يصطف الرجال جنباً إلى جنب بوجوههم الجديّة و أذقانهم العالية, مجدداً بنفس الحلية والملامح التي ارتدوها الأسبوع الماضي في مناسبة تختلف عن هذه تماماً, هناك ودعوا رجل وهنا يحل آخر مكانه.كان هنالك مكان شاغر في المنتصف أُعِد خصيصاً لأجلي, عجبي على ما يطويه القدر تحت ردائه الأسود، منذ أقل من شهر شغل رجلٌ المكان الذي أقف به أنا اليوم بعد وفاة شاغله الأسبق والذي بدوره قام بشغل المنصب لأقل من شهر أيضاً. ومنذ أسبوع بالضبط, حُرِق الأول كعود كبريت, ككائن لم يكن، والثاني تفسخ جسده في الهواء, وحان دوري لإستلام تذكرة القطار السريع نحو الجحيم أو الظلام الدامس، فما محتومٌ عليّ سوى إحداهما. مشيت بصعوبة أثر العرج الذي يتلبس ساقي اليسرى كشبح مريض. الرجال كانوا في إنتظاري, منهم من وقعت عيني عليه, أبتسم لي وهز رأسه بفخر, ومنهم من خشي مبادلتي النظر. اكتفوا بالتحديق إلى شيء أبعد, خائبوا الظن والأمل, ذقونهم استمرت بالارتفاع وتكشيرة وجوههم تصلبت على حالها, كأنهم غارقين في بحور أفكارهم الخاصة، على الأغلب يتراهنون فيما بينهم على الطريقة التي سأموت بها بعد شهر من الآن.
رفعت يدي ناحية رأسي, أحيي رؤسائي وزملائي الطيبين الذين وجدوا مني فرداً كفوئاً وغير محظوظ بما يكفي كي أشغل المنصب الذي مُرر إلي.
أدرت ظهري نحوهم وأرحت جسدي, أهيء كل حواسي على الظهور بهيئة تقارب هيئتهم, لتضيع ملامحي بين ملامحهم ولا يبدو عليّ الخوف الذي يخرج من أذُن ليدخل بالأخرى, جاعلاً من رأسي كرة تتشقلب حول حمم هائجة.
أعدت ذراعي للخلف ومددت قدمي اليسرى خطوة واحدة للأمام كباقي الرجال خلفي, صدر صوت من الآلة جعلني أجفل قليلاً, وأُلتقطت الصورة الجماعية وسار الرجال للداخل معلنين عن بدء الحفلة.—-
"لن يبقى شيء وسننتصر بهذه الحرب النكراء يا صديقي, أستطيع رؤية النصر في الغشاء الذي يغطي قزحيتك التي رأت ما لم يراه أنسياً! قدنا إلى النصر, هاه؟" مال جاك-پيير ناحيتي وأخذ يصرخ تلك الكلمات التي بقيت تتردد في ذهني على طول الأمسية, أرددها مراراً وتكراراً لمعرفة إن كان يعني ما يقول أم حسه الفكاهي أصبح صعباً عليّ لأفهمه.
لم أعلم كيف أرد, وسكوتي الطويل أخذ يشغل غيمة خانقة بيني وبينه, بالإضافة إلى الرجال الذين يشكلون دائرة حولنا وعلى وجوههم إبتسامة مزيفة أصبحوا هم أيضاَ ينتظرون ردّي مما زادني قلق. اكتفيت بالابتسام والإيماء, متجنباً الإيجابية التي قد تجعل مني وغداً متغطرساً, والسلبية التي ستجعل كل من حولي يبصق عليّ ويوبخني."معاً, سننتصر. نخب فرنسا!"
كانت فكرة إقتراح النخب ذكية من ناحيتي لإشغالهم, فكل ما على الأفعى أن تفعل هو ترنيم أنشودة وطنية وستجد الرجل الفرنسي الأعتيادي يصيح بها ويحييها بأعذب الكلمات المبتكرة في القاموس الفرنسي. أخذت صيحاتهم تتعالى وأخذوا يشربون كأس بعد الآخر, لم ألحظ وجود فرق بتاتاً بين اليوم والأسبوع الفائت الذي أقيمت به جنازة نيكولاس, الكلمات والكؤوس المتطارقة ببعضها, كدّت أفقد جنوني معهم وهيمنت عليّ فكرة إن بعد أيام من الآن سيعاودوا الإجتماع في جنازتي, بنفس الحلية والملامح, لا محالة.
أنت تقرأ
Hidden Letters - رسائل مخفية
Historia Cortaمجموعة من القصص القصيرة التي أخفت طوال سنين على هيئة رسائل مخفية. 2nd of November, 2019