استفقت بعد مدة من الزمن و أحسست بصداع فضيع في رأسي ، أصوات مزعجة حولي ، رب هدوء يخففه ، ها قد وصلت ، أخيرا أصبحت أقرب إلى المنزل ، خرجت من الميترو بسرعة ، صعدت الدرج بقفزات بطيئة مع آلام في عضلات أرجلي ، وقفت لأستنشق هواء المدينة المنعش تارة، و المليء بالدخان تارة ، ضربتني صفعة ريح باردة في وجهي ، كانت جميلة و قاسية في الوقت نفسه ، برد الشتاء كما أحبه ، وضعت قبعتي السوداء الدافئة على رأسي ، و تابعت السير مستمتعا بالأجواء ، مررت من الشارع الرئيسي المكتظ ثم مررت بزقاق حالك الظلمة ، فارغ من كل حياة ، قبل أن أصل إلى المنزل . وددت لو تمطر السماء لكن لا أحبد الإصابة بالزكام ، إنه أمر يتعبني حقا ، كلما ازداد تعبي إزدادت لهفتي للمنزل أكثر .وقفت أمام الباب مرتجفا من شدة البرد ، وضعت يدي في جيب سروالي الأيمن باحثا عن المفاتيح لكن لم أجد سوى الفراغ ، بحثت في الجيب الأخر لم أجد شيئا ، كدت أفقد أعصابي ، أين تركته ؟؟؟ تبا لقد تذكرت ! ربما سقط عندما افترشت الأرض من شدة التعب ، كان علي أن أنتبه أكثر ! ماذا أفعل ؟ لابد أن أعود لأبحث عنه ، ماذا لو أوقعته في الميترو ؟؟؟
في تلك اللحظة التي شعرت فيها بانهيار شديد أحدهم شدني من خصري ، التفتت لأرى صغيرا ذو وجه بريء إنه إن الجيران الذي لا أعرف اسمه حتى ! نظرت إليه بحدة و سألته : ماذا تريد ؟
أجابني بابتسامة : في الصباح أوقعت مفتاحك و جريت ورائك لكنك كنت مستعجلا جدا و لم أقدر على الوصول إليك و أخبرت أمي فقالت لي من الأحسن أن أنتظرك حتى تعود و أعطيه لك .
أخدت المفتاح منه بسرعة و قلت له : جيد ، إذهب ...
أنا هكذا لا أجيد ثناءً ، دخلت المنزل ، و استلقيت على الأريكة و غرقت في النوم مباشرة ..
بصيص نور تسلل أول الصباح إلى غرفتي ، ازعج نومي الهادئ ، فتحت عيناي بسرعة ، بخوف ، شعرت كأن شيئا ما سيقع ، أكره هذا الاحساس ، إنه يخيفني أكثر ، نهضت من مضجعي ، و اتجهت للمطبخ ، فتحت صنبور الماء و بدأت بغسل وجهي كهذا سأطرد النعاس من عيناي ، و أكمل يومي ، يومي الفارغ ، يوم فاشل أخر...
اتجهت لملابسي المرتمية في الأرجاء أبحث في جيوبها عن مال ، وجدت بعض البقشيش الذي بالكاد يكفي لأشتري به طعام يومي...هممت بالخروج و فور أن أمسكت بمقبض الباب دقه أحدهم بقوة هزت جسدي فتحت بعصبية ..:
_ ماذااا هناااك !!!
التقت عيناي بعيناي صديق عرفته منذ مدة قليلة ، كثير الكلام ، لكنه شديد اللطافة ، عدت معه للداخل و خضنا حديثا طويلا...
- الى أين كنت ذاهبا ؟
_ لأشتري طعاما استيقظت قبل قليل...
- دائما تنام مبكرا و تستيقظ متأخرا لم أرى شخصا يحب النوم مثلك من قبل... لا تقلق جلبت معي بعض الفطائر انها لذيذة
_اااه حسنا
-لماذا تبدو مكتئبا هكذا ؟
_أنا ؟ لا أعلم ، انا فقط أشعر بالملل
- انه دورك لتحكي لي عن طفولتك
_ طفولتك اكثر تشويقا
- لكنني أريد ان اعرفك اكثر ، هيا نحن أصدقاء ، احكي لي نخب هذه الفطائر...
_ أنت تجعلني عاطفيا الان ، كنت طفلا لكن بداخلي شيخ.....هو الزمن رماني بنظرة حسد و هم الناس يرمونني بنظرة شفقة....
عشت جزءا من طفولتي كأمير في قصرنا المتواضع....لم نكن أغنياء البتة و لم نكن فقراء فالفرح أغنى قلوبنا...
مرت الأيام بتفاصيلها الجميلة الى أن أتت العاصفة لتدمر ما بنيناه من أحلام بسيطة ، لم أكن أفهم شيئا حينها كنت صغير... مازلت يافعا لكنني أصبحت حبيس الهم الذي استحوذ على قلبي الهزيل...
كل ما لاحظته في طفولتي ان ابي لم يعد يخرج من المنزل، و ان خصامه المتكرر مع امي لم يكن طبيعيا و خروج أختي التي تكبرني من المدرسة كان لسبب...بدأت استغرب لما ألبس نفس الملابس كل عيد ، لما أمي تطبخ لنا البيض كل يوم...أدخلوني المدرسه لأنني ابنهم الوحيد أنا رجل الغذ الذي سيعيلهم...سألوني ابوك ما شغله ؟ أجبت يجلس في المنزل ، من أين تأتون بالمال لتعيشوا ؟ أجبت لا اعلم،
أضحت الحياة قاسية، جوع و حاجة...
و بعد هذا كله أخرجوني لأحمل همهم على كتفي و هم أمي المريضة على الكتف الأخر...يدايا الطفوليتان مليئتان بالشقوق ، عيناي البريئتان رأتا الكثير في الشوارع...
أصبحت رجلا عجوزا بجسد طفل.... هذا كل ما في الأمر.
- حقا ؟!!! لماذا أنت هنا الان ؟
- بخلاصة بعد عمل في أشغال البناء لسنوات لم استطع انقاذ أمي ، بعد موتها ضاقت كل الطرق علي فهاجرت مع بعض الشبان و وصلت الى هنا و الان لا استطيع ان اعود خالي الأيدي ، لا استطيع العودة حتى... أنا فاشل حقا .
- لا تقل هكذا لابد أن الغد يخفي أشياء جميلة
_ ربما ....
تلك المحادثة تلتها نظرات بيننا ، اكتفينا بالعيون للافصاح بما تبقى بجعبتنا ، مد يده و ربت بحنان أبوي على كتفي كأنه يدعوني للتماسك .....
تركني في المنزل لوحدي ، غادر قائلا إنه ملزم بعمل مهم و يستحسن أن لا يتأخر...
مستلقي على الأريكة غارق في وهم أفكاري ، يؤنبني ضميري على شيء ليس لي ذنب فيه ، لم اكن اعلم ان حتى أفكاري و هواجسي ستهرب معي ، ظننت أنني قد أتركها ، ظننت أنني هربت لكنني لم أعد أستطيع التهرب من نفسي ، أشتهي النوم حقا ....
غصت في نوم عميق مجددا متناسيا كل شيء ، أصبح العلاج الوحيد لحالتي ...بعد وقت لم استطع تحديده بالظبط - ربما ساعة أو ساعتين أو أكثر - استفقت ، و شعرت بأن المنزل أضيق من أن يحتويني و صوت بعض الشبان في الطابق العلوي مزعج لحد أنني أسمعه بداخلي بشكل جنوني .
أخدت معطفي و لبست حذائي ثم اتجهت إلى الخارج مهرولا بسرعة كأنني أحاول تفادي طلقات رصاص تلاحقني .......