الشهيد عباس كريمي

25 0 0
                                    

الشهيد عبّاس كريمي

جثا الرجل على ركبتيه قرب الضريح، والدموعُ تنهمر على خدّيه. دعا أوّلًا لإخوانه عند صاحب الضريح ومن ثمّ طلب حاجته وحاجة زوجته:
"يا أبا الفضل العبّاس! لا تدَع هذا الطفل يموت كما مات إخوته من قبل".

خنقته العَبرة من جديد. وهو على تلك الحال، ألقى برأسه على الضريح وأجهش بالبكاء:
"سيّدي! قصدتك من بلاد بعيدة، أتيت لتحقّق لي طلبتي، فلا ترجعني خائبًا إلى وطني".

بعدها، عقد خيطًا أخضر اللّون - أعطته زوجته إيّاه - على الضريح ونوى:
"لله نذرٌ عليّ، يا أبا الفضل العبّاس! إن كان مولودي ذكرًا، فسأسمّيه باسمك المبارك: عبّاس".

بعد مضيّ عدة أشهر على زيارته كربلاء, ها هو بيته يزدحم بالأقارب، والنسوة تذهبْن وتجئْن. أمّا هو، فالقلق بادٍ عليه. صعد أحد

أقربائه إلى سطح البيت، ورفع صوته بالأذان. وما إن رفع الرجل يديه بالدعاء، حتى تناهى إلى سمعه صوت:
"مبارك إن شاء الله، المولود بصحّة جيّدة".

هبّ الرجل من مكانه مسرورًا، وأعطى صاحبة الصوت "البشارة". وقد نسي أن يسأل أكان المولود ذكرًا أم أنثى؟

عندما خَلَت الغرفة دخل ليرى مولوده. ما إن وقعت عينا زوجته عليه، حتّى قالت:
"عبّاس، سنسمّيه عبّاس".

خنقته العبرة, فهو لا يذكر أنّهما تناقشا في اسم المولود. ثمّ قال:
"عبّاس اسم جيّد، فهو من حقّق لنا أمنيتنا".

ولد عبّاس كريمي في قرية "قهرود" عام 1957. تبعد هذه القرية مسافة ستّين كيلومترًا عن مدينة "كاشان".

ليس هراءً القول أنّ سيرة عظماء العالم متشابهة بشكلٍ أو بآخر, فمنذ سنين طفولته، كان عبّاس يتميّز عن أترابه. ولم يكن يمرّ عن الأمور - صغيرها وكبيرها - مرور الكرام, وكانت كلمة "لماذا" تُسمع في الكثير من كلامه، ولم يُضنه السؤال يومًا للتوصّل إلى الإجابة. أنهى عبّاس المرحلة الابتدائيّة من دراسته في قهرود. ونال الشهادة المتوسّطة في كاشان. بعدها، أمضى مدّة سنتين في طهران. وفي هاتين السنتين كان يعدّ نفسه لمواجهة الجهل وظلم الحكومة الملكيّة , وهذه المرّة قصد منطقة كاشان، والتحق بالمعهد الفنّي فيها. وبعد نيله الشهادة الثانويّة في الحياكة، التحق بالخدمة العسكريّة. وقد

ترافق ذلك مع أولى أنغام الثورة.

قبل ذلك، كان تاريخه حافلًا بتوزيع المنشورات في قهرود وكاشان، وأمضى حياته ما بين الملاحقة والفرار, وفي تلك الأثناء، كان يتعرّف على الوجه الحقيقي للظلم الذي مارسه النظام الملكي. والآن، عبّاس جنديٌّ في الثكنة العسكريّة, وقد ساعدته هذه التجارب كثيرًا وصقلت شخصيّته, فإدخال المنشورات إلى الثكنة يتطلّب قلبًا شجاعًا.

بعد أن أمر الإمام الخميني قدس سره الجنود بترك ثكناتهم، التحق عبّاس بقوى الثورة. وكان من جملة الأشخاص الذين التحقوا بالقوى العسكريّة للجنة استقبال الإمام الخميني قدس سره.

في ربيع العام 1979م، وإحساسًا منه بالتكليف، التحق عبّاس كريمي بحرس الثورة الإسلاميّة الحديث التأسيس. في العام 1980، كان من أوائل الأشخاص الذين قصدوا كردستان لقتال أعداء الثورة .

بعد مدّة، وبسبب شجاعته وقدراته الفذّة في التخطيط الاستخباراتي، عُيّن كمسؤول للاستخبارات في عمليّات الحرس في منطقة "مريوان" . يومًا بعد يوم، كان نبوغه الأمنيّ يلمع أكثر فأكثر. فالمعلومات التي كان يأتي بها، كانت دومًا فائقة الدقّة وموثّقة. وكانت تحرّكات أعداء الثورة وخطط عمليّاتهم تُكشف دومًا وتصل إلى القيادة بفضل فكره الثاقب.

حتّى قواعدنا التي كان يُحتمل أن تُشنّ الهجمات عليها، كانت آمنة بفضل خطط عبّاس. وبسبب هذه الدقّة، كان الحاجّ

"أحمد متوسّليان"  يعتبر عبّاسا ساعِدَه وعينه. وكثيرًا ما كان يردّد:
"المعلومات التي يأتينا بها الأخ كريمي هي معلومات بالغة الدقّة، ولهذا، ينبغي التخطيط والعمل بها مئة في المئة".

كان لعبّاس دور لافت في تحرير مناطق استراتيجيّة، مثل "دزلي"، و"أورامانات"، والمناطق الحدوديّة التي كانت تحت سيطرة أعداء الثورة . ويعتقد الكثير من القادة أنّ المعلومات الدقيقة لكريمي، خلال سنوات حرب الدفاع المقدّس، كانت مكمّلة لقيادة الحاج أحمد متوسّليان المقتدرة والحكيمة. لقد قدّم بروحيّته الخاصّة ونبوغه الفائق، خدمات لا تُحصى من أجل أمن الوطن واقتداره, وكان لتصرّفاته المفعمة بالشهامة وقعًا طيّبًا، حتى على أعداء الثورة أحيانًا، دفعتهم للتعاون معه.

كان عبّاس يعتقد بأنّ الكثيرين ممّن حملوا السلاح وهدّدوا أمن الجمهوريّة الإسلاميّة، هم أشخاص تموضعوا عن جهلٍ وغفلة في جبهة المعادين للثورة. لهذا، كان يسعى إلى إظهار وجه الثورة الإسلاميّة الحقيقي أمام الجماعات المعادية. في تاريخ الحرب ما بعد الثورة، لم يسبق لأحد أبدًا، أن استطاع من خلال الكلام، إجبار القيادات المعارضة على الاستسلام. لكنّ عبّاس فعل. ففي منطقة كردستان، حينما كانت قوّات حرس الثورة لا تتجاوز ثلاثمئة عنصرًا، أعاد عبّاس تجهيز أكثر من ألف ومئة عنصرٍ كانوا في زمرة المعادين

للثورة، ثمّ استسلمو, ليقاتلوا في سبيل أهداف الجمهوريّة الإسلاميّة.

مع بداية العدوان البعثيّ على المناطق الحدوديّة، ذهب عبّاس برفقة عدد من القادة أمثال "الحاج متوسّليان" و"تشراغي"  إلى جنوب البلاد. وهناك، عمل كمسؤول معلومات عمليّات "لواء محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم". بعد فترة، أصيب إصابةً بالغة في رجله في عمليّات "الفتح المبين" الغرّاء، ولكن عيل صبره بسبب الرقود الطويل في المستشفى، فالتحق بالمجاهدين متّكئًا على العكّاز.

تزوّج في الواحد والعشرين من شهر تشرين الأوّل للعام 1982م. وأُقيمت مراسم بسيطة جدًّا عند عقد القران. في صباح ذلك اليوم، ذهب وزوجته إلى مقبرة الشهداء في كاشان ليجدّد العهد معهم. وبعد أيام عدة، انتقل مع عروسه إلى المناطق الجنوبيّة للبلاد، لتشاركه هناك حياة الثورة والجهاد.

في عمليّات "والفجر" التحضيريّة، عُيّن عبّاس مسؤول الاستخبارات لعمليّات الحرس. وبعدها، أوكلت إليه مهمّة قيادة "لواء سلمان" التابع لفرقة "27 محمّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".

في "عمليّات خيبر"، استُشهد حبيب التعبويّين وسندهم الحاج "محمّد إبراهيم همّت". كانت تلك الحادثة قاسية وموجعة بالنسبة إلى الحاجّ عبّاس. بعد ذلك، تسلّم قيادة "فرقة محمّد رسول الله"، مكان الشهيد همت, وبهذا، ملأ الخواء الذي أصاب قلوب التعبويّين جرّاء فقد الشهيد "همت". ويشهد جميع الأصدقاء أنّ حياة عبّاس المعطاءة، سواء قبل تسلّمه قيادة الفرقة أم بعدها، لم تتغيّر، بل

كان يؤدي تكليفه كأيّ تعبوي عادي.

وفي النهاية، سارع هذا المجاهد في سبيل الله إلى لقاء معبوده في 14/3/1985م إثر إصابته بشظيّة في الرأس, وذلك في عمليّات بدر المظفّرة في جنوب البلاد (شرق دجلة).

هاجر تنتظر Where stories live. Discover now