الشيطان لا يعظ, ج2
صار "سعفان" كما العمدة, وقد انتقل من بيته إلى دوار العمدة الذي فقد حياته وقبلها دفن زوجته ووأد بناته, لقد تمكن منه الطمع بوازع من زوجته, رفض في البداية الاستعانة بهذا المشعوذ بعد ما سمعه عنه, لكن حواء كما أخرجت آدم من الجنة أخرجت العمدة من الدنيا كافرًا مجنونًا مغدورًا, فصحبت إحدى بناتها وعرضت على "سعفان" أن تزوجه الفتاة إذا ما حقق لزوجها الامتلاك والثراء, إلى أن انتهى الأمر بأن تزوج زوجة العمدة وبناته أجمعين, ولو ذهبت إليه بابنها الوحيد لما مانع إبليس.
هكذا عاش الخضوع والكفر جنبا إلى جنب, إلى أن جاء اليوزباشي "أنور", وقد نما إلى سمعه وسمع من يرأسه أن في قريتنا سفاحًا يساعده مطاريد الجبل, صحب معه نفر كبير من العسكر...
- جدي!
هكذا صحت غير مصدق, لكن أصابع زوجة عمي ساعدتني على التصديق, وذكرتني بما ينتظرني إذا ما قاطعت الجدة عن الحديث.
الله يرحمه, كان رجلا بحق, رجلا كما تعني الكلمة, له... أخذت الجدة تعدد مآثره وكأنه أبو زيد الهلالي أو أحد سلاطين الدولة الأيوبية, وبعد أن انتهت من المدح دخلت في وصلة بكاء لم تطل, ولم يجرؤ أحد على مقاطعة دموعها, ثم أكملت...
استضاف زوج "مسعودة" - كان من المفترض أن تقول أبي, لكنها تحب لنا أن نعيش مع أمها وما حدث وقتها, وننسى ما دون ذلك, عذرا إن كنت سببت فصلا أو مقاطعة, وأعلم أنني أستحق قرصة ثالثة الآن - اليوزباشي الشاب في بيت جارنا البائد وذويه, وأخبراه بكامل القصة, لكنه وعساكره لم يصدقوا إلا القليل, وعدوا أكثر ما قيل من الخرافات التي يتوارثها أبناء القرى والأقاليم؛ لذا جهز الشاب رجاله, وكل منهم جهز سلاحه, وذهبوا في مسيرة أُضيف إليها العشرات من الأهالي, حيث عادت الشجاعة لتجد طريقها إلى صدورهم.
لم يكد "أنور" يقترب من دوار العمدة حتى حيته الرصاصات وحيت رجاله, فردوا الصاع صاعين, وخسر الفريقان رجالا وصبية, إلا أن الغلبة كانت لمن لم يعظه الشيطان, وكاد المطاريد يفنون, ولما أحس كبيرهم بالهزيمة أسرع إلى الدوار يستنجد بسيده, ولم يسمع له سوى صراخ ضجت له القرية, فاتعظ رجاله, وأكلوا عيشهم بالفرار عائدين إلى ذلتهم بعد عزة, وإلى ظلمهم الهين, ولم تنتهِ قصتهم عندئذ, وذكروني أن أخبركم بها إن كان في العمر بقية.
- أدام الله عمرك يا أمي.
قالها عمي "كامل", فنظر الجميع إلى زوجته, لكنها لم تحرك ساكنا, ولم ترفع عينيها في زوجها, فقط كررت دعاءه في سرها, وقتها كان الرجال في بيتهم رجالا.
استكملت الجدة حديثها بقولها: تبقى معه نفر قليل, منهم بعض من رجال القرية, وعلى رأسهم زوج "مسعودة", الذي همس في أذن "أنور" قائلا: "لقد تغلبنا على رجاله, لكنَّ مَن ينتظرنا في الداخل شيطان يتغذى على الأرواح". لم يعلق أو يرد, بل سار كما يسير البطل المغوار, لن يعود إلا بدم فريسته على نصل سيفه البتار, دخل من بوابة الواسعة للدوار, وتبعه الرجال, لم يقابلهم في الداخل إلا إضاءة شديدة الخفوت, يكادون معها أن يروا الأشياء, أشار لمن تبقى من رجاله أن يفتشوا الغرف, فأطاعوا طاعة عمياء, وذهب كل منهم إلى وجهته الأخيرة.