده وتبدلت ملامحه من غاضبة الى مبتهجة وبدأ يُرحبُ به ، لقد كان عكسَ ذلك الرجل الذي دخلَ عليه ادموند ؛ لم يرتاح لهُ ادموند ولأفعاله الغريبة لكنه كان مجبوراً على التجاهل .
قبلَ صاحب المتجر ادموند على الفور وطلب منه ان يبادر للعمل منَ الغد .
فرح ادموند لعمله الجديد ولكن لازالت الحيرةُ تغمره حول تصرفات هذا الرجل ، خرج بعدها من المتجر تقودهُ خطواته نحوَ منزله وفي كلّ خطوةٍ يدعوا الله بأن لايقابل مالك منزله أمام بابه ، وفي حال أن اقترب من منزله وإذ به يشتم رائحة السجائر تعم الجو ويسمعُ صوته الثمل الذي عكر صفوه فتوقف ليفكر بحيلةٍ تُدخلُه للمنزل متفادياً الحديثَ معه ، جلس يفكر ويحادثُ نفسه :
ياألهي هل ينتظرني هذا البخيل من الصباح حتى الآن ليرى ان وجدتُ عملاً أم لا !! ، اهخ إنه أمام باب منزلي مباشرةً فكيف لي ان ادخل دون أن يراني فلستُ مظطراً لسماع ثرثراته الفارغة ورائحة انفاسه الكريهه فهل انتظر لعلهُ بعد قليل يذهب لمنزله !! ، حسناً سوف أنتظر لعشرِ دقائقٍ فقط وإن لم يذهب سأدخل المنزل واتجاهلهُ ان اراد الحديث .
بعدَ عشرِ دقائق ..
ادموند : رباه هل سيبيت هذا المتسكع أمام منزلي أم ماذا ؟ إذاً ليس لي سِوا الحل الثاني .
أخرج ادموند المفاتيح من جيبه وتقدم ليفتح بابه ، فالواقع كان واضحاً على فعلته انه لايريد التحدث لأحد ولكن من يُخبر هذا البخيل ؟
فعند سماعه لصوت مفاتيح ادموند نهض من كرسيه الخشبي بزجاجة الخمرِ في يده ووقع أرضاً وهو يضحك ، كان منظرهُ مخزي جداً فرائحته النتنه تعمُ ارجاء المكان وصوته المزعج يتعالى من دون أن يشعُر بنفسه ، وظل ينظر لأدموند ويضحكُ كالأبله وتارةً يشتمه وتارةً يطلب منه المساعدة ، حتى أتى السؤال الذي انتظره لأجله ..
وقف وبالكادِ تحملهُ قدماه ويقترب من ادموند ويردد : قلي أيها السافل هل وجدتَ لك عملاً ؟
ترفّع أدموند عن الرد عليه بمثل اسلوبه الدنيء ، فهل يشرهُ المرء على من يحملُ كحولاً في يده !!.
واجابهُ مسرعاً : نعم وجدت وسوف ابدأ العمل فورَ صباح الغد .
كم فرح هذا البخيل بالخبر فزداد ضَحِكُه حتى تمنى ادموند انه لم يخبره ، وفي حين اراد ادموند الدخول لمنزله هرباً من خزيه امسكه البخيل من يده متظاهراً بالإهتمام : ولكنك متعب هذه الفترة لماذا لا تستريح ؟.
ضحكَ ادموند على هذا البخيل الذي لم يتقن حتى تزييف الاهتمام وأجابه : أظن لو اني لم اذهب للبحث عن عمل لذهبتَ تبحثُ بدلاً عني ، ولكن لاتقلق لن اتأخر في سدادك.
ودخل منزله ليرتاح بعد يومهِ العصيب ، أما هذا البخيل فلم يكترث لستهزاء ادموند به فلا يهتم إلّا بجَنْيِ المال .
وها قد أتى الغد المنتظر .. الساعة الآن هي الثامنةُ والنصف"8:30" . صحى ادموند كعادته مفعم بالنشاط ليمضي قدماً نحوَى عمله متفائلاً بأنها ستكون بدايةَ يومٍ سعيد ومشرق لِمى تبقّى من أيام عمره ، حتى وصلَ إلى المتجر في تمام الساعةِ التاسعة وهو وقتُ العمل المحدد ، فرِحَ صاحب المتجر عند رؤيته وعلمَ كم أن موظفهُ دقيقٌ فالمواعيد فلم يتأخر دقيقةً واحده عن موعده ، كانت بدايةً مبشرةً للخير فعلاً ..
بدأ ادموند يعمل بجد وصاحب المتجر يراقب عمله المتقن حتى أُعجِبَ به ، فحمِلَ ادموند جميعَ مواصفات الموضف التي طالما حلمَ بها صاحب المتجر ، والأهم من ذلك انهُ قليل الكلام كثيرَ الحركة ؛ فندِم صاحب المتجر على سوء تعامله معه بالأمس وقرر الاعتذار له وتبرير فعلته ...
وعند الساعةِ الثالثة عصراً وهو وقتُ انتهاء مدة العمل همّ ادموند للخروج من المتجر بعد توضيبه له فأوقفهُ صاحب المتجر وتنحّى به جانباً وبكل بشاشة بدأ حديثه : أودُّ ان اشكرك اولاً على جدك واجتهادك فالعمل أيها الموضف الناجح فاليوم هو أول أيامك وقد ابهرني جداً حماسُك وروحكَ الايجابية للعمل ، ثانياً أعتذر عن مابدر مني بالأمس فقد كنتُ غليظاً وكل ذلك بسبب عدد الكاذبين الهائل الذين يأتون لتقديم طلبهم وانتظر قدومهم في الشمس الحارقة في صباح اليوم التالي ولا اجدُ اثر احد فأصبحتُ ارى كل من يأتيني كاذب وأعاملهُ بقسوة ، لذلك أرجوا ان تلتمس لي العذر وتنسى ماحدث .
وبكل رحابة صدر قبل ادموند اعتذاره وخرج مسروراً بعدَ ان علِمَ أسباب التصرفات الغريبة لصاحب المتجر .
ولكنّنا نسينا أمراً مهماً !!
الآن وقد وجدَ ادموند عملاً له اذاً ليس بحاجة للأنضمام لعصابة جيش الظلام ، فهل يعني هذا ان خطة رينو ذهبت هباءً منثورا ؟؟
بالتأكيد لا ، لن تسمح رينو بذلك .
ففور سماعها بالخبر انفجرت غضباً ، و أمرت رجالها فوراً بالتحري عن صاحب المتجر وتحديد موقع سكنه ، ففعلوا ذلك .
بعد تحديد موقع منزله أصبحت خطتها باختصار أختطافه وتهديده ، فأمرت رجالها بالسطو على منزله ليلاً بحيث لايشك أحد واعتقاله في منزلٍ مهجور ، فنفذوا الخطة بأحكام وفي أتمّ الهدوء ودخلوا منزله وجلبوه عنوة ولم يشعر أهل بيته حتى بذلك .
وحين تمت خطة اختطافه وتركه مربوط العينين ومكتوف الايدي والاقدام أصبح يصرخ عليهم ويردد سؤاله : من انتم وماذا تريدون ؟؟؟؟
فعلى رأسه اربعةُ رجالٍ من العصابة ولكن لم يجبه احد فمن سيجيب على تساؤلاته هي زعيمتهم فظلوا ينتظرون وصولها بصمت .
وها قد وصلت زعيمة جيش الظلام وقد كانت حريصةً على عدم معرفة صاحب المتجر لهم خوفاً من افشاء الأمر لـ أدموند وفشل الخطة لذلك احكمت وثاق عيناه وجعلته يكتفي بسماع اوامرها .
لازال يردد سؤاله فقتربت منه وهمست في اذُنه بصوتٍ خافتٍ ومريب : لاعليك ، نفذّ فقط ماتؤمر به حتى تنجو بحياتك .
صاحب المتجر : وماذا أُأمرُ به ؟
رينو : عليك طردُ موظفك الجديد .
صاحب المتجر : لم ارى منه سوءً قط فما السبب الذي يدفعني لـ أقوم بطرده ؟
رينو : مايدفعك هو أمري عليك فنفذه حالاً وإلاّ قتلتك .
صاحب المتجر : أوافق .
رينو : إنك رجلٌ ذكي ، لقد قمت بأختيارٍ صائب لذا غداً قم بطرده وارسل لي الدليل فوراً .
ضحك صاحب المتجر على ثقتها الزائدة وأخبرها بأنه موافقٌ على مقتله وليس على طرد ادموند ..
وقفت امام كلامه حائرتاً مستغربة تكاد الدهشة تقتلها فكيف لهذا الرجل أن يضّحي بنفسه من أجلِ شخصٍ عرفهُ منذُ يومين ، فعلمت ان ادموند يملك مالا يملكه غيره من الصفات الحميدة وهذا مادفعها ان تسعى جاهدةً أكثر لتكسبه ، أما صاحب المتجر ذو الكبرياء العالي الذي لم يدفعه الخوف لفعل الخطأ ظلّ يصرخُ بوجهها أن تقتله وتنهي الأمر ، ففكرت رينو مليّاً ورأت انها لن تستفيد شيئاً إن قتلته بل على العكس سيورث ادموند المتجر بعده ويصبح أغنى وفي غنى عنها ، فتوصلت من خلال تحريات رجالها عنه إلى نقطة ضعفه التي ستُخضعُه للأنقياد رغماً عنه .
فعادت إليه والسرور يغمرها : هل فكرت جيداً قبل اتخاذ القرار ؟
صاحب المتجر : انهيتُ التفكير و انتظر ان تفعلي مازعمتي على فعله .
اجابتهُ ضاحكه : ولكني الآن عزمتُ على تخييرك بين أمرين .
صاحب المتجر : وماهما أيتها الساقطة .
فقامت رينو بصفعه بقبضة يدها القوية حتى سقط من على الكرسي وصرخت بوجهه بعد ان تمادى عليها ونفِذَ صبرها :
أيها اللعين إمّا ان تقومَ بطرده وإلّا لن ترى وجه جول مرةً أخرى .
"جول هي إبنة صاحب المتجر الوحيدة ولاتزالُ طفلة بعمر السنتين ".
جن جنون صاحب المتجر عند سماعه بأسم ابنته فعلى صدى صرخاته الموجعه في انحاء البيت المهجور وبدأ يشتمها وهو غيرُ مبالي لما قد ستفعلهُ له .. صاحب المتجر : أيتها الجبانة قومي بتصفية حساباتك معي وليس مع طفلة لم تتجاوز السنتين بعد ، لم تكترث رينو لما يقول واخبرته أنها تمهله أسبوعاً فقط ليفعل ما طُلبَ منه ، وأمرت رجالها بعد ذلك أن يفكوا وثاقه بعدَ خروجِها .
خرجت تاركةً خلفها آلام هذا الرجل غيرُ مباليةٍ بأنها السبب بسوء المشاعر التي سيحملها نحوى ذاته مدى الحياة بطرده لرجلٍ مسكين لجأ إليه ولم يظره يوماً ، نعم هذه هي الحياة تجبرك أحياناً على فعلِ عكس ماتريد ، بل وتعجلُ منك أنسانًا آخر .
فكوا قيوده ورموه في هذا المنزل المهجور بظلمة ليلهِ الموحشة وحيداً يصارع ألمه .. هبوب الرياح القوية تكاد تُحطم النوافذ ، وصفقات الأبواب المتهشمة بين كل دقيقة ، ولايتسلل لهذا المنزل سوا القليل من ضوء القمر عبر الستائر المتمزقة ، كان الوضع أشبه بتصويرٍ لـ فلمِ رعب .
علمَ صاحب المتجر بمدى نفوذهم الفتاك فظل في مكانه حتى اشرقت الشمس يحاول التخلص من ضميره حتى ينفذ المطلوب منه ، خرج بعد شروق الشمس ولايعلم اين هو والى اين يذهب فأمضى يسلكُ طرقاتٍ مجهولة ويسألُ كلّ من يصادف في طريقه حتى ارشدوه الى باب بيته ، وصل الى منزله واخرج من جيبه المفاتيح ليفتح الباب وهنا تذكر ان ادموند لايملك مفاتيحاً للمتجر فعلم انه ينتظره اراد الذهاب اليه ولكن لم تحمله قدماه .
نعم لقد انتظره ادموند لساعات طويلة تحت اشعة الشمس الحارقة امام المتجر وعندما رأى ان الساعة اصبحت في قرابة الثانية عشر ظهراً قلق على صاحب المتجر و أراد ان يذهب لمنزله ويطمئن عليه ، ولكن في منتصف الطريق أحس بصداعٍ شديد لم يستطع مقاومته فعاد لينام ويرِيح جسده بالمنزل على امل ان يذهب لزيارته حالمى ينهض .
الساعة 3:20 عصراً ..
رن المنبه الذي ضبطه ادموند في هذه الساعة لزيارة صاحب المتجر ، فأراد النهوض ولكنه رأى أن الصداع لازال مستمراً بل وقد ازداد عن الصباح ، فحاول النهوض على امل ان يخف هذا الصداع المزعج ويعود له نشاطه ولكن من غير جدوى .. وكل ذلك كان نتيجة انتظاره تحت الشمس ، فأجل زيارته له ورأى انه لم يعد هناك وقتٌ ليراه سوى في متجر عملهم غداً ، ولم يعلم ان صداعه لم يكن بالمؤقت بل حمى اصابته و لن تجعله يفارق فراشه لمدة .
أتى الغد وحان وقت العمل وماحصل ان ادموند لم يتمكن حتى من فتح جفنه لرؤية خصال اشعة الشمس قد ملأت حجرته الصغيره ، فقد اصابته حمى شديدة انهكته على مايبدو ..
ذهب صاحب المتجر لدكانه كارهاً نفسه في كلّ خطوةٍ تقوده إلى المتجر، فقد ظن انه سيرى ادموند في استقباله ولكنه لم يرى احداً فنتظره لساعات ولكن غيبته استمرت لأسبوعٍ كامل ، كان ادموند مريضاً وقد علمَ صاحب المتجر بمرضه ولكنه لم يزره ورأى ان غيابه هذا سيكون حجةً لطرده ...
وما حصل بعد هذا الأسبوع :
طرق ادموند باب المتجر والقى التحية على صاحبه بوجهٍ لاتزال عليه آثار التعب ، يحمل بيداه الاعذار الطبيه لمرضه ، وما أن وضعها على مكتبه حتى انفجر عليه صاحب المتجر وبدأ بتمزقيها واحداً تلوَ الآخر وهو يردد بمثلِ نبرة صوته الغاضبه في لقائهم الأول : أيها المهمل لاحجةَ لغيابك سوى انك كسول كباقي المتسكعين من قبلك .
اراد ادموند مناقشته وشرح وضعه ولكن لم يسمح له بالحديث ولو لثانيه ، صرخ بوجهه في كل مرةٍ وهو يكرر اتهامه له "بالأهمال".. عزت على ادموند نفسه وخرج غاضباً وحزيناً في نفس الوقت و في داخله سؤالٌ يتردد ، لماذا تصفعني الحياة بمن وثقت بهم ؟
ضاقت به الدنيا مثل ضيق الأنفاس :)
فتوجه الى شاطئ البحر لعل وعسى ان يقدم لهُ البحر معروفاً و يخطف احرانه وهمومه لتنطفئ النيران المشتعلة في جوفه .. بدأت خلوته بنفسه ليتعمق فالتفكير ويحاول إيجاد حلولاً سريعة لحاله الضائع ، وفي كل مرة من التفكير المرهِق يزداد ضيقه حينما يرى بأن كلّ شئ قد انقلب ضده فبالكاد وجد هذا العمل والآن قد طُرد منه وموعد سداد آجار منزله قد اقترب ولايملكُ شيئاً ليفعله سوى توكيل امره لله ...
وبعد ساعاتٍ من التفكير المتواصل أحس بوجود أحدٍ ما ، فبادر بالسؤال من غير الالتفات لمعرفة الشخص الذي يراقبه طوال هذه المدة وهو يقول :
إلى ماذا تنظر!!.
كان المراقب له " زعيمة جيش الظلام ".. أُعجِبت رينو لدهائه وفطنته بالموجودين حوله فأجابتهُ ضاحكه : وهل لك أعينٌ بالخلف!!.
لم يكن ادموند في حالٍ لها ولسخافاتها فأراد تصريفها بأي إجابةٍ حتى تدعه وشأنه ، وبكل برودٍ اجابها : كما تحبين .
_____________________
عزيزي القارئ قبل ان اخبركَ عن إجابتها هل طرحت هذا السؤال
على نفسك !!
لماذا تقوم بمراقبته حتى في أثناء تفكيره ؟؟
هل من المعقول ان يقودُها هوسُ انضمامه لعصابتها إلى مراقبته
كلّ وقت ؟
أم أنّه يوجدُ دافعٌ آخر !!
" لنرى ذلك "
_____________________
أجابتهُ على عجلٍ من خجل : أحبك أنت ..
– نعم كان هذا دافعها " الحب " .. بالرغم من انها لفظت بها من غير قصد وحاولت إخفاء الأمر وجعله كزلةٍ إلاّ ان هذا كان حقاً ماتشعرُ بهِ اتجاهه ، لم يكن مجرد إعجاب ومحاولة كسبه للعصابه بل كان الأمر أعمقَ من ذلك .
نظرَ بعد ذلك إليها بنظرةٍ صنعت بها الارتباك فلم تعُد قادرةً على ترتيب الجمل فخشت الخروج عن طورِها وقول المزيد فهمست له وهي مسرعة " لاتحزن " وهمت بالانصراف .. فالواقع لم يشغل ادموند تفكيره بما قالته ولو لوهلة فما يجول بباله كافي ، بل زيادةً عن الكافي ..
بينما عادت رينو لقلعتها ودخلت غرفتها على الفور ولم تكلمّ نفسً قط ، كان اول شخصٍ ارادت ان تكلمّه بعد هذه الحادثه هو "ذاتها" ..
وقفت أمام المرآه بوجهٍ شحوب ولم تبقى شتيمةٌ إلا وقالتها :
" أيتها المختلة كيف لكِ ان تتلفظين بكلمةٍ غبيه كهذه ؟ "
" ماذا حدث لقلبك القاسي ايتها اللعينه!!"
" انتي لم تحبين أحداً في حياتك ولم يُحببكِ احدٌ قط !!"
وقامة اخيراً بمواساة نفسها قائلةً :
" لا ، لاعليكِ كانت زلة لمواساته ليس هذا ماتشعرين به ، لقد اهدرتني حياتك لتحكمين (ستون) لا لتحبي ويضعُف شأنك ..
بعد ذلك ...
حل الظلام وعاد ادمودند الى منزله وهو يحاول تشتيت عقله من الافكار المزدحمة بداخلة ،عندما وصل الى المنزل رأى مالم يتوقعه فقد اخرج المالك البخيل جميع امتعته خارج المنزل واغلقه ، ففور سماعه بطرد ادموند من العمل قام هو ايضاً بطرده من المنزل من غير شفقه فلم يكن همه سوى المال ولم يكترث الى حال هذا المسكين اللذي بات بلا عمل ولاملجأ.
لم يكن بوسع ادموند فعل شيء فمن قام بطرده هو مالك هذا المنزل ، لم يكن بوسعه سوى البحث عن مكان يبيت فيه هذه الليلة ، لم يتبقى له سوى صديقه اكسل فجَمَعَ امتعته وتوجه نحوه .. عندما وصل اليه وقد تجمدت اطرافه من شدة البرد بدأ يطرق بابه ويطرق ويطرق واستمر يطرقة لعشر دقائق؛ ليخرج بعدها اكسل بلباس نومه وهو في قمة الغضب
أكسل : يالهي من هذا في منتصف الليل الن نجد الراحة حتى فالنوم !!
ادموند : انه انا ي أكسل ، لقد قام البخيل بطردي فور سماعه بفصلي عن العمل ..
تغيرت ملامح اكسل فورما رأى ادموند وهو امام منزله بحقائبه فهو يعلم بمنافسته لجيش الظلام ولم يود التورط معه..
ادموند: هل ستجعلني يـ اكسل واقفاً امام الباب لقد تجمدت .
إكسل: لا اعلم ماذا اقول لك ي ادموند من شدة احراجي .
استغرب ادموند من كلامه وقال في ذهول لا احراج بيننا يااكسل ماخطبك؟
إكسل : كم كنت اود ان استضيفك هذه الليلة ولكن ليس بوسعي فلست من يقطن هذا المنزل لوحدي ..
ادموند: كيف ذلك انه منزلك انت وكما اعلم انك تسكن لوحدك!!
اكسل : نعم انه لي وحدي ولكن هذه الليلة انتظر احدهم واخاف ان لاترتاح .
رأى ادموند حال اكسل اللذي يُظهِرُ عكس كلامه فكيف ينتظر احدهم وللتوّ استيقظ من نومه وبهذا المنظر؟
عرف ادموند انه كان يكذب ويختلق الحجج حتى لايستضيفه ، فاعتذر على ازعاجه وعاد يمشي في طرقات ستون وحده تحت ضوء القمر وقد غمره الحزن والفرح في نفس الوقت ، فحزن ليس لكذب اكسل عليه وعدم استضافته ، بل على توهمه طوال هذه السنوات بأن له أصدقاء ، فالشُّكرُ للشدائد التي اظهرت معادنهم واخبرتهُ بأنهم مجرد حلم واستيقظ منه ، وفرح بتخلصه منهم فلولا هذهي الايام لظل منخدع بهم طوال حياته .
ظلَّ يسلك طرقاً مجهولة بمشاعره المتضاربة .. لم يكن احدً يسير في هذا الليل الموحش غير ادموند فلم يصل احد لدرجة الجنون حتى يخرج في هذا البرد القارص .. ولكنه احس بالرعب حينَما لمح ذلك المتشرد يتبعه خفيةً ويراقبة بتمعن فتسارعت خطوات ادموند بالسيّر حتى وقف بجانب وحداتٍ سكنيه ، لم يكن يملك قرشاً واحداً ولكنه اظطر ان يبيت فيها هذه الليلة وتدبر مال سدادها غداً ، حتى يأمن نفسه فستون ليست بمدينةٍ يستطيع الوثوق بالامان فيها .. دخَل اليها مسرعا وقام بستأجار ارخص غرفةٍ عندهم حتى يستطيع تسديدها ، دخل الى الغرفه التي لاتسع لشخصين ذو الرائحة الكريهة لم يكن عليه سوى الصبر حتى يحل الصباح.
كانت هذه الليلة اسوأ ليلةٍ قضاها في حياته فمن سوء رائحة المكان لم يستطع النوم فباتت تأخذه الافكار تارةً ويأخذه بعدها الشوق لفقيده تارة ، حتى لمح ظل احدهم من تحتِ باب الغرفه ، فنتطر ليرى ماذا سيفعل؟
قام صاحب الظل برمي ضرفٍ تحت الباب وانصرف مسرعاً..
لم يستطع ادموند معرفه ماذا رمى هذا الرجل من شدة ظلام الغرفه فقام ليشعل النور حتى يتمكن من رؤيته ، استغرب ادموند فمن يرسل ظرف في هذا الوقت المتأخر !! فلم يستطع الانتظار من شدة فضوله لما يحتويه هذا الضرف ؟ فتحه وهنا كانت الصدمه ، كانت رسالةً تحتوي التالي :
رينو هي من أمرت بحرق ورشتك وهي اللتي تسببت بمقتل صديقك وهي ايضاً من هدّد صاحب المتجر حتى قام بطردك ، وقام بإرفاق صورة رينو قد وقفت امام صاحب المتجر في تلك الليلة التي تم اختفائه فيها ، إثباتاً لصحة كلامه..
جثى ادموند ارضاً مِمّا قرأ وبدأت دموع القهر تتناثرُ من عيناه وهو يواسي نفسه : لامستحيل كيف يحصل هذا لقد حققت وسعيت وراء هذا الامر !!
ماذا تقول هذه الورقة ؟ و يالي غبائي ان كان ماكتب فيها صحيحاً فكيف سآخذُ انتقامك ياصديقي فأنا وحيد ولست بجانبي حتى تساندني كما الماضي ، وكيف لي ان اواجهها وأنا بهذا العجز فحالتي لم تعد كالسابق!! ..
وغدى في تمام العجز وزدادت جراحه على هضاب قلبه تقيم الحزن في مدائنه لتعلن حقيقة مقتل صديقه ولتبدأ مأساة جديدة في حياه ادموند ، وكأَنّ الحياةَ اقسمت على استئناف طاقته ونزفِ جراحه.