لقد مللت من البقاء حياً وحيداً ، أجول شوارع البؤس صارخاً ، مللت من مناداة الحقيقه .. والظلام قد حوى حقيقتي ..
مللت من الإنتظار تحت ركام الماضي العفن ، وحطام السنين المحترق .. مللت من رؤية ذاتي كل يوم ، ومن موسيقى الآه التي إخرجها من بلعومي المختنق .. مللت من الوجود ، وأي وجود؟
إنه الوجود خلف ستارة الحياة .. خلف الحقيقة ..أتسمعني ، يا جين؟
لا أزال مذهولاً من عظمة الصدف وقباحة مظهرها ! .. هل يا ترى كانت متعمدةً رجوعك ؟ أما أنها قد تغطت بغطاء الكذب وإلتحفت بالجنون وأعادتك حياً لا عِلت بك؟
أهذه الصُدف ، ضدي؟
أنا أشعر بأن الحقيقة تهرب بفستانها المرصع بالأسى والذُل .. هرباً من الصدف ! .. لا أرى أي أمرٍ دعاها للهرب حاملةً كل قبح بداخلها .. هل كانت تعلم ، ربما .. ان هناك إنفجاراً كبيراً سيحصل إن خرجت للعالم ؟ هل هي خائفة؟ ما بكِ .. يا خانقة النور؟....
خرجت متنزهاً في حديقة المشفى .. الورد لا زال ينبض بالجمال رغم أن الرياح تخبر بجوٍ عاصفٍ قريب ، المرضى حولي بكل مكان .. تعمدوا الخروج وسط الرياح البارده والشمس الدافئة ..
لكن كانوا عكسي ، أنا لم أخرج إلا لأمرٍ ما .. وهو البحث عن ذلك المخبول رايت .. الأصلع رايت ..هل وكعادته يحاول النظر لوجة الشمس لينعمي؟ ام يتأمل الأزهار ليزداد الجمال بداخله؟ أفكاره نحو وجود الشعور بيننا يسير وسطنا بساقين ويدين .. أمرٌ غريب الإعتقاد !!
ما يشوقني للحديث معه هو فلسفته نحو كل حركة وسكون وحديث وصمت حوله ، كل شعور وكلمة تخرج من أحدهم .. يستطيع إخراج عمقها إلينا ونزع رداء الكذب منها .. شخص نادر الوجود!
وحتى الآن أحاول كشف .. لماذا هو بمشفى الأمراض النفسية والعقلية؟ مالذي دعاهُ للمكوث هنا؟
وبعد عناء البحث المضني عن رايت .. خلف كل شجرة وأمام أشعة الشمس .. وفي كل حقل من الزهور .. لم أجده ..
أين يكون يا ترى ؟ مالإعتقاد الغريب الذي خرج من ذهنه هذه المره؟"فاوست"
ذلك النداء هو صوت رايت .. استدرت للخلف .. لأراه لأول مرةٍ يرتدي قبعة صوف فوق رأسه ، كان يتفاخر بصلعته الجدباء التي جعلته مميزاً عن كل المرضى هنا ..
"أين كنت؟"
"منذ أن خرجت من غرفتك ، وأنا خلفك"
"تمزح معي بالتأكيد ، لم أشعر بوجود أحدٍ ما يتبعني"
"هذا يرجع إليك ، كنت أسير بشكل عادي وتعمدت إحداث بعض الإزعاج كي تنتبه"
"ولما تتبعني إذن؟"
"فقط .. هكذا ، أشعر بالمتعه لمراقبة أحدهم وهو لا يدري"'
"إسمعني .. أود الحديث معك في أمرٍ ما"
سار نحوي .. وقال بهمس "أنا أسمع حتى صوت إبتلع السمكة لطعامها في البحر الأسود ، ولا أسمعك .. هذا جنون"
تنهدتُ ضجِراً "يكفي تفاخراً رايت" ثم سرت نحو مكاننا المعتاد .. تحت سور المشفى الشاهق .. وحوله النبات الميت .. مكانٌ بعيدٌ عن الحمقى والمجانين ، بعيد عن مدعين المثالية الذين يرتدون المعطف الأبيض وبيدهم أوراق مليئةٌ بالترهات ..
جلست على العشب وحملقت في غيوم السماء المظلمه ..
لكن جمال الغيوم صد عنها وجه رايت الأصلع الواقف أمامي ..
"لما ترتدي قبعة صوف فوق رأسك؟ هذا يجعلني أشعر بالغرابة"
"هل تشعر بأني لست رايت؟ إنسجم مع هذا الأمر" قال بهدوء ثم إستند على الجدار الشاهق بجانبي ..
"أنت قبيح مع قبعة الصوف هذه"
"شكراً على الإطراء ، إحب القُبح"
إلتفت نحو بإستخفاف وأخرجت تنهيدة ممزوجة بإبتسامة "لهذا أنا أحبك"
قهقه وهو ينظر للسماء " وأنا أكرهك"
ساد الصمت لدقائق ثم إستفتحت الحديث "رايت .. هل للحوادث شعور؟"
"ربما"
"هل بإمكانها كره إنسان ومحبة إنسانٍ آخر؟"
"ربما"
"إذن أخبرني ، ماذا تفعل إن كان كل حادث وموقف وكل شيء ضدك؟"
"ببساطة ، أُقبلها على جبينها"
"لما !! هي آذتك حتى بكيت دماً !"
"لأنها .. هي من صنعت للحياة معنى ، الحزن والألم ، الشقاوة والمعاناة .. لولاها لما كان لحياتي أيٌ معنى ، لولاها .. لكنت ميتاً من سنين .. "
"أنا أخالفك !! .. عشرون سنة وانا أعيش حياة الضنك والتشرد !! عشرون سنة لم أذق طعم الحياة كغيري !! عشرون سنة قد تحطمت أمامي بسبب البؤس .. هل ترى لحياتي أي معنى؟"
أغمض عينيه وإبتسم بهدوء "وهل ترى للسعداء تحت القصور وفي ظلال السلام وبين طبيعة الإله .. لحياتهم أي معنى؟ .. أنا لا أرى ! .. الدنيا لا تستمر بدون أمرين ، التعاسة والهناء ، فكل واحدٍ منهما لا يعني شيئاً بدون الآخر .. لكني ، ولأخبرك الحقيقة ، أصبحت أحب الشقاء وأسعى إليه ، تعمق الحزن بداخلي حتى أصبح دمي وروحي وكل شيء بي ، أصبحت أسعد إن كنت غاضباً ، وأرتاح حين أشعر بحزن يخنقني .. وبسبب هذا التناقض الكبير ، مات الشعور بي ، فلم أعد أشعر .... لهذا أنا أنصحك ، أحِب الشقاء والمعاناة والكره والتعاسة والحزن والإكتئاب .. كن مغرماً بهم حد الجنون ، وعش معهم في الحياة كرفيق لا تحلو الحياة بدونه"
أنت تقرأ
حُلم الظلام - Dark Dream
Spiritualوداعاً للحياةِ وللسلام ..وداعاً للأرض وللفضاء .. فأنا الآن .. أصبحت لا شيء ، وبدون شيء .. أخبرني أحد الأشخاص ، أني أشبه النجم الحزين ، الوحيد .. إذا إنفجر وأصبح سديماً في الفضاء .. وأنه حين رأني لوهلة ظن بأني ميتٌ عاد يتجول بملل في الأرض .. أخبرته...