الخطّاب

4 1 0
                                    


في كاشان، العرف السائد أن تذهب الأم بادئ الأمر لطلب يد العروس، ثمّ تصحب ابنها، وبعد ذلك تذهب وبقيّة العائلة. لم أكن أسمح بالحديث عن موضوع خطبتي ابتداءً من الخطوة الأولى، وأحيانًا لم يكن يصل الأمر حتّى إلى المرحلة الأولى، فبمجرّد أن يطرقوا باب منزلنا ويقولوا:
"جئنا لأمر الخير".

كنت أجيبهم: "لقد اشتبهتم".
فيقولون: "سمعنا أنّ في هذا البيت فتاة في عمر الزواج".

وكنت أجيبهم: "ما سمعتموه غير صحيح".
فكانوا يتعجبّون ويسألون: "إذن من أنتِ؟".

فأقول لهم: "أنا ابنة جيرانهم".

أحيانًا كان بعضهم يأتي إلى منزلنا مرارًا، ويصرّ على والدتي فكانت تقول له:
"صدِّقني لا كلام لديّ، ولكن ابنتي لم تقبل".

حتّى أنّني ما كنت أقبل أن يروني. أنا البنت الوحيدة في البيت مع أربعة أخوة, وربما لهذا السبب لم يكن والدي يجبرني على قبول أيّ واحد من المتقدّمين لخطبتي، وحتّى عندما يكون مقتنعًا بالخاطب, إلّا أنّه كان يحدّثني ويناقشني ليقنعني، ولكن في النهاية كان يرضخ للأمر وينقل "رفضي" للخاطب.

كان والداي يحدّثانني دائمًا ويرغبان في أن أغيّر رأيي، وأرضخ كيفما كان وبأيّ طريقة، إلّا أنّ جوابي كان واحدًا:
"ما لم أحصل على شهادة الثانويّة فلا تكلّموني بالأمرِ".

إلّا أنّهما كانا يقومان بما يحلو لهما، فكانا يسمحان للخطيب بالمجيء إلى بيتنا, وفي المقابل كنت أعمل ما يحلو لي وأقوم بالرفض.

الحاج عبّاس جريحًا

لم تكن العائلة لتجاري الحاجَّ عبّاس، هم أصلًا لم يروه حتّى يعرفوه، كان في الجبهة على الدوام، وعندما كان يعود إلى كاشان في إجازة ليوم أو يومين، كان يمضي جُلّ وقته مع الحرس في المدينة.

أصيب بجرحٍ بليغٍ في قدمه خلال عمليّات "والفتح المبين"، وكان هناك احتمال لبترها. لازم المستشفى عدة أيّام، بعدها نقلوه إلى المنزل, وأُجبر على البقاء في المدينة لفترة.

كانت عائلته تقول: "في النهاية لن نجد أفضل من هذه الفرصة".
اتّفقوا على إلهائه عن التفكير بالجبهة بأيّ طريقة، فاقترحت والدته أن تزوّجه.

انتشرت قضية تزويج عبّاس بين أصدقائه أيضًا. وقد تزوج أحدهم في ذلك الوقت، وأثناء عرسه قال لعبّاس: "زوجتي تعرف صديقةً لها، تتحدّث دائمًا عن أخلاقها وسجاياها، وأظنّ أنّها خُلقت لك أنت".

أصرّ على إعطائه عنوان الفتاة، وقال له: "لن تخسر شيئًا. ابعث بوالدتك, لترى ماذا يحصل".
في إحدى الليالي، عندما أعادت والدته طرح موضوع الزواج عليه، تذكّر عبّاس العنوان الذي أخذه من صديقه. أخرج ورقة العنوان من جيبه وأعطى والدته إيّاها. نظرت إليه بدهشة وقالت له: "ما هذا!؟".

أجابها: "هذا ما تريدين".

نظرت إلى الورقة وفهمت الموضوع، فغمرها السرور والغبطة ولم

ترغب أن ينقضي ذلك اليوم. وضعت العباءة على رأسها وخرجت قاصدةً العنوان.
نادت إحدى النساء من الجيران: "زهرا، زهرا". كنت في الغرفة، نظرت من النافذة, لأرى ماذا يجري في الخارج، رأيتها تقف مع امرأة لا نعرفها، عرفتُ أنني وقعتُ في أيديهما. فذهبت بسرعة إلى الداخل.

في أوّل الأمر، حاولت أمّي قطع الطريق على والدة عبّاس من البداية، وقالت لها:
"سيّدتي، ابنتي عنيدة وصعبة المراس، لا تريد الزواج بأيّ وجه من الوجوه".

ولكنّ والدة عبّاس لم تكن لتقبل بهذه السهولة وتقفل عائدةً، أوعزت إلى إحدى جاراتنا واستعانت بها، حيث أصرّت كثيرًا، وفي نهاية المطاف أدخلتهما أمّي إلى البيت. ما إن دخلتا إلى باحة البيت حتّى نادتني جارتنا، وأحبّت أن تكمل معروفها. ولعلّ والدة عبّاس كانت الوحيدة من اللواتي دخلن بيتنا لخطبتي وحظين برؤيتي. أدخلتهما والدتي إلى غرفة أخرى غير التي كنتُ فيها، ووقفت أسترق السمع. كانت والدة عبّاس تتحدّث عن خصوصيّاتهم وسجايا ابنها، وكانت تتكلّم بطريقة يُفهم منها أنها مرتاحة وفرِحة بي. وقد فهمت السبب فيما بعد، عندما علمتْ أنّي عنيدة، قالت في نفسها: "هذه ممكن أن تكون مناسبة لعبّاس في الصدّ والممانعة، حتمًا ستقيّده داخل المدينة بنحوٍ ما، وبالتالي لن يستطيع الذهاب إلى

الجبهة، أو إنّه سيقلّل من ذهابه بالحدّ الأدنى".

قبل أن تغادرا، قالت والدة عبّاس إنّها ستأتي مرّة ثانية, لتراني. أتت والدتي وقالت لي ذلك، أجبتها: "أبدًا".

كانت مرتاحة كثيرًا إلى حدّ أنّها تركت عنوان بيتها لدينا، وقالت:
"عبّاس ابني يعمل في الحرس بكاشان ويمكنك السؤال عنه، والتحقّق من ذلك".

كان عبّاس يفكّر بالحاجّ "أحمد متوسّليان" وبالحاجّ "همت"، وبالذين كانت على عهدتهم مسؤوليّة عمليات "فيلق محمد رسول الله 27" . في ذلك الوقت، كانت أحواله وأيّامه شبيهة بحال طائرٍ مسجون داخل قفص، فإذا تعافت قدمه لن يبقى يومًا واحدًا في كاشان.

كان عبّاس كتومًا جدًا فلا يخبر أحدًا بما يجول في خاطره، حتّى لو كان ذلك الشخص والدته.
عندما رجعت والدته إلى البيت، لم يكن يمنعها شيء من الكلام. انهمكت بالحديث عن أوصاف الفتاة وأحوالها. كان عبّاس ينظر إليها ويستمع في ظاهر الأمر, لكنّ قلبه كان في مكان آخر, فحتّى هذه اللحظة، لم يكن قد أخذ قصة الخطوبة على محمل الجدّ، فمن نظراته تشعر بلا مبالاته. وبقيت هذه اللامبالاة إلى أن ذكرت والدته في طيّات كلامها اسم البنت. ما إن سمع عبّاس اسم البنت "زهرا" حتّى أظهر اهتمامًا بحديث والدته، وسألها بطريقة غير اعتيادية:
" ماذا قلتِ ما اسمها؟".

أجابته: "زهراء".

شعر عبّاس، للحظة، أنّ حالة الانقباض التي اجتاحته نتيجة بعده عن الجبهة قد انتهت، وأحسّ أن أبواب السماء المغلقة قد فُتحت أمامه.

هاجر تنتظر Where stories live. Discover now