كل ما أذكره..بعض الوجوه ..بعض الأصوات التي لا تزال تتردد في رأسي كان الأمر صاخبا مخيفا في البداية مشوشا بطريقة أفزعتني حتى أصبحت لا أريد أن أتذكر شيئا كنت أهرب من أسئلة الأطباء و من ترددهم على غرفتي الكئيبة. كنت أعرف أنهم يحاولون إخفاء شيء ما.. شيء جعلني أفزع أكثر من دون أن أعرف ما هو , بل جعلني أجزم في قمة ضياعي أن الشيء الوحيد الذي أوقن هو عدم رغبتي في محاولة تذكره بعد أن صرت أقرأ في عيونهم أنه يدينني لا محالة . وتيقنت اثر استيقاظي من ذلك الحلم الطويل الذي زعم الأطباء أنه دام لستة أشهر و بضعة أيام بضرورة هروبي من هذا المكان الذي يخيفني بياضه المبالغ فيه و الذي يتميز ببرودة مزعجة تسري في أوصالي فتمنعني النوم ليلا رغم وجود السخان على مسافة ليست ببعيدة.
كنت أهرع إلى النافذة التي تطل على شارع كبير لا يخلو من المارة و لا يحوزهم عنه ظلام ليل أو برد شتاء كنت أشعر بما لا مجال فيه للشك أنه يؤنسني فلا أحد يأتى لزيارتي مذ أفقت و كان ذلك يؤلمني أكثر من نوبات الألم التي تتملكني كل يوم إلى درجة النحيب كالأطفال ... كنت قد رأيت تعاقب الفصول في غرفتي هذه و كان الذي يأتي لا يختلف عن الذي سبقه في نظري إلا في أنه أكثر كآبة أو في أن أعرف حين أرى أول نزول للثلج بأنني سأحتاج لبعض الأغطية-على غير العادة- كي أتدثرها ليلا . كان الوقت يمضي طويلا لئيما كضيف ثقيل لا يريد مغادرة بيتك إذا ما حل عندك , كنت أرى في ذلك ضرورة لإسراعي بالهروب خصوصا بعد أن كنت قد استعدت بعض عافيتي و كنت فد لاحظت بعض الراحة في وجه الطبيب حين يأخذ لوح الملاحظات المعلق في مؤخرة سريري كي يرى تطور حالتي و كنت قد لاحظت أيضا تزامن ذلك مع قدوم رجلين من البوليس يترددان على غرفتي هذه كل فترة لكنهما يسارعان بالعودة بعد حديثهما مع الدكتور المشرف على حالتي. في البداية أصابني ذلك بفزع شديد بل و أكد لي ما كنت قد قررت قبلها بما هو مجرد هلاوس ناتجة عن حالتي الصحية و النفسية حديثة التحسن و التي كانت السبب الذي يحثني على الهروب الذي كنت قد عدلت عنه قبل بضعة أيام ,و قد رعبت أيما رعب حين رأيت الحرس على باب الغرفة يومها فأدركت حينها بأنني و إن كنت في خطر لسبب أجهله الآن حتما فان احتمالية هروبي أو عدم معرفتي بما سيوجه إلي قد ألغيت تماما . بيد أن تفكيري في ذلك الوقت لم يكن موجها كما سيعتقد البعض إلى القلق حول ما فعلته مسبقا و إنما كان كل ما يدور بخلدي و يؤرقني حين تسدل ستائر الظلام معلنة عن نهاية يوم طويل هو إذا ما كنت قد أبديت شيئا من الخوف حين رأيت ذلك الحارس لأول مرة , كنت أخشى أن يخبر زملائه من البوليس عن ما بدر على وجهي وقت رأيته قابعا أمامي حين هممت بالخروج لأتمشى و يظن بي الظنون , فما وجدت من حيلة يومها غير أن أأكد على حقيقة أني مريض و أن حالتي لم تتبادر إلى الشفاء بعد و أنني مازلت أعاني من فقدان للذاكرة كما شخص الأطباء حالتي و الحق أنني كنت كذلك فعلا غير أنني لم أشأ أن يفهم قلقي على شكل يجعله يشك باسترجاعي لذاكرتي أو بأنني أعرف لما يعتكف ذلك الرجل على باب الغرفة التي حبست فيها و صرت بعد تذمري منها و من كآبتها أجزع من فكرة أن أقاد إلى مكان أشد كآبة غير أنني أشك في أنه أكثر بياضا
كل ذلك قادني إلى شيء واحد مؤكد حينها,أصبت ليلتها بصداع لم أشهده منذ لازمت هذه المستشفى كل ما بقي في ذهني الآن من كل تلك الليلة هو اقتحام مجموعة من الأطباء غرفتي و تبادلهم لنظرات قلقة زادتني ألما عن ألمي في حين عمدت ممرضة إلى إيلاج إبرة في أحد عروقي جعلتني أهدئ بعض الشيء ثم رمقتني بنظرة ملئها الشفقة و انضمت مجددا لزملائها الذين لاقاهم التعب جراء نوبتي الغير متوقعة في هذه المرحلة "المتقدمة" من العلاج كما وصفها الطبيب المسؤول على حالتي كما ساعدوا جميعهم في حملي على الوقوف حين كنت أتلوى أرضا و أصرخ حتى تمكن أحدهم من ربطي لإيقاف حركتي العشوائية التي عرقلت عملية تخديري لحظتها ...كانت ليلة صعبة على الجميع بالفعل أما أنا فقد بقيت ممددا للصبح على ظهري و عيني زائغة معلقة في السقف لا أقوى على الحراك و لا حتى التفكير أظنني كنت نائما بعينين مفتوحتين ببساطة في حين كنت أسمع و أرى كل شيء. كنت أستشعر انقشاع الظلام من خلال النافذة في الخارج فعلمت أن الفجر قريب البزوغ و كان أثر التخدير قد بدأ في الزوال و حينها تناهى لمسمعي كلمات مبعثرة لأصوات عرفت بعض أصحابها و جهلت بعضهم و كانت عائدة لطبيبين أعرفهما و رجل آخر أظنه الحارس الذي يقف على باب غرفتي كان الصوت عميقا فيه خشونة أيقظتني تماما و تذكرت حينها كل ما حدث معي في الأمس فشعرت براحة غريبة حمدت الله على تعكر صحتي البارحة لعل ذلك يعفيني من رؤية الشرطيين اللذين أصبحا كثيرا التردد هذه الأيام على المشفى, وسرعان ما أفقت من لحظة السلام تلك و أطرقت السمع لعلي ألتقط بعض الكلمات..
علينا باستجوابه في الغد -
لقد أخبرناكم بضرورة أن يحظى بالراحة التامة..ثم إن حالته لم تعد مستقرة -
ثم أردف آخر مفسرا
ثم إن تعكرها بتلك الطريقة المفاجئة في الأمس تستوجب منا القيام بعدة تحاليل قصد متابعة تطوراتها الجديدة-
عاد ذلك الصوت يعيد باستسلام لا يليق به
إني مأمور أرجو منكم التعاون-
ثم تمتم أحدهم ببعض الكلمات المبهمة فهمت فيما بعد أنها التحاليل التي ستجرى علي في القريب بحيث يؤجل الاستجواب إلى حينها
.و حينها فقط أدركت حجم ما ينتظرني من أخذ و رد فلمأملك إلا أن أسلم أمري للرب و أنتظر ما ستؤول له الأمور من بعد هذا
أنت تقرأ
كانفاس
General Fictionايريك فتى عشريني يفتح عيناه فجأة في مستشفى في احد ضواحي نيويورك ليجد نفسه محاط بجوء من الارتياب و الغموض و في وسط ضياعه و توجسه تمد له يد مرتعشة لمسن و عائلته ذات الجذور و العرق المختلفة و تتولى مهمة تذكيره بهويته أو تراها تعيد كتابتها على بياض؟