الحارة

7 2 0
                                    

رجع سعيد بعد غربة أستمرت سبع سنوات إلى حارته حيث نشأ .. تذكر
آخر مرة غادرها فيها .. أقسم ساعتها إلا يعود عليها أبدا .. و و لكن للضرورة
أحكام .. بعد كل تلك المدة التي حافظ فيها على قسمه يضطر للرجوع إلى
حارته القديمة ليشهد فرح أخته.
لم يشأ أن يخطر أحد بموعد قدومه .. أرادها أن تكون مفاجأة .. يشتاق
لرؤية أهله رغم أنه يحرص منذ سفره على التواصل معهم كلما أتيحت له
الفرصة .. يغلبه الشوق لرؤية أخته الوحيدة حقا .. أخته التي تحمل
مسئوليتها بعد وفاة والده فأغرقها بمشاعر أبوة لم يظن يوما أنه يمتلكها .
تركها طفلة في بداية دراستها الثانوية وها هو الآن يعود ليشهد زفافها.
لم يصدق أن دورة الأيام كانت أسرع من حساباته و هو رجل لا يجيد أكثر من
الحسابات .. فرح أخته الصغيرة اليوم .. الطفلة التي كانت تعدوا
ببعض الحلوى كبرت لتعدو بفستان الفرح .. هز رأسه مبتسما و
بعدم
أمامه تلهو
تصديق .. تعمد أن لا يطلع أحدأ بموعد قدومه حتى لا يعطل ترتيبات
الحفل .. و تمنى لو تم الزفاف خارج الحارة لعله يتجنب رؤية أهلها و لكن
لم يكن الأمر بيده..
أسرع الخطا وسط الحارة .. تحسس حلته الأنيقة غالية الثمن و حقيبة
يده الوحيدة التي تحوى بعض الهدايا الثمينة .. سيبقى لعدة أيام فقط و
سيعود بعدها بسرعة .. أعماله في الخارج لا تقبل التأجيل .. و لن يمكث إلا
المدة كافية تسمح له بالأطمئنان على أخته و أمه قبل أن يعود إلى عالم لم يعد
ينتابه شعور بالراحة كثيرة خارجه..
تطلع إلى الحارة شبة الخاوية .. و شوارعها الضيقة المتعرجة التي خلت
وقتها من المارة .. يبدو وكأن الجميع في الفرح الآن .. تلك عادة الأفراح
الشعبية كما عرفها منذ صغره .. الكل يترك أعماله ليشارك فيها
سار يتمهل وسط الدكاكين المغلقة تعاوده بعض الصور من الماضي .. صور
تراكمت عليها أعوام طوال حتى ظن أنه نسيها .. تطلع فيما حوله
مستهزئا .. لا
.. لا يبدو و كأن يد التغيير أتت بجديد على الحارة طوال المدة التي
غاب فيها .. نفس الحارة القديمة بشوارعها المهملة لم يزدها مرور الزمن إلا
خرابا بعد أن ترك آثاره على بعض أبنيتها .. سار بتمهل يطالع المحلات
المغلقة على جانبي الطريق .. أبتسم حانقا و هو يتفحصها مستعيدا بعض
ذكرياته .. و تعاود ذاكرته رغما عنه حکایات و مواقف قديمة ربطته
بالمكان..
على رأس الحارة .. يقبع " مخبز الأمين " .. صاحبه فتحي الأمين ..
أسم على غير مسمى .. أبتسم بمرارة و هو تذكر كيف كان يقف هنا
بالساعات تحت نار الشمس الحارقة فقط ليبتاع بعض الخبز .. كم مرة تقاتل
فيها لأن شخصا تعدى على دوره في الطابور الطويل الذي يبدو و كأنه يمتد
بلا نهاية .. أو أحدا داسه بالأقدام في طريقه فوق رؤوس الناس للمخبز ..
يستعيد في مخيلته صورة تلك اللحظات و هو يصمد لاهث الأنفاس ..
ملابسه متسخة و العرق الغزير ينساب من جسده بقوة بينما فتحي الأمين
صاحب المخبز يقبع في الداخل ينفث دخان شیشته بهدوء و هو ينظر
للأجساد المتدافعة بلا مبالاة .. يقولون أنه يهرب الدقيق المدعوم إلى السوق
السوداء و يكسب كثيرة .. لا يهتم سوى بالنقود و ليذهب الناس إلى
.. أغمض عينيه و هو يسترجع تلك اللحظات المؤلة و أسرع الخطى
قليلا.
أدار وجهه بعيد حتى لا يتذكر المزيد .. شعور بالأشمئزاز تجاه حارته
ينمو بداخله ليسيطر عليه .. و المرارة التي يشعر بها في حلقة الآن لا سبيل
للتخلص منها .. تنبه إلى أنه توقف أمام محل " عباس الحلاق " .. هز رأسه
الجحيم
في حنق .. كم مرة جاء هنا .. كان والده يأمره دوما بالتردد علی عباس
صديقه دون غيره .. يتذكر كيف كان يأتي متأففا .. عباس الكهل العملاق لا
يجيد سوى قصة شعر واحدة يطبقها على كل الزبائن .. حاول كطفل ثم
کمراهق أن يطلب منه القيام بعمل تسريحة حديثة مثل باقي زملائه .. و
لكن عباس كان يستهزئ به و يصب لعناته على كل موضة جديدة و يتشبت
بتسريحته المعهودة .. كل مرة يخرج من عنده لاعنا أياه .. عباس ثرثار و
يتركه أحيانا على كرسى الحلاقة لفترة طويلة لينطلق للثرثرة مع صديق عابر
أو لشراء بضاعة ينادي عليها بائع متجول مر بالمصادفة أمام المحل .. يتذكر
كيف أنقطعت الكهرباء ذات مرة و أضطر للحلاقة تحت ضوء مصباح قديم ..
و عندما تطلع في المرآه بعد عودة الكهرباء ، کاد یبکی قهر بعد أن رأى
الجروح الصغيرة تعلو وجهه و رأسه .. لا ينسى يوم رسوبه في أختبار اللغة
العربية في أحدى سنوات دراسته الأولى .. حمله أبوه إلى المحل قهرا و أمر
عباس أن يحلق له شعره تماما كعقاب له .. توسل الي عباس و قاومه و لكن
الحلاق العملاق أمسكه بقوة و بدأ في عمله بلا رحمه .. لمدة شهر كامل
بعدها لبث في البيت لا يجرؤ على الخروج و رؤية الشارع حتى لا يعرض
نفسه لسخرية زملائه .. يستذكر دروسه و هو يصب لعناته على الحلاق و
الدراسة معا .. و لم يرسب بعدها أبدا
..
هز رأسه لعله ينسى تلك الذكريات .. واصل سيره .
.. عبر الحارة إلى
اليسار .. لاحظ أكوام من القمامة ملقاة بأهمال بجوار مطعم " صلاح الأدهم
".. تساءل بتقزز.. متى يصيب التحضر هؤلاء الناس .. تذكر المطعم ..
مطعم صغير يقف به صاحبه صلاح صباح مساء أمام موقد النار القديم ليعد
أقراص الفلافل الساخنة و الفول الذي طالما أمتلئت به معدته دون أن يجد له
بديلا يناسب ضالة مصروفه .. لا ينسى طعم الفلافل الساخنة التي تخرج من
زیت تحول لونه للأسود من كثرة الأستخدام .. يأكلها بلا نفس و يجرع
وراءها أكثر من كوب ماء ليتخلص من نارها على قلبه .. يتذكر حانقا كم مرة
وجد الطماطم فاسدة داخل الشطائر التي يشتريها في طريقه صباحا للمدرسه
، أو عندما يكثر عم صلاح من الملح كعادته على الطعام فيتحول إلى " فسيخ "
لا يستطيع تذوقه ..
لا يدرى لما تعاوده تلك الصور الآن .. ربما رؤية كل تلك الأماكن مرة
أخرى تثير ذاكرته للعودة للماضي قسرا .. يسرع في المشي قليلا .. يتجاوز
محل " عم عاشور الخياط " .. كم مرة خاط هنا ملابسه .. تذكر آخر مرة طلب
منه عمل بنطال .. و عندما أنتهى كان ضيقا لدرجة أنه لم يستطع أرتداءه .
طلب من الرجل العجوز تعديل المقاس .. و لكن الكهل أخذ وقتا كبيرا حتی
شعر بالندم لطلبه
عندما أنتهي تفاجئ بالبنطال واسعا جدا على جسده
..
.. و
الضئيل .. لم يشأ العودة إليه مرة أخرى .. و و
.و رمي البنطال في خزانته دون أن
يرتديه أبدأ
تحسس حقيبة الهدايا .. نظر إلى ساعة يده الغالية .. قطرات من العرق
تنساب منه .. سحب منديله المعطر و توقف ليلتقط أنفاسه قليلا .. ثم واصل
طريقه .. يقترب من محل عم " كامل البقال " .. يدعو ربه أن يكون
مغلقة ..
لطالما كره هذا الرجل .. عندما كان صغيرا أعتادت أمه أن تناديه يوميا عدة
مرات لشراء أغراض من البقالة بينما هو منغمس تماما في اللعب مع
أصدقائه .. يترك اللعب ثائرا و هو يلعن كثرة الطلبات و يلعن معها عم کامل
البقال .. لما لا تطلب منه أمه كل الطلبات مرة واحدة .. و لما لا يغلق عم کامل
دکانه مبكرا و يريحه من التردد عليه طوال اليوم .. يتذكر يوم أشترى بعض
الحليب من عنده .. و عندما توجه به للبيت أكتشفت أمه أنه فاسد .. غضبت
و أمرته أن يذهب و يسكبه في وجه " كامل الغشاش " كما صرخت في
وجهه .. كان صغيرة و خائفا .. ذهب و سكب اللبن بعيدة و أشترى غيره من
مصروفه من دكان بعيد .. لا ينسى محمود أبن عم كامل الذي زامله طويلا في
المدرسة .. كان لا يحبه و لكنه يضطر لأستذكار دروسه معه لأنهم جيران ..
أستراح بعدما نجح هو في الثانوية بينما رسب محمود .. يمر من أمام دکان
عم کامل .. الدكان مغلق و إن أبقى صاحبه بعض المصابيح مضاءة أمام المحل

انتحار فاشلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن