عندما تحيا ميتاً

الفصل الأول

قرية "لاسترا".. "هاييتي" عام1980م

سار ذلك الجسد الهزيل بمحاذاة سور خشبي عالٍ، بخطواتٍ مترنحة، تعكس ضعف صاحبها، وتؤكد سوء حالته الواضحة؛ من خلال أطرافه القذرة التي بدت وكأنها متآكلة على نحوٍ يثير الغثيان، وعظامه التي لم يغطيها ثوبه المهترئ حتى تكاد أن تظهر أسفل جلده الرمادي.

كانت عيناه الغائرتان، وجسده الخائر يستهدفون سيدةً تتجول في سوق القرية دون أن تعي متتبعها المستمر في جر خطواته الواهنة نحوها.

تلكؤ تلك السيدة في تجوالها داخل الساحة المفتوحة -المكتظة بالناس- مكَّن شبه الرجل من اللحاق بها ليمد كفَّه المرتعشة إلى كتفها بينما صوته الخفيض المتعثر يصل إلى مسامعها:

- "انجلينا".

التفتت السيدة من فورها إليه لينتفض جسدها بفزعٍ متراجعةً إلى الخلف بشهقةٍ عاليةٍ، وقد أسقط ارتعاشها مشترياتها لتتناثر فوق أرض السوق الترابية. على حين قابل المتهالك تحديقها المرتعب موضحاً بذات الأحرف المتثاقلة الضعيفة:

- أنا شقيقك "كلارفيوس".

ما كاد ينهي جملته البطيئة حتى سقط جسد المرأة فاقدةً الوعي من هول فاجعتها.. إذ كان الالتقاء بشقيقها المتوفي منذ 18عاماً صدمةً مرعبةً تفوق تحملها.

*****************************

بعد سنوات...

شقت السيارة رباعية الدفع ذات السقف المفتوح منطقة "نورد" الهايتية، مخترقةً الأراضي الغربية لجزيرة "هيسبانيولا". كانت الرحلة البرية عبر تلك السهول الخضراء والوديان المحاطة بالجبال الشاهقة متعةً حقيقيةً؛ رغم بعد المسافة والتوغل داخل أراضٍ بدت خالية من الأحياء.

بقيت "كندة" واقفةً في الخلف تعتمد على كفِّها اليسرى للإبقاء على ثباتها. بينما اليمنى تتشبث بقبعتها المصنوعة من القش لتمنع الهواء من اختطافها بعيداً؛ وقد كانت بحاجةٍ ماسةٍ لها لتحميها من أشعة الشمس الاستوائية الحارة فوق الكاريبي.

نظرت إلى الشاب الإفريقي الجالس أمام المقود لتتساءل هاتفةً بالفرنسية:

- هل بقي الكثير لنصل؟!!!

التفت إليها الشاب ليمنحها ابتسامةً واسعةً مؤكِّداً أنَّهم على وشك الوصول إلى وجهتهم، ثم أعاد اهتمامه إلى الطريق المخترق للأحراش الكثيفة على جانبي الطريق الوعر.

لاحت من بعيد أكمةٌ، ووصلها صوت الشاب وهو يعتمد على كفه اليمنى للسيطرة على عجلة القيادة بينما الأخرى تشير في الهواء نحو وجهتهما معلناً برضا:

- ها هي القرية تقع خلف تلك الأشجار.

خلعت قبعتها واحتفظت بها في كفها اليمنى لتقفز إلى المقعد الأمامي بجوار مرشدها بينما عيناها البندقيتان تتعلقان بتلك الأحراش البعيدة ونبضات قلبها تتسارع بحماسٍ لا يخلو من الرهبة نحو ذلك المجهول الذي تنوي اكتشافه.