Part 5

468 12 0
                                    


رمشتُ بعيني لعلّي أرغم ذهني على العودة إلى الحاضر في الملجأ. فتحتُ من جديد سدادة قنينة الفودكا ، وسكبت ُ ما بقي فيها ، ثمّ أشعلت سيجارة أخرى.

همست أنطوانيت : « أتذكرين الآن ؟ أتظّنين حقّاً أن أمك كانت تحبّك ؟ ».
فقلت معترضة :
_ بالطبع.
فجاءني جوابها كالصفعة :
_ لكن حبّها له كان أكبر.

شربتُ جرعة كبيرة من الفودكا ، وسحبت نفساً من السيجارة لعلّي أستطيع إيقاف سيل الذكريات الجارف الذي كان يوشك أن يجرفني .

ومن خلال الضباب الذي كان يغشى فكري ، أشهرت أنطوانيت صورة لم أكن أرغب في رؤيتها . لكنها كانت من الوضوح بحيث لم أستطع الإشلحة عنها.

تراءت لي الغرفة في بيت القش وبداخلها شخصان . كان الأمر كما لو أنه حدث البارحة. امرأة جالسة على أريكة مغلّقة بالثوب ، وقبالتها تقف طفلة. كانت تنظر باستعطاف وتجهد نفسها ، وهي في غاية التوتر ، لكي تبوح بما حصل . تبحث عن الألفاظ المناسبة لتصف ما صنعه بها رجل راشد.

حدث ذلك بعد اسبوع من القبلة. انتظرت أنطوانيت أن يستأنف أبوها عمله لكي تخلو إلى أمّها . كانت لا تزال واثقة من حبّها ، لكنها بذلت قصارى جهدها من أجل العثور على الكلمات تسعفها في وصف الفعل الشنيع الذي تعرّضت له. كانت هيئتها تشي بمقدار توترها ، وكان ضيق أمّها يتزايد مع كل كلمه تنفلت من بين شفتيها . ووقفت الكلبة الصغيرة بجانب الطفلة الصغيرة كما لو أنها شعرت بأنّ الأمور لم تكن على ما يرام ، وراحت تلقي إليها بنظرات مفعمة بالعطف.

ما زلت ألمح الغضب الذي ظهر في عيني الأمّ فوراً ، فأدرك الآن وأنا راشدة ، بأنها كانت تخفي شعوراً أخر. أي شعور هو ؟ تفحصت تلك الصورة القادمة من الماضي من جديد ، ففهمت أنّه الخوف . كانت مرعوبة ممّا ستسمع.

لم ترَ أنطوانيت طيلة الست السنوات ونصف من حياتها غير الغضب . أنهدّ كتفاها المهزولان ، ولاحت على صفحة وجهها مشاعر تمتزج فيها الحيرة بالألم . فقد سقط آخر متاريسها : أمّها غير عابثة بحمايتها.

مازلت أسمع صوت أمّها تأمرها بألّا « تذكر هذا الأمر ثانية ، مفهوم ؟ »

وجاءني صوت أنطوانيت مجيباً : « حسناً يا ماما ».

وبدأت الدوامة. صار صمتها مضموناً ، وأُشرع الباب بذلك لما سيعقب.

همس الصوت الذي كان يعذبني « أرأيتِ ، لقد بحتِ لها بالأمر !» .

طوال السنوات وأنا أطرد من ذهني هذا المشهد الذي تقوّضت فيه ثقتي بأمّي . طردته من ذاكرتي . أرغمتُ تلك الطفلة المرعوبة، أنطوانيت ، على الأختفاء مع ما تحمله من ذكرات. وأدركتُ ، وهو أمر ساءني كثيراً ، أن أمّي لم تكن تجهل نوايا أبي. كيف لطفلة أن تصف تلك القبلة لو أنّها لم تحدث فعلاً ؟ من المستحيل أن تختلقها. لم تكن في ذلك العهد في الريف تلفزة ولا مجلة و لا كتاب تتعلّم منه طفلة في هذا السن تلك الأمور ، وبذلك فإن أمّي لم تسمع من فم ابنتها إلّا الحقيقة.

لا تخبري ماما حيث تعيش القصص. اكتشف الآن