"الجزء الثالث"

1 1 1
                                    

مر يومان..وخرجت "فرحة" من المشفى...كانا من أصعب ما يكون على "فرحة" و والدتها ...صار على والدتها البحث عن عمل ...فلا يوجد من يعولهم من بعد وفاة والد "فرحة"... و أقاربهم منهم المتوفي منذ زمن.. ومنهم من لا يعرف عنهم شيئاً...
مر أسبوع آخر و حالة " فرحة" شبه مستقرة...تمر بها حالات هستيرية ..وأخرى هادئة تمامًا...كانت لا تخرج إلى الشارع إلا نادرًا ..وعندما يأتي وقت وتخرج ..تضع سترتها الواسعة على كتفيها..حتى لا يظهر أن ذراعها مبتورة...وتكرر مرتان أن سقطت السترة من على كتفيها..فسمعت بعض الشهقات ..وبعض الهمهمات ...رفعت نظرها لترى في عين البعض نظرات الشفقة ..وترى في البعض الآخر ..نظرات النفور ..!!!
قتلتها هذه النظرات من الداخل ..سارعت بوضع السترة على كتفها و حثت الخطى وعينيها تجاهد لكي لا تسقط منها الدموع...
وتكرر أيضاً أن سخر منها بعض زملائها عندما كانت تقابلهم ..يعايرونها بذراعها المفقودة ..!!.كانت أمها معها في بعض الأحيان ...كانت توبخ الفتيات بشدة...أشفقت على ابنتها وحاولت مواساتها...لكنها لم تكن تدرك شيئاً عن ما تعانيه "فرحة" نفسيًا أكثر من معاناتها الجسدية ...!!
كانت والدتها تحاول أن تقنعها بالبقاء في البيت وعدم الخروج...بسبب النظرات التي تراها في عينيّ ابنتها من ألم وخذلان وحزن...من نظرات الناس لها...لكن "فرحة" لم تكن تستطيع البقاء في البيت لفترات طويلة متواصلة ...فـ "فرحة" شخصية حركيّة للغاية ..ناهيك عن ذكرياتها مع والدها في جميع أنحاء المنزل...
هنا كان يتحدث معها عندما ارتكبت خطأ ما...وهنا كان يمازحها...وهنا كان يستذكر معها دروسها ...وهنا ..وهنا ..
كانت هذه الذكريات تؤلمها للغاية ...فلم تجد مفراً الا المكوث في غرفتها طوال الوقت ..أو الخروج للتجول في الشوارع الغير مزدحمة...
وفي إحدى المرات كانت تجلس في غرفتها على سريرها بدون حركة...فجأة نهضت من على سريرها وخرجت تنادي على والدتها :
أمي ...يا أمي ..
خرجت والدتها من المطبخ على ندائها...قالت :
نعم حبيبتي.. هل هناك شيء؟
قالت "فرحة" :
أود الذهاب للتمشية قليلاً...مللت من الجلوس ...
قاطعتعا والدتها قائلة برجاء :
يا "فرحة" ابقي في البيت ..في كل مرة تعودين حزينة ...لا لزوم لها ...
قالت "فرحة" برجاء مماثل يشوبه بعض الحزم :
يا أمي ..لقد اعتدت ..وأنا على كل حال لن أسجن نفسي في غرفتي بسبب بعض الناس ...
استسلمت لها أمها قائلة :
حسناً حبيبتي ..لكن لا تتأخري ..
ذهبت إليها "فرحة" ..قبلتها ثم قالت :
حاضرة..لن أتأخر إن شاء الله..
بدلت ملابسها ثم اتجهت إلى خارج المنزل...سارت كالعادة في إحدى الطرق الجانبية الخالية نسبياً من الناس...وصلت إلى المكان التي تجلس فيه عادة ..لكن تعجبت..!!
لم يكن المكان خاليًا ..كانت تجلس فتاة تبدو بمثل سنها...اقتربت منها ..حتى ظهرت لها ملامحها كاملة ...ألقت السلام ثم جلست بجانبها ..ابتسمت لها الفتاة وردت التحية بصوت منخفض...بالكاد سمعته "فرحة"... ظلتا صامتتين لفترة حتى قطعته " فرحة" قائلة :
أراكِ للمرة الأولى هنا ..انتِ لم تأتِ هنا من قبل ..صحيح ..؟
ردت عليها الفتاة بصوت هادئ نسبياً :
نعم... أنا لا أجلس في هذا المكان..لكنِ أدور حول المكان هنا...و أراكِ..ما اسمك ؟
أجابتها "فرحة" وقد جذبها مظهرها الطيب :
اسمي "فرحة".. وأنتِ ؟
أجابتها الفتاة بابتسامة جذابة :
اسمك جميل يا " فرحة" ..انا اسمي "شفاء" ..
قالت "فرحة" ضاحكة :
"شفاء".. !! اسمك غريب يا " شفاء"..لكن جميل ..لقد أحببته ..كما أحببت صاحبته ...
ضحكت "شفاء" :
وانا أيضاً يا "فرحة" ...ما رأيك أن نكون أصدقاء ..و نتقابل هنا كل مدة...؟؟
فرحت "فرحة" كثيراً...لكن سرعان ما تذكرت امر ذراعها...هل ستبقى "شفاء" كما هي ..إن علمت أمر ذراعها ؟؟
اختفت ابتسامة "فرحة" ..وظهر بدلًا منها ملامح الحزن ...لاحظت "شفاء" تبدّل ملامحها...فسألتها باستفهام :
ماذا هناك يا "فرحة" ؟؟ هل ضايقتك ؟؟
سارعت "فرحة" بقول :
لا أبدًا .. بالعكس .. أنا سعيدة أني تعرفت عليكِ ..لكن..!!
قالت "شفاء" تحثها على استكمال حديثها :
لكن ماذا.. ؟
قالت "فرحه" بأعين لامعة من الدموع التي غزتها :
تعرفين يا "شفاء" ..هذه المرة الأولى التي أعتاد فيها على شخص ما... أو لا...ليست المرة الأولى...لكن أتعرفين.. معكِ أحسست باحساس مختلف..انا فعلا أحببتك..لكنِ خائفة ..
سألتها "شفاء" بتعجب :
خائفة !! ..خائفة من ماذا ؟؟
أجابتها "فرحة" وهي تغمض عينيها ألماً من تذكر أحداث تلك الحادثة المؤلمة :
حدثت حادثة من مدة و...و.. و بترت ذراعي..!!..و أنا خائفة أن تفعلي مثلهم..وتنفري مني ..
قالت جملتها وانخرطت في بكاء شديد ..ظهرت معالم الصدمة على وجه "شفاء" لكن سرعان ما اختفت وحلت محلها ابتسامة خفيفة ..ربتت على كتفها قائلة : وماذا في الأمر...أعرف أن الأمر صعب..لكنه ابتلاء من الله ..قدّر الله وماشاء فعل..وأيضاً انا لن أقلدهم...ما ذنبك ؟؟...
كانت حادثة ..لا تبكي ..
رفعت "فرحة" رأسها بسعادة قائلة :
حقاً !! لا تمانعين من مصادقة معاقة ؟؟
ظهرت معالم الضيق على وجه "شفاء" :
أية معاقة ..؟...
انتي جيدة للغاية... لا تقللي من قدر نفسك هكذا...
احتضنتها "فرحة" بسعادة :
لقد أسعدتني للغاية يا "شفاء"..أكرمك الله...
شاركتها "شفاء" الحضن ضاحكة :
ستكونين أفضل صديقة من أصدقائي ... أنا موقنة بذلك...
خرجت "فرحة" من حضنها قائلة باستفهام وابتسامة تزين وجهها :
لماذا ؟!!..ما الذي جعلك تجزمين بهذا ؟!!
قالت "شفاء" :
أنا لا أملك أي أصدقاء حالياً ..افترقنا جميعًا ..أو بالأحرى أنا من ابتعدت...انتِ صديقتي الوحيدة الآن...أحببتهم ولكن كانوا صحبة سوء..!!
قالت "فرحة" بتعجب :
كيف لا تملكين أصدقاء ..؟؟..
أقصد لماذا افترقت عنهم ..كان من الممكن ألا تكوني مثلهم فقط ..!!
قالت "شفاء" بابتسامة :
هذا لا يمكن ..لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل}..فمن غير الممكن أن يصادق المرء من يختلف عنه في الخلق والطباع ولا يكون مثله ...ثانياً..ما جعلني أفترق عنهم نهائياً هو أني شعرت أنهم يؤثرون علىّ بالسلب ..صرت أصرخ بوجه أمي..صرت أتأخر خارج البيت ..وهكذا ...
لكن بفضل الله أفقت من هذا الذنب الذي كنت مستغرقة فيه وابتعدت عنهم...كما أن العيش بدون أصدقاء  ليس مستحيلاً..
بحكم أني جربت..الصداقة شيء جيد وجميل..لكن ليس كما يصوره البعض بشكل مبالغ فيه...أنه لا يمكن العيش بدون أصدقاء أو هكذا...كما أنها تكون كما أخبرتك مضرة إن أثرت عليك بالسلب ..!!
أومات "فرحة" برأسها قائلة باستهزاء:
صحيح...ماذا أخذنا من الأصدقاء غير الخذلان والسخرية ..؟
ربتت "شفاء" على ركبتها بحنان ...
تابعت "فرحة" وهي تنهض :
حسناً أنا مضطرة أن أرحل..أمي ستقلق عليّ..فلنتقابل هنا غدًا في نفس الميعاد ..؟
نهضت معها "شفاء" قائلة بابتسامة :
حسناً...أجل إن شاء الله نتقابل غداً...
وافترقتا على وعد باللقاء...!!

••••••••••••••••••••••••••••••••••
#يتبع

بقلم : مريَم أحمد زيدان 🦋

شفــــــاءحيث تعيش القصص. اكتشف الآن