"احذر في الشتاء أن تترك جزءًا من جسدك مكشوفًا, فمن لا تراهم يبردون أيضًا, ويبحثون عن الدفء."
"لا تسهر في الصيف حتى ساعة متأخرة, فهم يحبون السهر, ويعشقون السمر, وقد تكون مادة مسلية لمزاحهم, خصوصا إن كنتَ وحدك."
"هل تظن أن الهمسات التي تسمعها وأنت بين النوم واليقظة مجرد أصوات من عقلك الباطن أو محض خيال؟! أخطأت يا صغيري, إنها أصواتهم, همساتهم, عبثهم.. يحاولون هدم نومك, لكن احمدْ الله أنك لا تفقه لغتهم."
"ضعْ في مقتنياتك المجوفة؛ من علب معدنية, وآوانٍ فضية, حتى ولو كانت خشبية, مصحفًا صغيرًا"
"زينب, إذا كنتِ ستستخدمين الفرنَ بعد فترة طويلة من الرَكْن, فلا تشعلي النار مباشرة, بل اقرئي بعض آيات التحصين, وتعوذي من الشياطين"
بهذه الجملة أو تلك تبدأ الجدة إحدى حكاياتها, تجمع حولها الأحفاد وأحفاد الأبناء, ولديها غير هذه الجمل مخزون لا ينضب من الكلمات المسجوعة وغير المسجوعة, والتي دومًا ما تثير الانتباه, وتبعث في الجسد قشعريرة مما هو آتٍ.
لم أكن أكبر المستمعين لها وقتئذٍ رغم سنواتي التي تجاوزت نصف العقد الثاني, فكل من يتواجد بدارِ عمي الواسعة يومَي الخميس والجمعة يلتفون حولها في إنصات شديد, وهناك بعض أبناء الجيران, وبعض أقاربنا من الدرجة الثالثة كانوا يأتون خصيصا في هذين اليومين لسماع قصصها, كما أن عمي الأكبر إذا عاد من عمله يجلس معنا وينصت لها باهتمام, ويهز رأسه بين فينة وأخرى كأنه يوافقها على ما قالته, رغم صعوبة تصديق كثير من حكاياتها.
حتى أمي وزوجات أعمامي كُنَّ ما إن ينتهين من إعداد طعام العشاء أو بعض المشروبات حتى يسرعن ليجلسن مع الجمع ويغلقن الحلقة؛ كي لا يفوتهن كثيرا مما قيل, وتنتهز أي منهن فرصة توقف الجدة لتسأل عما فاتها.
بعد وفاة الجدة بحثت عن مصادر قصصها, لكنني لم أجد شيئا, إلا أن أبي يؤكد أن أمه لم تحك إلا ما رأته بعينيها أو سمعته من أمها أو جدتها أو أم جدتها, وجميعهن نساء لا يعرفن الكذب أو التهويل, لكنهن بارعات في السرد وجذب انتباه من ينصت لهن, وقادرات على إثارة الخوف حتى في قلوب الرجال, وقد لمست ذلك في قصص أصغرهن - جدتي -, وأحفظ في ذاكرتي تراثا عظيما, والتي من المفترض أنها أو إحدى من سبقنها قد ممرن بها؛ أي القصص والحكايات.
أخبرتني أمي أن قصص الجدة رغم غرابتها إلا أنها تحوي العبر, ويجب أن يستفيد منها من يستمع إليها, حتى لو لم يدرك ذلك الأمر إلا بعد عقود, لكنني لم أدرك هذا الأمر, أو لأكون دقيقا لم أعمم هذا على كل ما حكته, إذ وجدت العبر في بعض قصصها, والبعض الآخر لم أجد فيها إلا التسلية أو الخوف.