"انفلت مني صوتٌ لم أسمعه، لكنّ الصمت بعده كان أثقل.
تشظّى ظلّي في الفراغ، ولم أعد أعرف من الذي تكلّم: أنا، أم غيابي.
كان البوح كفتح جفنٍ لرؤيا لم تُرد أن تراها...
ثم أغلقتُ فمي، لا خوفًا، بل لأن شيئًا بداخلي انكسر حين نطق."
"انفلت مني صوتٌ لم أسمعه، لكنّ الصمت بعده كان أثقل.
تشظّى ظلّي في الفراغ، ولم أعد أعرف من الذي تكلّم: أنا، أم غيابي.
كان البوح كفتح جفنٍ لرؤيا لم تُرد أن تراها...
ثم أغلقتُ فمي، لا خوفًا، بل لأن شيئًا بداخلي انكسر حين نطق."
استفاق في ذلك اليوم الغريب، في غرفة لا تشبه غرفته، شاسعة ومملوءة بنباتات خضراء تلوح في كل زاوية، كأنها تحاول ملء الفراغ بداخله. الألوان الداكنة — الأسود والرمادي — امتزجت مع الأبيض ووشحات من الأخضر، في تناغم غريب لكنه بلا شك مريح، يبعث على الاستغراب.
جلس على حافة السرير، بعيدًا عن حافة سريره المعتادة، ينظر إلى الأرضية بلا حياة، ذهنه مشتت، ينسى كل شيء. يكره هذا الانفصال، كيف يغيب عقله عن جسده، ينسى مهامه اليومية، ينسى حتى وجود القلم في يده والطعام في معلقته. في كل مرة يستفيق من هذا التوهان، يشعر بغصة في داخله، بالغضب من نفسه لأنه فقد السيطرة.
بعثر شعره الأسود المموج، نهض ببطء وبثقل، خطواته كأنها تكافح الخمول الذي يثقل كل جزء فيه. دخل دورة المياه، وهناك رأى وجهه في المرآة. لم يكن ذلك الوجه مجرد انعكاس عابر، بل مرآة لحالته المتكسرة، لم يكن يعرف ذلك الشخص. كيف وصلت إلى هنا؟ متى تلاشت صورته القديمة؟ هل هذا حقًا أنا؟ تساءل في صمت، لكن الأسئلة كانت أصداء بلا إجابة، ألحّت عليه بثقلها.
ابتعد عن المرآة، عقله يعج بالتساؤلات. بدا خاله واقفًا عند الباب، ينظر إليه بنظرة هادئة لا تحمل استنكارًا، فقط معرفة عميقة:
_ "لماذا تصدم من نفسك؟ هذا ما يحدث عندما تحرم جسدك من الغذاء."
صمت. نظر إلى النافذة التي تدخل نورًا خافتًا، كأنها تهمس له بحياة جديدة. فتح النافذة ببطء، وقال بصوت منخفض لكنه حازم:
_ "هيا، لا وقت لدينا لنضيعه، أمامنا مكانان يجب أن نصل إليهما."
في عمق الأزرق الباهت الذي يغلف الشارع، كان يسير بخطى بطيئة كأن الأرض تثقله... أو كأنه لا ينتمي لها أصلًا. الليل لم يكن ليلًا حقًا، بل مزق غائم من ظلال، يلطّخ السماء بشيء يشبه الأسى.
الأشجار على جانبي الطريق لم تعد تبدو ككائنات حية، بل هياكل شاهدة على أعمارٍ تآكلت. والمنازل، بنوافذها المعتمة، كانت تراقبه بصمت يشبه الشفقة... أو الازدراء.
وقف قليلًا، نظر للأمام، حيث تمتد الأضواء الخافتة، لا تعده بشيء، ولا تشير لطريق، بل تومض كأنها تذكّره بأن لا أحد ينتظره. كان وجهه ساكنًا، بلا تعبير، كأنه نسي كيف يُظهر الحزن، أو أن الحزن فيه لم يعد بحاجة لملامح كي يُرى.
في عينيه انعكست لمعة خافتة... ليست دمعة، بل شيء أبرد، وأعمق. ربما يقين بأن لا خلاص، أو تعب من البحث عن معنى لشارع لا ينتهي، لسماء لا تفتح، ولمستقبل لا يجيء.
كان عمره عشرين... لكنه يشعر وكأنه عاش دهورًا في هذا الطريق، بين ظلالٍ أطول منه، وسكونٍ أضخم من قلبه.
أخبراني...
هل ستظلان تمضيان إلى حيث لا أستطيع اللحاق بكما..!
تمسحان آثاركما كأنكما لم تكونا يومًا هنا؟
لم تتركا شيئًا سوى الصمت، سوى أنا...!
محاصَرة بين ما كنتما عليه، وما تركتماني عليه...
كل مرة أحاول فيها أن أطويكما من ذاكرتي...
أن أقنع نفسي أن البُعد نهاية...
ينهض عقلي كمن يرفض العزاء...
ويُعيدني إلى تفاصيلكما..
إلى أصواتكما...
إلى ظل وجودكما الذي لا يغادر...
وكأن النسيان خيانة..
وكأن الوفاء أن أبقى أتذكركما، رغم الغياب.
كل شيء يركض،
الناس، الأصوات، الضوء...
وأنا،
مجمَّد في لحظة لا اسم لها.
الزمن يعبرني،
كأنني شبح لا يعترف به الوقت.
أنظر من شقٍّ في الجدار،
كأنني مدفون حيّ،
تحت سماء مبتورة،
لا تسع حلمًا...
ولا تنزل مطرًا.
القبور هناك،
تصطف كجنود صامتين،
تحرس ما تبقّى مني.
لا سلاسل،
لكن الجسد ثقيل،
مبلّل بأفكار تسلّلت بصمت،
كبرت داخلي كجذور سامة.
أحاول الصراخ،
لكن الصوت خائن،
ينكسر في صدري
ويعود لي كشهيقٍ مشوّه.
الغرفة لا تضيق،
ولا تتسع...
الوقت لا يمشي،
ولا يزحف...
إنه ينزف.
وأنا؟
جسدٌ ينتظر أن يُنسى،
في جنازةٍ
لا تنتهي.
كنت هناك، دائمًا هناك،..
حيث لا يراك أحد إلا حين تغيب الظلال...
لا أحد يناديك باسمك، بل بنداء الحاجة...
كأنك صفحة مطوية في كتاب نسيه الجميع على رفٍ بارد، لا تُفتح إلا حين يعجزون عن العثور على قصتهم الحقيقية...
تجلس بينهم، وتضحك، وتتكلم...
لكنك تعرف...
تعرف أنك مجرد وقتٍ مستعار، عابرٌ بين فجوات غيابهم، تمضي معهم دون أن تكون حقًا معهم.
ثم يعودون إلى عالمهم، وتعود أنت إلى اللاشيء، صامتًا، بلا أثر...
من غريب جدًا إن ألحظ شيء .. كنت قد لحظته منذُ زمن.. لكني نسيته...
لأنني قررت نسيانه بالفعل...
وكم كرهت الانتباه له .. وإدراكه ..
والاسوأ .. هي أفكار ما قبل النوم في منتصف الليل ..
نظرات الحزن اختزنت فيها همومه. تحمل كمية من الأوجاع الذي يعجز هو عن ابعادها، عيناه رماديتان تحدق نحو نافذة المطلة على ليلة شبحي داكنة، تخلف من ورائها فوضى لا تعلم إلى أي درجة قد عاثت سلطتها على من وقع عليه سوء الحظ!
اغلق جفناه كما لو أن بأغلاقها قد يغير شيء من الحقيقة، تغير جذري واصطدامات تبعثر واقعه الذي حدث فقط بعد اختفاء والده!
ارخ رأسه على وسادة ونظره لم يشبع من تأمل النافذة، ربما بأمل زائف بأن يجد نجمة واحدة تخترق هذه الليل، وتكون سبب يجعله يتأمل بأن لكل شيء حل.
يبحث عن شيء مجهول يوقظه من كابوسه، العالم أصبح بكفة وهو بكفة، أحاسيسه الذي يشعر بها تدريجيا يصيبه بحالة من الجنون.
رائحة مألوفة لديه! حاول! وجاهد فتح عينيه ليبصر النور، فعجز عن جعل الظلام أن يتلاشى، حاول تحدث أن يفرق شفتيه مضمومتين ببعضهم، فتضح أن الأمر كان سيان.
معطل عن أدارة جسده كل ما أدركه انه أصبح مشلول تماما، الحركة لديه قد خرجت عن نطاق سيطرته، حبيس جسد عاجز عن فعل شيء.
وكل ما يشعر به سوى هالة أحد ما بقي واقف لمدة طويلة لم يتزحزح من مكانه، كاد يظن أن لا أحد واقف وما شعر به مجرد تخيلات بسبب بقائه على هذا الحال لمدة طويلة.
Ignore User
Both you and this user will be prevented from:
Messaging each other
Commenting on each other's stories
Dedicating stories to each other
Following and tagging each other
Note: You will still be able to view each other's stories.