لماذا البردة؟
السلام عليكم ... إسمي مازن و أنا سوداني العرق ، عربي اللغة و مسلم الهوية ، كنت طفلاً حتى التاسع عشر من ديسمبر قبل عاميين ، حينها علمت أن لي بلاد ، أرض ، أخوة و حق مأخوذ يجب أن أسترده ... فكان لابد لابد من النضال ، و بعد أشهر من الكر و الفر مع العساكر تم إعتقالي في السادس من أبريل لمدة أيام ثم خرجت .
و لكني في المعتقل مررت بتجارب من تلك التي تؤدي بك للتحديق في ملامح الحياة و الموت ، تجارب من تلك التي ترميك في بحر من اليأس و تجعلك تخترع قشة الرجاء إختراعاً ، إن السجن و المنفى يمتلكان المفهوم نفسه فالغرض من كليهما أن تظن أنك وحدك ... أما أنا ، و في منفاي ذاك و في وسط غربتي عن أهلي كنت مغلوباً على أمري و كنت مطارد من كل العساكر و كنت متعباً حد التعب و كانت كلماتي مُكذبة لا يصدقها أحد رغم صدقي و للسخرية هم من كانو يكذبون.
لذا رأيت في قلة عزوتي تلك أن أتمسك بهويتي فلم أجد إلا محمد بن عبدالله (صلى الله عليه و سلم ) هو الوحيد من أمتي الذي عانا ما عانيت ، فوجدت في مدحه نصر لثورتي و وجدت قوة في مدحه من بعد ضعفي.
أذكر في السجن حينما يطلقون علينا خراطيش المياه و ندخل في أكثر الأماكن برودة و هي ما تسمى ب (ثلاجات الموز) طوال الليل أي لمدة سبع ساعات قبل الفجر ،في ذاك البرد القاتل و ذاك الزُل إرتفع أحد الأصوات من بيننا ينشد (مولاي صل و سلم دائما أبدا على حبيبك خير الخلق كلهم )...و بدأ يغني لمحمد وردي (أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق) ، صاح بنا الحرس إن لم يتوقف عن الغناء و مدح النبي ستطول ساعات العقاب و لكن فجأةً أصبح الصوت صوتين و بعدها ثلاثة ثم أصبح الجميع يغني و بشكلٍ ما ... صار السجن أدفأ.
أيها الناس : صلوا على النبي...
كشخصٍ كان مع جموع الثوار و بعدما خرجت من السجن أخذني الحنين يوماً إلى أمام القيادة العامة للقوات المسلحة ، إلى الميدان الأرض و الميدان القصة.
كنت أتذكر القتلى ، الأسوار ، الجَمال و البلاد كمهزومٍ يتأمل رونق النصر و هو يحذه حذاً و كنت أسير و أدقق في صنعة الصيغة و أفتتنُ بجمال الضحية ... أمشي و يمشي بجانبي ألمي أنظر لأشخاص يرتدون البذل الرسمية مُنادون ضمنياً بأن يكون السودان ذا إنتماء مُتَوسطِيّ أوروبي و أرى نساءً يرتدين الفرو آملات بأن تصبح الخرطوم باريس و أجدهم يسمعون أغاني إسبانية و غناء أوبرالي باللغة الإيطالية التي لا يفقهون منها كلمة و يأنفون من سيرة إبن خلدون فأعبس لحال الأمة و أتسائل بحزن أين وحدتنا؟
و لكن الأمل تسرب من بين تسائلاتي كما يتخلخل الماء تحت اليدين تخلخلًا... فأرى كل الناس .... من يلبس الفرو و من لا يجد ثمن الجلابية يطربون لقصيدة صلاح حاج سعيد التي مطلعها (بقيت أغني عليك)
عندما يغنيها فتاً موهوب من ريف الحصاحيصا إسمه مصطفى سيد احمد .
أرى ذلك و أتذكر كم توحدنا على القصائد و الإقتباسات و الفكرة البسيطة التي منطقها أن الحكم بالرضى لا بالسلاح و لكن داهمتنا الاحداث و العساكر فلم نستطع تحويل اقتباساتنا إلى نص و لا تحويل ميداننا إلى نظام حكم.
بعد التعب و انا اسير بين الأروقة عُدت الى منزلي و تبعوني كلهم ....كل القصائد و كل الوعود و كل العساكر و مصطفى سيد احمد نفسه و كل الشهداء... و أنا في طريقي ماشياً أرنم (مولاي صل و سلم دائماً أبداً على حبيبك خير الخلق كلهم).
لذا فإن الإعتزاز بالتراث و التمسك بالهوية و المدح النبوي من هذا المنظور هو البحث عن السماء في الأرض ، عن الجليل في اليومي ، عن الإلآهي في البشري ، عن الشعر في النثر ، عن الجمال في الصعوبة و كدر العيش ، عن النبوة في الناس و عن المعنى في التاريخ ...إنك يا أبا القاسم حين نمدحك فإن الشعر و النثر لا ينتهيان بإنتهاء الإنشاد ،و ذلك لأنك من أنفسنا و لأنه كان عزيزاً عليك ما عنتنا ، و لأنك كنت فأل هذه الأمة الحسن ، فكنت متعباً مثلنا و مظلوماً مثلنا ، و منفياً مثلنا و مُكذباً و مَكذوباً عليك مثلنا ، و واجهت كل ذلك ......ثم إنتصرت ..# مازن عبدالله
#سكرايبومينا
——————————