الفصل الثاني

443 36 13
                                    



- هذه هي.. عُشبة عنكبوت الشجر. لا أعرف كي يكون شكلٌ مخيفٌ كهذا مفيدًا جدًا لعلاج التهاب المفاصِل..

تمتمت دوركاس بعد دقائق من البحث عن الأعشاب التي طلبتها جدتها. كان الظلام قد بدأ بالنزول فعلًا، والضباب ينقشع بنفس الطريقة التي تكوَّن بها. صُودف أن القمر بدرٌ تِلك الليلة، لذلك كلما أظلمت الدنيا، كلما تجلى نوره أكثر، فكان لذلك أثرٌ مهدئ على دوركاس. الحقيقة أنه أعجبها الأمرُ جدًا، ورغم تعبها بسبب الاستيقاظ باكرًا إلا أنها كانت سعيدةً بالفرصة التي خولتها أن تعيش تلك اللحظات.

لكن حصل ما لم يكن في الحُسبان، وضاع عنها طريق العودة إلى المنزِل. وكأنها كانت تمشي في متاهة، أي طريق تسلكُه يؤدي بها إلى مكان البداية التي انطلقت منه.

فجأةً، سمعت صوت خشخشةٍ قريبةٍ فدق الرعب صدرها ولم تملك إلا أن تتراجع قليلا إلى الوراء.


لم يكن بطل الخشخشة إلا ذلك القطيط المتفحم. ضحكت دوركاس وتقدمت منه ثم حملته إلى حُضنها دون أن يمتنع هذه المرة وقالت:

- أيها الشيطان الصغير، لقد أخفتني! أتمنى أنك تعرف طريق الخروج، لو دللتني عليه فسأدعوك للعشاء..

صمتت للحظات ثم تابعت بنبرة يتخللها شيء من الحزن:

- ليتك تفهم ما أقول.. أو ليتني كنتُ قطة مثلك.

صَدر منه مواء ضئيل كحجمِه، وكشر عن أنيابه الصغيرة ثم عن لسانه الذي أصبح يلعق بِه يديها. تنهدت دوركاس تنهيدة عميقة وحاولت مرة أخرى أن تجِد طريقها، لكن بدون جدوى.

وعلى حين غرة كما يحدث دائما، تسلل لحن الناي إلى مسامعها فأدارت وجهها بسرعة نحو الاتجاه الذي يصدر منه. وفورًا، تخلص القُطيط من حضنها، وجرى نحو ذلك العزف ثم اختفى عن مرأى دوركاس مُحطما شعور الأنس الذي منحها لها. لم تدر ماذا تفعل، لكنها علِمت أن اتباع ذلك الصوت كان آخر فرصة لها، فتتبعته.

تمشت في طريقِ مستقيم، طريق لم تره من قبل. كلما تقدمت كلما توضح العزف أكثر وبَانَتْ نغماتُه. كان اللحن آسِرًا، حزينًا وغًاضبًا، ورقيقًا دافئًا.

لم يمر الكثير حتى ظهرت معالم المكانِ الذي انتهى به ذلك الطريق، والذي كانت تعرفُه جيدًا. تساءلت: المعبد؟ كيف وصلت إلى هنا وهو في الجهة الأخرى من القرية؟

دارت نحو الوراء كي تجد الطريق الذي أتت منه قد اختفى كأنه ما كان هناك أبدًا. فتذكرت قول جدتها: تلك الغابة، منذ قديم زمان هذه القرية، يفوح منا السحر.

وبالحديث عن الجدة، فإنها لم تكن تشعر بأدنى جزيئة من جزيئات القلق. ابتسامتها الغريبة الواسعة لم تُفارقها منذ أن خرجت دوركاس، وكذلك كانت ورقة التين تِلك.

كان المكان الذي يقع فيه المعبد أكثر رطوبةً، مما نتَج عنه تعفن جدرانه الطينية كي تنبت بها بعض النباتات مسممة لون صبغتها الحمراء باللون الأخضر. تقدمت دوركاس نحوه متأكدة أن الصوت يصدر من داخله، فقد أصبح واضحًا ولم تكن تطيق صبرا من أجل حل لغزه الذي يؤرقها منذ وعيها بالغابة، منذ سبع سنوات.

فتحت الباب بصعوبةٍ، فاستقبلتها موجة من الغبار التي سببت لها سعالا خفيفًا. تيقنت أن اللحن آتٍ من الداخل فتقدمت بسرعةٍ دون أن تفكر، ووجدت نفسها فجأةً أمام حل لغزها. هُنا أتى الوقت الذي فيه وَجلت وخافت، فلم يكن عازف اللحن شخصًا عاديًا، بل كان مخلوقا لم تره لخلقه مثيلا، أبيضٌ جلده كالثلج، ذو شعرٍ رماديٍ طويلٍ يتطاير في الهواء، وهالةٍ نورانيةٍ تُحيط به.

كان الممر الذي سلكته بعد فتح الباب قد أدى بها إلى غرفة مربعة مُظلمةٍ كليا إلا منتصفها، مُنارٌ بضوء القمر الذي يدخل من حفرة بالسقف، كي يسمح للناظر رؤية ثلاثة درجاتٍ متصدعة تنتهي بأرضية مُسطحة مليئة بغبار رمادي. على الأرضية وُضع تابوتٌ مُغلقٌ عليه يجلس المخلوق متربعا، عاري الصدر، مُغلق العينين، بتركيزٍ شديد يعزف معزوفته على نايٍ فيخرج منه ذلك اللحن المُغوي للأسماع.

بلعت دوركاس ريقها، وتحركت ببُطء للوراء مُستغلة عدم انتباهه. لمست البابَ من وراءِها، ونَوَت إطلاق رِجْلَيْها للريح فور ما أن تصل عتبة المعبد. لكن قبل أن تفعل شيئًا من ذلك، دخل القُطيْط الأسودُ، ثم اتجه نحو الداخل. حاولت الإمساك به لكنها لم تنجح. فعلقت بِهِ نظراتِها خِشية عليهِ، وهو يصعد الدرجاتِ الثلاث، ثم يتسلق التابوت، ويجلس بجانب ذلك المخلوق.

فتحَت فمها من الصدمة، وقررت إكمال مُخططها للعودةِ. لكن الأوان رُبما قد فات على ذلك، فاللحن توقف كما بدأ، والمخلوق فتح ذراعيه ورفعهما نحو الأعلى. اليد الأولى تُمسك بالناي، واليد اليسرى مبسوطةٌ أصابعها عن آخرِها. فجأة، رسم على وجهه ابتسامة واسعة، ثم فتح عينيه الفارغتين من أي بؤبؤ، واللتان تنظران مُباشرة نحو دوركاس.



هاولفي، حارس المعبدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن