العالم لن يستمر دون "التضاد" ، إن وجِد الخير فلابُد من الشر ، ان ملئت الملائكة السماء ، فستمتلىء الأرض بالشياطين ، ولن يستمر البشر دون تضاد الذكر و الأنثى ..
إن رُزقتُ بطفل ، فأول ما سأخبره بأنه لن يستطيع العيش على أرض البشر .. إن حلم بالسلام الأبدي ، السلام الأبدي خدعه يا صغيري ..
18 سنةٍ مضت.. كانت فارغه تماماً ، كريهة لدرجةٍ تشعر بأنها قد غُمست بمأسي البشر ، سخيفه وسيئه .. ولا أعرف وصفاً اخر لأصف مدى هي بشعة ..
تلك الحياة لم تُهب لي ، أتنفس وأشعر وادخل بعضاً من شرائح الخبز الجاف لمعدتي .. لكن ليس كما يصفه المتعطشين للمال والمنصب .. "حياة" ..
وبالطبع لو كنت أملك زمام الأمور في تلك المسماة "حياة" لأصبحت الأن اتناول طبقاً من الدجاج الذهبي مع الخضار الفضيه ، ولتحول سريري المكسور هذا الى صحنٍ من حرير .. كنت سأصعد لإعالي السماء وأكون سعيداً .. لكن لم يكتب لي وبقيت أجر نفسي بين المنزل والمشفى ثم المدرسة .. أحوم حولهم بدورة روتينيه معتاده الأحداث .. كل شيء لا شيء ..
كنت أشعر باني مخنوقاً بحبلٍ بشري أثقلني وأتعبني ، ولأصدُم الجميع بأن ذلك الحبل ليس الا أخي التؤام .. يشبهني في كل صفه خلقِيه .. لكن ليس في الصحة ولا العقل ولا اي شيء
هو بعمر 18 .. لكن عيبه الأكبر هو بأنه .. " متخلف عقلي " .. متخلف من الدرجه الثالثه وهذا يعني بأن علي العتناء به كطفلٍ في السادسةِ من عمره ، اقوم بإطعامه وتحميمه وتعليمه الحروف والأرقام .. وأحياناً اضطر بأن اغني له قبل النوم ..
ذلك المتخلف العقلي اخذ حياتي ووقتي ، سلبني كل شيء كنت املكه ، حتى امي وابي الذيّن قاموا بلومي لاني أخذت كل الجينات السليمه ، وهو بقي معاقاً عقلياً ، اوليست هذه من تدبير الله؟
كل يوم أتوقف امام مشفى الإحتياجات الخاصه بقدمي اللتان بالكاد تحملنني وأرى ابتسامته البشعه يومياً ، يخرج من المشفى يتلفت يمنتاً ويسرى .. ولن يتعرف علي من بين جميع الخلائق ، علي السير والتوقف أمامه .. ثم أتحمل الغضب المكتوم بداخلي جراء تلك الإبتسامه التي سُرِقت مني ..
آخذ بيديه ثم نسير بقدميّ المتعبه لمتجرٍ صغير متهالك بجانب منزلي المؤجر لسيدةٍ عجوز ، أقوم بشراء بعضٍ من الأطعمه والمعلبات التي لربما تكفينا لهذا اليوم ..
كان كل يومٍ جحيم لا يطاق ، تقديم ثلاث وجبات لمتخلف واطعامه وغسله بيدي .. تعبت من رؤيته يومياً .. أشغلني عن المذاكره والتحضير للإختبارات ، من شدة إكتئابي أحياناً افكر بترك المدرسة والهرب من كل شيء .. كل شيء موجودٍ ولم أملكه ..
لكن ... بالفعل حصل .. ولا أعلم من فعل هذا ، ولم يكتشف أحد من فعل هذا .. كانت طامةٌ كبرى ، ومن اكبر الاشياء التي حصلت في الحياة .. المتخلف أخي ... وُجِد خلف كنيسة الحي .. مظرخاً بدماه ، فُصلت كل عظمةٍ عن العظمة ، ورميت بجلدها ودمها ، يداً مقطوعه بعد عدة اشبار عن جمجمة راسه المسلوخه .. مقلتىء عينيه رميت في كل جهة .. كانت ابشع جريمةٍ حصلت في مدينتي ، حتى الذين لم يعرفوا جين بكوا شفقةً ورحمه ..
لكني .. لم أبكي!! ، لم تسقط دمعةً واحده !
لقد رأيت اخي التوأم في غرفة التشريح .. لم اعرف وجهه المشوه المتفحم !! .. اتلك الجمرة .. أخي!!
كيف حصل !! ولماذا!! ومن فعله!! ..
كيف للحياة ان تكون قاسيةً هكذا!! لشخص فقد ضمان مستقبله .. تلاشى كذراتِ التراب في مهب الريح !! ، هل يستحق طفلٌ بريءٌ .. اثمن ما يملكه بسكويت اقدمه له من متجرٍ قديم .. !! اثمن ما يملك هو شخص اخر .. هو "أنا" ..
أسرق مالاً؟ أقتل احداً؟ .. هل ظلم؟ وهل بإمكان طفل لا يعي الفرق بين الحلم والواقع ، ولا يعرف جمع واحدٍ بأربعه!! أن يعتدي على أحد !!
كيف يمكن لشخص تجرد من كل انسانيته ، وأنقلب شيطاناً ... أن يعذب بريئاً مسكيناً بهذه الطريقة المتوحشة؟
لقد أعدم .. اعدم ببشاعة ..
أهذه هي الحياة؟ .. لا .. بل الدنيا ليست دار حياة ، بل دار جحيم ، تحت الأرض تتواجد الشياطين وحولها السنة اللهب .. تلك الشياطين بأمكانها ان تتسخوذ على عقول الضعفاء الأغبياء ، ذوي العقول الفارغه .. وتجعل منهم ارواحاً خبيثه ، مليئة بالشر والمعاصي والآثام ..
لا أعلم ولا أريد ان أعرف .. لما ومن فعل هذا .. بأخي ..
شعرت بحشرجةٍ قاسيه ممزوجة بالألم والفقد تحوم بصدري ، اشعر بالدموع تحاول التدفق .. لكني أحاول كبحها ، ليس لها الحق ولا لنفسي الحق بالبكاء عليه ، .. فاوست ، صاحب الشؤم في حياتك قُتل .. عِش الآن ..
حراً .
خطواتٌ بارده تأتي ثم تتوقف .. إلتفت ، كان الطبيب يحمل بين يديه طبقاً أبيضاً وعليه قطعة قماش تغطي شيئاً ما..
رفعتها .. فإذا به إصبع أخي وبجانبه خاتمه الذي أصابه الصدأ ... خاتم كتب عليه إسمي ورقمي .. فاوست ..
لا أعرف ... لا أفهم ، نزاعٌ بين الخير والشر ، بين الشيطان والملاك .. في نفسي .. نزاع متأجج يكاد يفقدني صوابي وإحساسي بمن حولي ..
تجتاحني أحاسيس ألم موجعة ، بداخلي صراخات بكاء عالية .. اود إحتظان الجثة المتفحمة أمامي .. أن ألتقط أصابعه البارده واحاول أعادة تكوين يده الدافئة من جديد .. تلك اليد اللطيفة التي امسك بها وتشد علي .. تمسكني بقوه مخافة ان أفلت يدي منها .. أن أتفحص وجهه للمرة الأخيره .. أن ارى ملامحة كما هي .. طفوليه .. وبريئة .. وبشرة بيضاء .. أعينية الزرقاء .. باقية كما النهر النقيء ، أم اعتلاها السواد كباقي اجزاء جسده؟!
وهناك .. في فجوة أخرى بنفسي ، تحادثني بِشر ، تذكرني بألامي واحلامي المندثره لسنين .. بسببه .. بسببه ..
لم أعش حياتي .. لم ارى الدنيا كما يراه شابٌ بعمري ، رأيتها عالماً متوحشاً .. البشر ذو أنيباب تنهش بعضها بعضاً .. لم ارى الأزهار قط ، ولا السماء الزرقاء قد حوت الأرض .. أرأيت يا فاوست !! ما كانت عليه حياتك وقتها؟ .. لا تبكي ، لا تحزن ، لا تتألم .. فـ جين .. قد رحل بعيداً ..
احنيت رأسي .. علي إتخاذُ قرارٍ الآن .. إما ان اتفحص اخي بدموع حاره تنساب تخترق جفناي .. ام استدير وارى عالمي انا .. وانسى كل شيء واغض البصر عنه !! .. وكأن اخي لم يكن ، ولم يقتل ببشاعة .. ولم تكن السنين الماضية شيئا ..
...
ادرت ظهري .. ورحلت .. أنا قادم .. لحياتي الجديدة ..
أنت تقرأ
حُلم الظلام - Dark Dream
Spiritualوداعاً للحياةِ وللسلام ..وداعاً للأرض وللفضاء .. فأنا الآن .. أصبحت لا شيء ، وبدون شيء .. أخبرني أحد الأشخاص ، أني أشبه النجم الحزين ، الوحيد .. إذا إنفجر وأصبح سديماً في الفضاء .. وأنه حين رأني لوهلة ظن بأني ميتٌ عاد يتجول بملل في الأرض .. أخبرته...