الحق أن العم يعقوب كان رجلا صالحا مع القليل من الثرثرة. كما أنني لمست فيه من الطيبة ما جعلني أتحاشى الدخول معه في جدالات لا طائل منها. كان يرى في و في آدم ما يجعله يرمقنا بنظرات الاعجاب كلما قدما لزيارتي .كان يعتبرنا مثقفين، نبشر بمستقبل واعد كما كان يقول أشياء تفيد باننا سنكون الجيل الذي سيحرر فلسطين و سيجلب الفخر للعرب، و الحقيقة أنني لم أكن ألقي بالا لما يقوله والى جانب أنني لم أكن مهتما كنت لا أفقه شيئا مما يتحدث به عن الحلم العربي الا بعد محادثاتي الطويلة مع نجله فقد كان دائما ما يطلعني عن ما يجري في العالم الخارجي بعد أن كنت قد قطعت معه لمدة كفيلة بجعلي لا أعرف شيء عما يدور من حولي.
أضف الى ذلك فقداني الجزئي لذاكرتي و الذي اتضح فيما بعد أنه يقتصر عن عدم تذكري للفترة الأخيرة التي عشتها قبل الحادثة و الحق أن مع قدوم آدم الذي سآتي على ذكره كثيرا قد بدأت أتماثل للشفاء بشكل أثار استحسان الأطباء و الذي أدى الى قرارهم هذا الكامن في تصريح الخروج أخيرا، كما أني لم أتذكر آدم هذا في البداية لكنه بدى مألوفا بشكل غريب لدرجة أني ربطته تلقائيا مع ما كنت أخشاه عند رؤيتي لرجلي البوليس وقتها.
لكن كل ما أستطيع قوله الآن أن الأمر كان مختلفا تماما و أن مخاوفي حينها لم تؤدي الا لنوبات من اللآلام في منتصف الليل التي كنت في غنى تام عنها .
أما صديقي هذا فقد كان مدعاة للفخر فعلا فهو يستحق تلك النظرات المحبة من أبيه رغم أنه كان يقابلها بحياء مفرط لم يزدني الا تقديرا له و تثمينا للعلاقة الغريبة التي صارت تجمعنا بين ليلة و ضحاها. غير أن ذلك لم يترك مجالا للغرابة أو الكلفة بيننا و ربما يكون ذلك عائدا أساسا للألفة التي أحسستها منذ رأيته لأول مرة أو ربما لطبعي الذي يميل لانشاء الصداقات بسهولة رغم أنني لا أحسن المحافظة عليها جميعها ..
و لأصدق القول فإني وجدت في آدم من الأمور ما لا يمكنني التفريط فيه بسهولة فلا طالما أردت أن ألاقي أشخاصا ذوي تركيبات فريدة يجمعون بين صفات لم أظنها قابلة للجمع من قبل .. و لكي أكون أكثر انصافا فان ذلك ماجذبني نحوه بادئ الأمر الا أنني سرعان ما انجرفت في سحر شخصيته الخاطفة و كففت عن التحليل اللا ارادي الذي أغوص فيه كل ما قابلت شخصا جديدا.
فهو ليس ككل الشخصيات النمطية التي حفظتها من شدة تشابه ملامحها و التي أدت بي في النهاية الى تصنيف الناس وفقها ولا أظن العيب في أني قد أبدو ميال للحكم دون سابق معرفة بالشخص نفسه بل اني أرشح في أن الخلل كامن في شدة التشابه بين أغلب البشر أو كل من قابلتهم في حياتي على الأقل ...
و بالعودة لأول معرفتي به فقد لمست فيه مزيجا من الملامح التي لم أعهدها من قبل أدت بي الى حالة من الصدمة أو الانبهار المبالغ فيه اذ أن ذلك لم يكن راجعا لشدة روعته آن ذاك بل هو نابع من عدم قدرتي على ضمه لاحدى الخانات التي أحب أن أرتب فيه أشباح أشخاص عرفتهم ذات يوم و بذلك فان قصة اعجابي هذه خاصة لأبعد حد و لكنه نفسه أحد أسبابها و محركيها لا محالة و انما بطريقة غير مباشرة .
كلما جذبني في آدم ببساطة منوره للأمور و طيبته وذكائه و حقيقة أنه لم يسبق لي أن صادفت أشخاصا في عمق تفكيره و تلقائيته أو في تدينه و سلاطة لسانه اذا ما حدثني عن الأوضاع في الخارج أو اذا جرنا العم جاكوب جرا الى الحديث في الشأن العربي فبقدر ما كنت ألاقيه بامتعاض بقدر ما كنت أرى تلك الابتسامة المريرة التي ترسم فجأة على شفتيه كلما جئنا على ذكر ما تبقى من الوطن العربي آن ذاك و الذي كان يشهد بدوره حركة كبيرة و غير اعتيادية كانت لوحدها كفيلة بجعل أنظار العالم تلتفت اليه .
حينها بدأت أسترجع ما فاتني من تطورات مع كليهما بل صرت أحرض العم يعقوب على أن يأتي علينا بذكر شيء عن حلمه العربي حتى أكتشف ما يدور برأس آدم في ذلك الشأن الى أن تطور الأمر معي وصرت أشبه بمدمن على الاستماع الى رأيه فقد كنت أجد أيما لذة في مناقشته و محاججته التي كانت تختلف كل الاختلاف عن أبيه حتى اني صرت أحس من خلال محادثاتي مع العم أنه صار يحفظ ما يقوله ابنه كأنما يلقنه لنفسه لعله يحظى بشيء من التأييد بيد أنه كان قد أورث آدم كل الطيبة دون أن يعده في المقابل بحمى تناقض الأفكارالتي تنهش عقله و التي كثيرا ما تأخذ نحوا مضحكا بين الحين والآخر من شدة تباينها .
وطالما كنت ألمس في محاوراتهما احترامهما الشديد المتبادل رغم الفارق الملحوظ بينهما في كل شيء تقريبا. بل قد زاد تقديري للابن حينما لم يكن يحاول التجريح في معتقدات ابيه رغم أنني كنت أعرف رأيه الصريح فيها و أنه قادر على تغييرها ببعض الكلمات التي يلقيها عليه فما تلبث الا أن يكون لها مفعول السحر الذي يجعل والده يحفظها بل و يتبناها في نقاشاته القادمة .
وكنت أرى في عينه كل الفرح اذا ما أثنى ابنه على أحد آرائه الجديدة رغم علمه التام بأنها متبناة حديثا.
أما أنا فقد كنت أسخر بادئ الأمر بيني و بين نفسي من ترهات هذا الرجل الهرم و اعتبرتها ضربا من الاعتقادات التي لا طائل منها، بل أسفت حينما علمت لاحقا أنه بالفعل يوجد الكثير من العم يعقوب في المنطقة العربية لأنني كنت أوقن أنهم لا يجيدون سوى التمني و كنت أعرف حق المعرفة أنه لا طائل منه في غياب الفكر وفي متلازمة الأيدي المكبلة التي يعاني منها العرب منذ سنين. كنت أعلم أن الأحلام المقعدة لا تفك القيود الثقيلة كنت أأسف بشيء من السخرية من كل جيل يمضي مؤتملا في مباركة سماوية لتحل على الجيل الذي يليه لعله يكون فيه الخلاص .
كنت أعرف أنهم لا يتقنون سوى الانتظار .هم هكذا دوما، دائما ما تراهم في انتظار مرسل ما، خارق ما، يأتي ليكون المخلص.
و هكذا تمضي سنين و كل جيل يظن أن مخلصه في الجيل الذي يليه و في انتظار مهديهم هذا لا يحركون ساكنا فالجميع بطبعه يتآمر عليهم و لك أن تسأل ان كان هذا "الجميع" جزعا من وحدتهم أم من تقدمهم فلك كل الحق في ذلك لكن اقنع لي في المقابل عربي بأنه هو نفسه هذا "الجميع" الذي يعيق طريقه و يتآمر عليه و ان فعلت فلك عندي حلم عربي قد يبدأ في التنفس ان حصل و حوكم فعلا هذا "الجميع" ووقعت ايدانته و محاسبته.و الحال أن العم جاكوب و أصدقائه قد يفلحون في الادانة لكن لا يجرؤون على المحاسبة و لا يزالون كذلك..
أنت تقرأ
كانفاس
Narrativa generaleايريك فتى عشريني يفتح عيناه فجأة في مستشفى في احد ضواحي نيويورك ليجد نفسه محاط بجوء من الارتياب و الغموض و في وسط ضياعه و توجسه تمد له يد مرتعشة لمسن و عائلته ذات الجذور و العرق المختلفة و تتولى مهمة تذكيره بهويته أو تراها تعيد كتابتها على بياض؟