قِطعةُ خبزٍ

38 11 1
                                    

"(أغلقِي كِتَابكِ يَا جَدَّتِي، وَلِنَتحدَّثْ قَليلاً)"

وَضعَت كتابَها عَلى الطَّاوِلةِ مُلتَقِطةً كُوبَ قَهوتِها تَرتَشِفُ مِنهُ بِهُدوءٍ.

نَظرَتْ إِلَيّ بَعدمَا أَعَادَتْهُ مَكانَه، لِتقُولَ بِابتسامٍ:

"(لازِلتِ كَما عَهِدْتُكِ، لا تُطِيقينَ صَبراً حِينَ أُمسِكُ كِتابِي)"

بَادلتُها بسمةً خَفِيَّةً

"(نَعم، وأنتِ كذلكَ لَمْ تتغيرِي)"

أَخذَتْ قِطعَةَ خُبزٍ صَغِيرةٍ، فَقضمتْ مِنها بِتُؤَدةٍ.
مِن بينِ كُلِّ المُعجَّناتِ عَلی الطَّاوِلةِ، دَائماً مَا تَبدأُ بالخُبزِ كافتِتَاحِيَّةٍ.

سَألتُ وَكُلِّي اهتِمامٌ:

"(هَل تُحبِّينَ الخُبزَ لِهذهِ الدَّرَجةِ؟)"

أوْمَأَتْ بِرأسِها إيجاباً لِتَنظُرَ إلَی الأَعْلَی.

أمسَكتُ بِالدَّفْتَرِ الذِي بِجانِبي، فَأخْرجتُ بَعدَهُ قَلماً.
وَضعْتُهُ عَلی المِنضدةِ حِينَما أنهَيْتُ مَا كَتَبْتُهُ، فَقُلتُ مَا أقْرَأُ بِصَوتٍ مَسمُوعٍ:

"(قِطعةُ خُبزٍ)"

نَظرتُ إلَيها بَعدَ جُملَتِي، فَإذَا بِها تَبتَسِمُ بِدهشةٍ،

اعتدلْتُ فِي جلْسَتِي مُوَضِّحةً:

"(عُنوانُ كِتَابِي...أَلَنْ يَكُونَ مُثِيراً للإهْتِمَامِ؟)"

"(وَمَا هِيَ قِصةُ كِتابكِ المُثِيرِ للإِهْتِمامِ؟)"

سُؤالٌ عَابِثٌ وَجَّهَتْهُ إِلَيَّ عَالِمةً بِأجَابتِهِ مُسبقاً؛ فَكيفَ لِي إِيجادُ قِصةٍ كَتبتُ عُنوانَها تَوّاً؟.

فصمتُّ بِخَجلٍ غَلَّفَ صَمتِي، وَإِذا بِهَا تُقهقه.

"(هَل تُسَاعِدينَنِي فِي إِيجَادِ فِكرتِه؟)"

"(بِالطبع!)"

"(إذاً؟ مَا معنی ذَلك؟)"

"(أولاً كَمَا قُلتي، فلنعْرِفْ مَعنَی كَلِمةِ "خُبزٍ"، وَلِنَتساءل: مَا هِيَ قِيمةُ هَذهِ الكَلمةِ؟ وكَيفَ لها أنْ تَكُونَ حُلماً لِمَلايينِ البَشرِ؟)"

هُنا أدركتُ مَقْصِدها، فَهزَزْتُ رأسِي بِشُجونٍ أخفَيْتُه.

"(هَل تَعرِفِينَ يا ابنَتِي، أَن أَكبَرَ أَحْلَامِهمْ هُوَ رَغِيفُ خُبزٍ؟)"

"(كَلَّا يَا جدتِي)"

"(إذاً، هَل سَألتِي نفْسَكِ: مَن هُم أولَـٰئِكَ الحَالِمُونَ بِهَذا؟)"

لَم أُجِبْهَا، بَلْ بُكِمتُ مُتَسائِلَةً عَنْ سَببِ اختِيارِها لِفِكرةٍ كَهذِه.
فِكرةٌ تَهُزُّ تَفكِيرَ مَن يُفَكِّرُ بِهَا.
وَكَمْ هَزَّتْنِي حَتَّی مَا عُدتُ بِهَا أَزِيدُ تَفْكِيرا.

فنَبستُ بِخُفوتٍ:

"(سَتكونُ قِصةً تَدورُ حَولَها أَيادِي بُؤسَاءِ العَالمِ أجمَعَ)"

"(رُبَّمَا تكُون)"

قاَلتها وَارتَشَفتْ مِن كُوبِها، ثُمَّ أكمَلتْ مَا بَقِيَ مِن قِطعَتِها.

"(إِذاً يَا جدَّة، هَل تأكُلِينَها كَي تُحَاوِلِي الانْضِمَامَ لَهُم؟)"

"(لَهُم؟)"

"(أَعنِي: الحَالِمونَ بِكِسرةِ الخُبزِ)"

"(مَن يَعلمُ؟)"

هكَذا كَانتْ إجَابَتُها غَيرُ المُرضِيةِ، فَسَألتُ:

"(لَكِنني عَلی الأَرجحِ لَا أعلمُ، فَهلْ لكِ بِإِجَابَتي؟)"

نَفَضتْ تَنُّورَتها ذاتَ الثُّقوبِ المُرَقَّعةِ، فَقالتْ:
"(قَد أكُونُ أُحَاوِلُ، وَقدْ أَكُونُ كَذلِكَ)"

كَمْ طَالَ مِنْ أمَدٍ عَلی لِقائِنَا، وَلازَالتْ جُمَلُهَا المُبهَمَةُ كَما هِي، تُبقِيني فِي حِيرَتِي عَاجِزةً، حتَّی أعلمَ مَعناهَا مُتَأخِّراً، بَعدَ أوانٍ قَدْ فَاتَ آنُه.

"(هَل سَتَكُونُ القِصَّةُ هَكذا إِذاً؟)"

"(أنتِ الكَاتِبةُ هُنا يَا عَزِيزتي)"

نطَقَتْهَا بِابْتِسَامَتِهَا ذاتِ التَّجَاعِيدِ البَاسِمةِ، أَنَّیٰ لِتجَاعِيدِهَا أَنْ تَكُونَ مُبْتَسِمَة؟

أمْسَكتُ بِحُلمِ أُولَـٰئِكَ البَشَرِ، فَأخَذْتُ مِنهُ قَضْمَةً تَوَالَتْ بعْدَها أُخْرَی، ثُمَّ أُخْرَی
حَتی أَنهَيتُهَا، فقلتُ:

"(هَل أصبحتُ الآنَ مِنهُم؟)"

"(كَلا، أنتِ فقطْ حققتِي حُلمهم لِنفسِك)"

صَمَتَتْ قَلِيلاً ثُمَّ اسْتَرسَلتْ:

"(حِينَ يُحقِّقُونَ أكبَرَ أحْلَامِهمْ، لَنْ يعُودوا كَما كَانُوا؛ بَلْ سَيُصبِحُونَ مِنَّا)"

نَظَرتْ إِلَيَّ هُنَيهةً مِنَ الَوقْتِ، ثُمَّ سَأَلَتْ:

"(إِن كُنْتِ لَنْ تَصِيرِي مِثْلَهُمْ، مَاذَا لَوْ حَاوَلتِ أنْ تَكُونِي كَحُلْمِهِمْ؟)"

سُؤالٌ جَعلنِي أتأمَّلُه زَمناً حتی أجبتُ، مُترددةً قدْ كُنت:

"(وَ كَيفَ لي ذَلكَ؟)"

"(يوماً ما، ستُدرِكينَ بنفسِكِ ذلكَ، حِينَ تُصبِحينَ مِثلَ بِنتِ خُبزٍ)"

......................................

يتبع...

بنتُ خبزٍحيث تعيش القصص. اكتشف الآن