البيت الأبيض
من فيراكروز حيث رست الباخرة استقلا الطائرة الى مكسيكو ستي ونزلا في فندق صغير ولكنه راقيا تسوده الاناقة والترف غير الصارخ. كان المبنى حديثا يربط مسكيكو ستي بالحاضر. ومع ذلك فكانت تشعر ليلي بشيء ما يربطهما بالماضي عندما كانت تتمشى في الطرقات الصباح التالي مع رويز.
وقفا بجوار الكاتدرائية يتطلعان عبر الزوكالا التي كانت يوما موقع بلازا تينو كتيتلان العظيم حيث كانت نعال الآزتيك تطأ الارض يوما وأيمت على ارتفاع عشرين قدما فوق أطلالة العتيقة المدينة الحديثة التي لا تزال تسمع همسات الماضي... وتأمل رويز وجه عروسه وابتسم قائلا:
" هل يثير أهتمامك شعب الآزتيك القدامى كانوا من الهنود الحمر وحكموا المكسيك قبل الفتح الاسباني؟"
أومأت برأسها بدون أن تنظر اليه وقالت:
" لكم وددت دائما أن أجيء الى هنا!"
ولكنها لم تحلم أبدا بأن يكون مجيئها في هذه الظروف. وأردفت بصوت خافت:
" كأني بالماضي لا يزال بطريقة ما! أيبدو من البلاهة أن أقول أن بوسعي أن أغمض عيني وأعتقد حقا بأنني أراهم يسيرون؟"
هز رأسه وقال:
" كلا... فكثيرا ما شعرت شخصيا بهذا..."
وكأنما كان وقع اقدام الازتيك ينبعث هامسا في ردهات الزمن وزعماء قبائلهم يمرون والريش التقيدي يهتز فوق رؤوسهم وعيونهم الضاربة تبرق والمحاربون بدروعهم المحشوة باقطن والكهنة بجلابيتهم السوداء يمسكون بخناجرهم المصنوعة من الزجاج البركاني التي كانت تشق قلب القرابين من الضحايا الاحياء والنساء في ثياب بسيطة ولكنها عنية بالوشي المطرز وشعورهن السوداء مسدلة على أكتافهن وتتوجها أكاليل من الزهور... كل ما كان يمت الى وثنية الماضي الغنية.
قال رويز مشيرا بأصبعه:
" هناك يقع قصر رئيس الجمهورية على أطلال قصر مونتزوما ولا تدري سوى السماء أبة تحف دفينة تحت الزوكالا... لقد هدموا المعابد القديمة من أساسها..."
وهز رأسه وكأنه لا يقر تحمس أسلافه في اخفاء الحضارة القديمة تماما تحت حضارتهم. وبعدلحظة أشار اليها لكي تتبعه وراح يريها الحفر التي كشفت درجات المعبد الأكبر العتيق. ومضى في الحديث بهدوء فاذا الماضي يتمثل حيا... وكأنها ترى الخيال المعبد الأكبر كما كان يوما والاسرى يصعدون مئات الدرجات الى حيث كان الكهنةينتظرون عند القمة والحضور يترنمون لاسترضاء القوى الخفية وأشار رويز الى حيث كان حامل الجماجم والحوض الشمالي على شكل القارب ومعبد دائري لرمز الرياح وحجر القرابين والكأس الدائري الكبير الذي كان يستخدم لحرق القلوب.ثم قطح حديثه مبتسما وقال:
" لايمكن أن ننكر بأن بعض عاداتهم كانت سيئة جدا لكني كثيرا ما أرثي لضياع كل هذا."
ومضى يحدثها عما كان مقدرا للفاتحين الاسبانيين ان يجدوه وعندما وفدوا لأول مرة الى المدينة التي كانت تدعى إذ ذاك تينو كتيتلان... حدائق يانعة وبنايات بيضاء جميلة لم يكن بعضها ينم في البداية عن الاغراض الرهيبة التي كانت تستخدم لأجلها... كانت المدينة القائمة بين البحيرات تربط بين معابر وجسور وتعبر سطحها الازرق الزوارق تلوح وكأنها تبرز من حلم. وكانت المعابد الهرمية الشكل تعلو فوقبنايات المدينة وحامل الجماجم بزينته المخيفة ولو انهما كانا جاء! في تلك الايام لشهدا حجرا دائريا آخر يختلف في النقوش والغاية عن حجر القرابين الكبير... هنا كانت تمارس ألعاب رياضية قاسيى في أيام الاحتفالات اذ يربط أسير الى حجر وعليه أن يدافع عن نفسه بهراوة خشبية ضد غريم يمتاز بالاستحواذ على خنجر حاد من الزجاج البركاني.
قال رويز بصوت أجش:
" كان عادة يلقي حتفه... ميتة مشرفة حيث انه يقدم قربانا الى رمز الشمس تونتنتيوه.. وأحيانا كان الاسير يقاوم مقاومة بارعة تكسبه العفو."
" ماذا جرى للهنود بعد الفتح؟"
" أنهم لا يزالون باقين... مستذلين أبشع أستذلال لسوء الحظ ولكن قد تتاح لهم الآن فرصة."
كانت ليلي قد سمعت عن البرنامج التعليمي الذي قدمته الحكومة المكسيكية لأهل البلاد القدامى بعد ان كانوا مستعبدين لفترة طويلة.
سألت ليلي في فضول:
" الا يزال الهنود الموجودين كثيرين؟"
فأومأ رويز قائلا:
" حوالي خمسي سكان المكسيك من ذوي الدم الهندي الخالص. واذا استبعدت اولئك الذين فيهم بعض الدم الهندي فلن يبقى من السكان سوى جزء من عشرين من عدد السكان الحالي."
رمقته ليلي بنظرة فضولية وسألته:
" هل في عروقك دم هندي؟"
فابتسم قائلا:
" كلا. ليس فينا شيء من دم الآزتيك."
وتأملها وهو يقول مداعبا:
" هل خيب هذا أملك؟ أكان يزيدني أثارة وجود الدم العنهدي في عروقي؟"
قالت وعيناها تتراقصان:
" الى حد كبير جدا ولكني على أستعداد لتقبلك بدونه."
ضحك قائلا:
" أظنك تودين رؤية المتحف ما دام هذا شعورك نحو الماضي."
ووافقت على الفور فلما بلغاه أذهلها القدر الهائل من الآثار المستخلصة من ماض متباين المراحل مغرق في الدماء.
وبعد الغداء قاما بجولة مختلفة حيث اتجها الى المتاجر الحديثة وأصر رويز على أن يشتري لها برغم أعتراضها أي شيءكان يعجبها. مما أجبرها في النهاية على أن تلزم الصمت أذ شعرت بأنها أخذت أكثر مما ينبغي ولكن هذا لم يحقق غرضها تماما أذ بدا أنه اكتسب قدرة على قراءة أفكارها.
ثم تناولا العشاء في ذلك المساء في مطعم حديث ورقصا في قاعة للرقص واسعة بدرجة مدهشة. وكانت قد أكتشفت على الباخرة انه راقص بارع لم ينقصه المران وأن كان مسلكه السابق في العمل أوحى لها بأنه ما كان يحضر كثيرا من المناسبات الاجتماعية. كان رجلا يختلف كل الاختلاف عن ذلك الذي عرفته في المكتب حتى لم يعد يدهشها ان تكتشف جديدا عنه في كل يوم تقريبا. بل بدا انه كان يزداد تغيرا في كل دقيقة حتى أيقنت أنه سيأتي يوم سيبدو فيه غريبا لكل من عرفه حيث لم يعد فيه شيء من رويز آلدوريت الذي كان يمتلك مؤسسة مريديت
وفي اليوم التالي حضرا حفلة عشاء ومع انها كانت مستحيية في بادئ الامر فانها سرعان ما تخلت عن ارتباكها اذ تبينت أن في وسعها الكلام باسبانية مفهومة وأن تشترك في الحديث الدائر حولها. وبدا أن رويز مازال على أتصال بكثير من أصدقائه في المكسيك وربما انه جدد صلات التعارف في زيارته السابقة. كان أحد معارفه ممثلا شابا ذا شعبية كما بدا لها نشأ قريبا منه وكان كثير الحركة جريئا. ومع انها لم تكن قد امضت في مكسيكو سيتي أياما تذكر فقد عرفت اسم رامون تالمونت كواحد من أشهر الممثلين.
وأخذت تراقب رويز في السهرة وتنصت الى صوته الخافت وهو يتكلم الاسبانية بسرعة وطلاقة وشعره الاسود اللامع يتألق تحت الاضواء كان واضحا أنه لم يكن يختلف عن أي من الموجودين في شيء بل أنه رقص مثلهم وكأن في كل حركة من رقص اللاتينيين بهاء ووقعا موسيقيا. وشعرت بشيء من العذر اذ لم تتمالك ان تعترف لنفسها بأنها اكثر استمتاعا بالرقص معه, مما كانت مع بروس.
كذلك امتازت الامسية بحدث آخر هو أن أسمها الجديد لم يبد لها لأول مرة غريبا بل كان من الممتع ان يوجه اليها الحديث كسنيورا آلدوريت.
وفي اليوم التالي تناولا العشاء ورقصا معا على حدة وتكلما بالانكليزية ولكنها بعد أن سمعته يكثر من الحديث بالاسبانية لا سيما في الامسية السابقة بدت لها اللغة الانكليزية غريبة من شفتيه وهي التي تعودت سماعها منه طيلة وقت عملها معه.
وقالت له:
" أتعرف... أنني أفضل أن تتحدث الاسبانية."
ثم تضرج وجهها اذ تنينت انه ليس من حقها ابداء اية تفصيلات وقالت تعتذر بارتباك:
" أعني أنني..."
فابتسم قائلا:
" أنني أحتار أحيانا أي اللغتين لغتي."
فسألته:
" ألست تفضل احداها؟"
وأخلد للتفكير ثم قال:
" لا أدري في الواقع أنني أحب الاثنتين ولكن تعلمت الاسبانية اولا."
وعاد يبتسم ابتسامة غريبة الدفء ارسلت هزة عجب في نفسها وأردفت:
" لعل الجدير بي أن أدع القرار لك."
قالت وقد عاودها الارتباك مدركة أنه لم يعني ذلك:
" الآن وقد عدت لوطنك فسيكون من الطبيعي أن تتكلم الاسبانية."
استمرا بعد ذلك يرقصان فترة أخرى ثم أويا الى غرفتيهما المنفصلتين. ورأت ليلي في نومها حلما بالغ الغرابة. بدا كأن ستيلا ظهرت لها فجأة وقالت:
" ان ما حدث كان خطأ وأنها لم تكن راغبة في بروس حقا فلها أن تستعيده اذا أرادت." كان هذا في حد ذاته سخفا ساذجا ولكن الذي أدهشها حقا هو أن الحلم أقنعها بأنها لا تريد استعادة بروس. أذ قالت:
" أنني أوثر أن أبقى كما أنا..."
وعندها ظهر رويز فجأة في الحلم وابتسم لها أبتسامة دافئة الابتسامة التي بعثت في نفسها الدفء في وقت سابق من الليل.
في الصباح التالي أحضرت لهما السيارة السوداء الكبيرة التي اشتراها رويز في زيارته السابقة وكانت أولى جولاتهما فيها في بقعة كالدي تاكوبا الممتدة على طريق مرتفع قديم - الى تلاكوبان - حيث تقهقر القائد كورتيز وهو كسير القلب وحيث ظلت شجرة السرو القديمة التي بكى تحتها القائد الشهير تجسد الصلة بالماضي وحيث انشئت كنيسة في الميدان الرئيسي في ازكابوتزالكو العاصمة العريقة لزهماء التولتيك والتبانيك وفي الطريق العودة الو مكسيكو سيتي عرجا على البقعة التي كان الهنود يوما يكرمون فيها تونانتزين رمز الامومة لدى الآزتيك.
كانت ليلي في بادئ الامر مترددة في الاسراف في ابداء اهتمامها بماضي المكسيك لكيلا تضجر رويز ولكنها حين تبينت أخيرا أنه كان يستمتع بهذا الماضي قدر استمتاعها لم تحاول أن تكبح اهتمامها وأخذت تبتسم لنفسها كلما أدركا أنه كان يفخر بأن يريها معالمه. كان يحب ماضي هذه البلاد وحاضرها ثم كان هناك كارسترانو... لا عجب في أنه كان على أستعداد لأن يفعل أي شيء ليظفر بالميراث الذي كان في انتظاره.
بعد أسبوع اشبعا فيه حبهما للماضي قررا أن الوقت حان ليمضيا الى كارسترانو. ومع ذلك فانهما قطعا الرحلة ليعرجا على تيو تيهواكان, حيث كانت الحكومة تنقب عن المدينة التي كانت عظيمة يوما ما. وما زالت الاطلال توضح بعضا من عظمة الماضي وأمجاد. كانت تيوتيهواكان أولى مدن المعابد المقدسة وأعظم مدن عشائر التولتيك موطن أولئك المعماريين والميكانيكيين المحفوفين بالغموض والنجارين والزراعيين البارعين كان وادى تيوتيهواكان بأكمله ثلاثة اميال ونصف الميل طولا وحوالي ميلين عرضا فكأنه طريق ممهد.. وقد تناثرت في المساحة كلها أطلال بنايات فخمة هجرت... قبل مجيء الاسبانيين الى المكسيك.
أدركت ليلي أن هذا الوادي أكثر ما سيلصق بذاكرتها والتفتت خلفها أكثر من مرة تتأمل الاهرام وهي تتلاشى عند الافق. وعادا بعد ذلك الى الطريق العامة المفضية الى كاراسترانو وتوقفا عند فندق كبير لبتناولا الغداء فرأت ليلي عددا كبيرا من السياح وسمعت اللهجات الاميركية ولكن المكان الذي تناولا فيه العشاء وقضيا فيع ليلتهما كان بيتا اسباني الطراز على النمط المعماري القديم في عهد الاستعمار وقد حول الى مطعم تعلوه بضع غرف فسيحة. وبعد افطار خفيف في الصباح التالي استأنفا رحلتهما بالسيارة.وكان اليوم قد انتصف تقريبا عندما اقبلا على قرية صغيرة وراء حدودها مباشرة مخفض رويز سرعة السيارة والتفت اليها مبتسما وسألها:
"أتودين أ تذهبي الي عرافة؟"
فأجابت على الفور:
" أحب هذا..."
![](https://img.wattpad.com/cover/260627265-288-k577711.jpg)
أنت تقرأ
14 - الزواج الابيض - نيرينا هيليارد - عبير القديمة ( كاملة )
Romanceالملخص/ شقيقتان الجميلة الموهوبة اعتادت منذ الطفولة أن تأخذ كل شيء يخص اختها حتى خطفت منها خطيبها فما كان من ليلى ديرمونت الا أن تنحت مفسحة في المجال امام شقيقتها صاحبة السحر الذي لا يقاوم وقبلت عرضا بزواج أبيض ... زواج خدعة هدفه حصول مديرها الاسبان...