الجزء الخامس : عالم الأرواح

91 7 0
                                    

الجزء الخامس : عالم الأرواح
لم يشعر (مراد) بمرور الوقت بينما هو في مجلسه أمام القفص المعدني في ذلك السرداب منغمساً في مراقبة تلك المخلوقة في داخله، و بمرور الوقت تثاقلت أجفانه شيئاً فشيئاً وبدون أن يشعر بسط النعاس رداءه على عقله حتى سقطت رأسه على صدره غارقاً في نوم عميق.
لم ينتبه (مراد) إلى تلك البرودة التي بدأت تجتاح القاعة، و لا إلى أنفاسه التي بدأت تتكاثف أمام وجهه بينما يغط في نومه على ذلك المقعد بينما تلك العصا المعدنية الطويلة مستندة على ساقه من أحد أطرافها بينما طرفها الآخر على أرضية الغرفة خارج ذلك النقش الدائري المحيط بنجمة خماسية و الذي يستقر المقعد في وسطه، بينما عينان حمراوان تراقبانه في صمت بنظرات تفيض كراهية وبغضاً.
لم تكن صاحبة تلك العينين بغريبة عنا، إنها نفس تلك المرأة ذات البشرة المتآكلة المهترئة و الملابس البالية التي واجهت (لين) و(نيرة) من قبل وعرفت (لين) فيها ملامح والدتها (ريناد)، بدأت تقترب في صمت من (مراد) النائم على مقعده و قد علا وجهها ابتسامة ظفر تفوح منها القسوة و الشراسة، لم ينتبه (مراد) إلى خطواتها، بل إنها لم تكن تخطو في الواقع بل كما لو كانت تزحف على الأرض دون أن تمسها.
ولكن بمجرد أن مس طرف ثوبها المهترئ ذلك الخط الوهمي فوق دائرة النجمة الخماسية حول مقعد (مراد) حتى تلونت الدائرة و النجمة بلون أحمر ناري تبعتها كل النقوش على حوائط و أرضيات الغرفة، تراجعت المرأة في فزع كأنما لسعتها تلك الأضواء النارية تاركة أثر محترق يتصاعد منه أدخنة زرقاء في طرف ثوبها الذي لامس الدائرة.
لكن يبدو أن تلك الأضواء قد أثارت انتباه و فزع تلك المخلوقة داخل القفص المعدني و التي بدورها بدأت تصرخ وتزمجر وقد تزايدت شراستها بينما لازالت آثار الدماء حول فمها من بقايا اللحم النئ الذي كان تتناوله، ألتفتت إليها المرأة في غضب و قد تألقت عيناها الحمراء فتراجعت المخلوقة في فزع لتلتصق بالحائط داخل القفص وهي تصدر زمجرات خافتة مرتعبة وقد اصطدت قدمها بالقصعة المعدنية لتندفع مصطدمة بقضبان القفص مصدرة ضجيجاً مرتفعاً.
ويبدو أن تلك الضجة التي سببتها المخلوقة قد أيقظت (مراد) من سباته العميق ليفتح عينيه منتبهاً،وكان أول ما طالعه هو وجه المرأة الغاضب ونيران الغضب من نظراتها بينما انعكست الأضواء الحمراء من النقوش على وجهها لتمنحها هيئة أكثر إفزاعاً مما هي عليه.
انتفض (مراد) عند رؤية ذلك المشهد الشيطاني كأنما انتقل فجأة إلى الجحيم، ليفقد اتزانه فجأة غير مدرك لموضعه فيتأرجح به المقعد بعنف حتى كاد يسقط به على ظهره، وكرد فعل طبيعي حاول (مراد) دفع جسده في الاتجاه الآخر بعيداً عن المقعد الذي تخلى عنه صاحبه لينزلق بعيداً بينما قفز (مراد) واقفاً وقد بدأ في إدراك موقفه.
لم يسقط (مراد) مع المقعد، ولكن للأسف أدرك متأخراً أن إحدى قدميه قد هبطت بها قفزته لتستقر خارج حدود الدائرة ببضعة سنتيمترات، أدرك ذلك حينما لمح نظرة المرأة إلى قدميه للحظة و قد تهللت أساريرها ليلتفت إلى موضع قدمه حيث تحدق المرأة، ليرفع عينيه إليها مرة أخرى و تلتقي نظراتهما لجزء من الثانية، حاول (مراد) سحب قدمه في سرعة.... ولكنه كان متأخراً جداً.
*  *  *  *  *
فتحت (لين) باب غرفتها لتجد (ليلى) قادمة باتجاهها من جهة المصعد في منتصف الممر، لتتساءل في أعماقها (هل هي ضريرة حقاً؟)، اقتربت منها (ليلى) و على وجهها ابتسامة هادئة وهي تقول:
ليلى : مساء الخير يا (لين)، أرى أن رسالتي قد وصلتك.
لين : نعم.. ولكن ذلك كان مفزعاً حقاً... تفضلي بالدخول.
و أفسحت لها الطريق لتدلف إلى الغرفة لتحيي (نيرة) التي أجابت تحيتها بتوتر، واتخذ ثلاثتهم مقاعدهم في الغرفة لتبدأ (ليلى) الحديث قائلة:
ليلى : كما أخبرتك يا (لين) في رسالتي العقلية إليكي أنني على استعداد لمساعدتك في ايجاد حل لما تعانيه، ولكن قبل أن أبدأ ذلك فأنا أريد منكما الآن عهداً بأن تظل شخصيتي وكل ما سوف تعرفونه عني أو ما سنواجه سوياً سراً لا يتجاوز ثلاثتنا.
لين : نعدك بذلك بكل تأكيد، ولكن لماذا طلبتي ذلك من كلتينا فقط و لم تطلبيه من بقية الرفاق.
ابتسمت (ليلى) في مرارة قبل أن تجيبها في هدوء:
ليلى : لن نكون في حاجة إلى ذلك بعد انتهاء الأمر، و الآن سوف نبدأ جلستنا الأولى.
نيرة : ألن نستدعي رفاقنا أولاً؟؟
ابتسمت لها (ليلى) وقبل أن تنطق حرفاً واحداً علا طرقاً هادئاً على باب الغرفة لتومئ لها (ليلى) برأسها بإشارة ذات مغزى، انطلقت (نيرة) لتفتح باب الغرفة لتتفاجئ بأخيها (نزار) ومن خلفه (معتصم) و (سراج) وهو يقول:
نزار : عذراً يا (نيرة) و لكنا تلقينا رسالة من...
قاطعته (نيرة) قائلة :
نيرة : تفضلوا إنها بانتظاركم في الداخل.
انضم إليهم الرفاق ليتخذوا مجالسهم قبل أن تبادرهم (ليلى) كالعادة بالحديث وهي تقول:
ليلى : قبل أن نبدأ أولى جلساتنا أريد أن أوضح لكم بعض الحقائق و أفسر لكم بعض ما واجهتموه في الفترة الماضية، إننا أمام حالة فتاة تنتابها كوابيس مستمرة تظهر فيها شخصية والدتها كطرف عدواني يؤرقها ويتسبب في معاناتها الدائمة التي دفعتها لتجنب النوم قد المستطاع هرباً مما يروعها في منامها، ولكن لم تتخذ تلك الكوابيس صورة واقعية و مادية حتى خضعت (لين) لجلسة التنويم المغناطيسي في عيادة الدكتور (معتصم)، وبالصدفة تواجدت (نيرة) أيضاً في الغرفة أثناء تلك الجلسة.
معتصم :هذا صحيح، ولقد كانت تلك الجلسة ناجحة تماماً حتى تطورت الأمور فجأة و بدا كما لو أن (لين) خرجت عن السيطرة في تلك الجلسة.
ليلى : أوافقك الرأي يا دكتور(معتصم)، لقد كانت الجلسة ناجحة إلى حد أبعد مما تتخيل بمراحل عدة، ولكنها لم تنجح كونها جلسة تنويم مغناطيسي..
نظر إليها الجميع في دهشة لهذا التناقض في حديثها قبل أن تستطرد قائلة:
ليلى : لقد تحولت الجلسة من تنويم مغناطيسي إلى جلسة إسقاط نجمي من أنجح التجارب التي قد يواجهها أحدهم يوماً، ولكن ما حدث في تلك الجلسة هو ما أدى إلى تلك التطورات الماورائية المفزعة التي أصابت (لين).
تراجع (معتصم) في جلسته وبدا على وجهه عدم الاقتناع قبل أن تبتسم له (ليلى) مستطردة:
ليلى : سأثبت لك وجهة نظري يا دكتور (معتصم)، الروح هي أمر معقد جداً لم نبلغ في معرفة كنهه إلا خطوات قليلة في طريق طويل جداً، ولكن ما نعرفه يقيناً من خلفيتنا الدينية أن الأرواح لها عالم برزخي خاص مثل كل العوالم الخفية التي تحيط بنا، هذا العالم البرزخي تنتقل إليه أرواحنا بعد الموت بقدرة إلهية غير معلومة لعقولنا البشرية المحدودة بإدراك عالمنا المادي.
ولكن في بعض حالات الغيبوبة و الاقتراب من الموت فإن لدى بعض الأشخاص القدرة على إطلاق جسمها الأثيري، فالإنسان له جسد مادي نعرفه جميعاً و جسد أثيري لا حدود لقدراته لكن ليس في متناول الجميع إدراك تلك القدرات، لم يجوم العلم بعد إن كان ذلك الجسم الأثيري هو الروح أو هو جزء منها ولكن بكل تأكيد هو على علاقة وثيقة بها.
معتصم : هذا صحيح علمياً، استمري.
ليلى : القرآن الكريم أخبرنا أن النوم بالنسبة للروح هو حالة قريبة من الموت، و أن الأرواح أثناء النوم تغادر أجسادنا إلى موضع غير معلوم ولا ترجع جميعها إلى الأجساد مرة أخرى لأن بعضها يقضي عليه الموت، مما قد يعني أن الأرواح أثناء الموت المؤقت المسمى بالنوم تغادر إلى ذلك العالم البرزخي الذي تنتقل إليه الأرواح بعد الموت أو ربما كان منطقة وسيطة بين عالمنا و عالم البرزخ التي تستقر فيه أرواح الموتى.
سراج : حديثك منطقي و منمق رغم أنه مبني على افتراضات محضة.
ليلى : هذا صحيح تماماً، فما لا نعلمه يقيناً لا نملك أمامه سوى الافتراض دكتور (سراج)، ودعونا لا نسهب في الحديث بصفة عامة ولنعد إلى القضية التي تواجهنا، (لين) فتاة تتعرض لحالة تلقي رسائل عنيفة من عالم ماورائي تمثله والدتها -رحمها الله- و التي هي الآن في ذلك العالم البرزخي، وعادة ما يصاحب هذا التواصل مع العوالم الأخرى تغيرات و تطورات في شفافية المتواصلين مع هذا العالم تزداد بتزايد مرات وقوة ذلك التواصل، لذا فإن (لين) كانت مجهزة تماماً لعملية الإسقاط النجمي و ينقصها فقط الطريقة و الشجاعة لتنفيذ تلك العملية بنجاح.
معتصم : هل تقصدين أن عملية التنويم المغناطيسي ساعدت الجسم الأثيري لدى (لين) في التحرر وتنفيذ تجربة الإسقاط النجمي؟؟

أرواح مارقةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن