(الدهاشنة2) الفصل الثالث والعشرون

7.9K 543 42
                                    

#الدهاشنة2....(#صراع_السلطة_والكبرياء..)...
              #الفصل_الثالث_والعشرون...
(اهداء الفصل للقارئة الجميلة "علا بن حمزة"، بتمنى لكِ قضاء رحلة ممتعة مع ملحمة عائلة الدهاشنة والمغازية...)

صوته الصارم قيد حركة ابنه الذي لم يعتاد سوى على طاعته، نظراته بمثابةٍ إنذار له بالا يرتكب ما يمليه عليه عقله، لم يعتاد على مخالفة أمر حازم نبع من والده،  لذا تراجع للخلف ثم وضع المقعد محله بهدوءٍ، كسر"فهد" تصلب حركته وتقدم بخطواتٍ منتظمة وبطيئة تليق بوقاره المحفوظ حتى بات أمامهما، إتكأ "أيان" بمعصمه على الأرضيةٍ ثم نهض ليقف أمام أكثر إنسان يبغضه على وجه الكرة الأرضية، تقابلت نظراتهم كصراعٍ قوي غير متكافئ الأوزنة، استطاع به "فهد" أن يرى حقداً مدفون بحدقتي هذا الشاب الذي يعد من عمر ابنه،  فحرر كلماته التي خرجت باتزانٍ وعقلانية لا تليق سوى به:
_اسمع يا ابن المغازي، أني بعدت والدي عنيك المرادي بس المرة الجاية متلومش غير نفسك، بعد عنينا إحنا كيف النار اللي بيقرب منيها بيتحرق وأنت دوقت نارنا قبل اكده..
اقترب "أيان" منه حتى بات مقابله لا يفصلهما شيئاً، لم يبالي بدمائه المتصببة على عينيه،  بل اهتم بقوله المنتقم:
_قولتهالك قبل كده يا فهد وهرجع اقولهالك تاني، مش هرتاح غير لما ادمرك أنت وعيلتك كلها..
أثار غضب "آسر"، فأسرع ليفصل بينه وبين أبيه كالحاجز البشري، ومن ثم رفع معصمه ليضعه على رقبته، ليخبره وعينيه تتحداه في نظراتٍ سافرة:
_لو راجل بجد والرجولة ناقحة عليك وريني اخرك..
كاد بأن يحرر ذاته منه، ولكنه تفاجئ بامرأة تراقب ما يحدث بينهما ببكاء شديد، ومن ثم قالت  بخوفٍ:
_" آسر" ابني..
ما ان استمع لصوت والدته حتى أخفض يديه عنه، واستدار تجاهها، يعلم جيداً كيف يشكل التار حالة من الرهبة إليها،  أسرعت "رواية" تجاهه لتندث بأحضانه وصوتها يخفق بضعفٍ:
_ابني...
انقبض قلب "فهد" وبات ناقماً على من تسبب ببكائها، فتدخل على الفور حينما واجه "أيان" قائلاً:
_أعلى ما في خيلك اركبه..
منحه ابتسامة غامضة، قبل أن يعدل من جاكيته الغير منظم، فتطلع تجاه "آسر" بنظرةٍ أخيرة قبل أن يغادر المطعم، وفور مغادرته اتجه "فهد" تجاه صاحب المطعم الذي أتى سريعاً ليرى حالة الشغب الحادثة بمطعمه، فقال بثباتٍ:
_أني بعتذر على سوء التفاهم اللي حصل، ومش عايزك تقلق أني هتكفل بكل الخساير اللي حصلت بالمكان...
لخص الرجل مظهره الآنيق وطريقته اللبقة بالحديث بكونه رجلاً من كبار عائلات الصعيد،فيكفيه اعترافه بالخطأ وتحمل نتائجه، لذا بصدرٍ رحب قال:
_ولا يهم حضرتك المهم ان الامور اتحلت.
أخرج "فهد"من جيب جلبابه الأسود،دفتر شيكاته ثم دون مبلغ ضخماً،وقدمه للرجل:
_الحمد لله اتحلت...
وتركه واتجه تجاه زوجته وابنه، فسُلطت نظراته عليه ليشير له بغموضٍ:
_خد الوكل وروح لنسايبك،ميصحش تسيبهم اكده..
بدى حائراً من تصرف أبيه،وكأن شيئاً لم يكن بالنسبة اليه،ولكنه بالنهاية لديه كل الحق، فحمل الحقائب ثم اتجه لسيارته،تاركاً والدته في مواجهة أبيه...
بالخارج..
كانت زوجة خالها تشعر بالحر الشديد، لذا فتحت نافذة السيارة، فانتبهت لمن لا يغفل عنه أحداً،  فجذبت ذراع شقيقة زوجها وهي تتساءل بذهولٍ:
_مش ده"أيان المغازي"؟
تطلعت" فاطمه"و"تسنيم" للخارج، فانعقدت ملامحهما بذهولٍ،فقالت "فاطمة"بقلقٍ:
_بيعمل أيه هنا....يا خبر ليكونوا اتخانقوا جوه عشان اكده الكبير نزل هو ومرته على جوه..
انتباتها عاصفة من القلق، غزت جسدها لتشعر بربكةٍ تضرب أسوارها لمجرد تخيل السوء به، ففتحت باب السيارة وهي تهم بالنهوض قائلة:
_هنزل أشوف في أيه وهجي.
وصعدت الدرج القصير المودي لباب المطعم المتحرك القصير،دفعته بيدها فلامست أحداهما دون رؤيا منها، مرت هي الأخرى فوجدت يدها تستند على صدره وبالأخص موضع قلبه،ارتعشت أصابعها حينما شعرت بنبضات قلبه أسفل أصابعها، وعينيها لا تفارق لقاء عينيه التائهة بخضرة عينيها.
ثوانٍ....دقائق...لا يعلم كم من الوقت بات متصنماً كالأبله أمامها، يشعر وكأن لمسة يدها تلك تخفف عنه حدة ما تعرض له منذ قليل من مشاحنةٍ قاسية، شعر وكأن بملمس يدها شفاء يجاهله،كأنها تنفذ لقلبه دون وسيط، التقطت عينيها بقعة الدماء على يديه فعادت لأرض واقعها مفزوعة مما رأته،فتمسكت بيديه وهي تسأله بلهفةٍ:
_أنت بتنزف!
تطلعت إليه حينما وجدته مازال شارداً،فصاحت بإسمه بخوفٍ:
_"آســـــــــــر"..
أغلق عينيه بابتسامةٍ منحته وسامة خاصة به، سماع إسمه دون ألقاب تسبقه أسعده كثيراً، فتطلع لها مطولاً بنظراتٍ مستمتعة برؤية قلقها الساكن بعينيها قبل أن يسكن تعابيرها، صمته جعلها تخمن بوجعه الشديد أو ربما تعرض لشيءٍ سيء، فتدفقت دموعها على وجنتها وكأنها بذلك سكبت عليه المياه الباردة التي أعادته لواقعه، فردد بتلهفٍ:
_تسنيم!
ثم أسرع باطمئنانها:
_أنا كويس... ده مجرد خدش بسيط.
رمقته بنظرةٍ معاتبة لصمته الذي جلدها، وجعلها تخمن تخمينات أسوء من بعضها لما حدث معها، لكزته بقوةٍ على صدره ثم استدارت لتعود للسيارة فتوقفت عن الحركة حينما جذبها من معصمها لتقف مقابله من جديدٍ، أخفضت وجهها للأرض لتتهرب منه،فما حدث مخجل للغاية..ملامستها صدره ويديه...نظراتها البلهاء تجاهه..بكائها خوفاً عليه، عشقها دفع مشاعرها لتصبح كالكتاب المفتوح أمامه، ودت لو امتلكت جرأة مشابهة لتلك حتى تتطلع اليه مجدداً، علها تلامس ذاك الدفء من نظراته، وجدته يقترب منها قليلاً ليهمس بصوته الرجولي الرخيم:
_بتخبي اللي شايفه في عيونك مني ليه يا تسنيم؟
تطلعت اليه باستغرابٍ لما يقصده بعينيها،  فتساءلت:
_أيه اللي في عنيا؟
رسم بسمة ساحرة على طرفي شفتيه وهو يجيبها:
_لهفة وحب وخوف... أحاسيس كتيرة وصلتني من نظراتك ولمسة أيدك.
ارتبكت للغاية، فبللت شفتيها بارتباكٍ، وكمحاولة للتهرب منه عدلت طرف حجابها الطويل على كتفيها، ثم قالت:
_هروح أشوف ماما ومرات خالي..
قاطعهما النادل الذي خرج اليهما حاملاً عدة حقائب، ليشير لآسر قائلاً:
_الاوردر جاهز يا فندم..
قال وهو يدنو منه ليحمل عنه أكياس الطعام والمشروبات:
_طب ساعديني طيب ده أنا مجروح وبنزف!
كبتت ضحكاتها وهي ترى غمزته المشاكسة، وبالرغم من ذلك الا أنها اقتربت منه لتحمل عنه بعض الأكياس، ثم قالت ساخرة:
_أحسن كده ولا أشيل باقي الاكياس..
رفع كتفيه بغرورٍ:
_عيب عليكي ده احنا رجالة صعايدة وبنفهم في الواجب..
ضحكت بصوتٍ أثلج صدره، فأشار لها بتتبعه، هبط الدرج ولجوارها كان يهبط عدد من الشباب بعدما انتهوا من تناول طعامهما، فأسرع "آسر" ليفصل بينها وبينهما،  لوهلة كفت عن استكمال الدرج وتأملته باسمة، شعرت بأنها أصبحت تمتلك حامي لا يقصر أبداً بحمايتها حتى في أتفه المواقف،  وصل للسيارة، فاندهشت حينما وجدت والدتها تجلس بالخلف جوار زوجة خالها،  وبضحكة خبيثة قالت:
_خليكي انتي قدام يا تسنيم، لحسن انا مرتحتش في القعدة قدام..
تلقائياً انتقلت نظراتها اليه، فوجدته يبتسم لها بمكرٍ،  ومن ثم ناولهما الطعام قبل أن يصعد للسيارة، فتحرك بهما سريعاً لاستكمال الطريق،  فتسائلت فاطمة بدهشةٍ:
_امال فين الكبير والست "رواية"..
اجابها بابتسامة جعلها طبيعية حتى لا ينشغل بالهما كثيراً:
_شوية وهيحصلونا..
اومأت برأسها،  ثم تطلعت تجاه ابنتها لتشير اليها قائلة:
_افتحي الاكل لعريسك يا بنتي زمانه جاع..
ببسمةٍ ماكرة قال:
_حاسة بيا يا حماتي..
ثم تطلع تجاه تسنيم ليشير لها بعينيه على جرح يديه، وبمكرٍ همس بصوتٍ منخفض:
_مجروح وكده..
منحته نظرة مغتاظة قبل أن تحرر غطاء كرتون البيتزا،  ومن ثم التقطت احدى القطع لتضعه على المقعد الصغير الفاصل بينهما،  رفعها آسر لفمه وهو يغلق عينيه بتلذذٍ اتبعه قوله المشاكس:
_هتعود أكل من ايدك على طول... البيتزا دي طول عمري بطلبها من نفس المطعم ده بس عمرها ما كانت بالحلاوة دي..
ابتسمت بخجلٍ ثم الهت ذاتها بالنظر من باب السيارة،  فتتبعتها عينيه ولم تترك لها حرية البعد حتى وان كانت قريبة وعلى بعدٍ منه!
                  *********
بالداخل
ما أن تأكدت من رحيل آسر حتى  أسرعت "رواية" بخطاها حتى أصبحت مقابل زوجها، فمسحت دمعاتها العالقة بأهدابها قائلة بتلعثمٍ:
_ابني بره كل ده يا "فهد"، أنا قولتلك قبل كده خرجه من اللعبة دي..
أغلق عينيه يجاهد صداع رأسه الذي سيطرق بابه بعد قليل مما سيحدث الآن، فقال بهدوءٍ زائف:
_أنا بعده عن أي حاجة يا رواية وأنتي عارفة كده كويس، كان ممكن أعيد الغلطة اللي عملتها قبل كده وأنا بأخد تار أبويا وتبقى بحور دم بس انا اتراجعت وحسبتها بالعقل، تاري ممكن أخده من غير نقطة دم ممكن تأذي ابني بعد كده، وده اللي بعمله بس للاسف الولد ده مش ناوي يجبها لبر..ولازم يتحطله حد وفي أقرب وقت...
انهمرت دمعاتها الساخنة على وجهها، فأصابته في مقتل، فأمسك يدها ثم همس لها بحنانٍ:
_حبيبتي خليكي واثقة فيا أنا مستحيل اسيب الكلب ده يأذي ابننا، حتى لو التمن كان روحي..
رفعت وجهها تجاهه، ثم رفعت كفة يدها الأخرى لتتمسك بيديه، وببكاء تمهل بحديثها المرتجف قالت:
_ليه حاطط في حساباتك انه ممكن يأذي آسر، فكر كمان في روجينا، لازم نحميهم الاتنين منه يا"فهد"..
رفع يدها اليه ليطبع قبلة رقيقة، قبل أن يجيبها بابتسامةٍ صافية:
_ولادي الاتنين وانتي في عنيا وجوه قلبي يا"رواية"، وأي كلب من دول هيقربلكم لازم يعدي على جثتي الاول..
وضعت يدها على فمه بغضبٍ:
_أيه اللي بتقوله ده بعد الشر عليك..
استغل الفرصة مرة أخرى فطبع قبلة أخرى، ثم غمز لها وهو يردد بصوتٍ منخفض:
_طيب مش يالا بقا، لحسن كده هيبة الصعيدي هتروح سابع دولة لو لقوني بتكلم زيهم وأحسن منهم كده ولا أيه؟
نجح في رسم الابتسامة على وجهها، فعدلت من حقيبتها على كتفيها ثم مسحت وجهها جيداً، لتتحرك تجاه باب الخروج:
_يالا...
حرك يديه ليعدل من جلبابه ووشاحه الاسود الضخم المتدلي من خلفه، ليلحق بها بالخارج، فاستقبله السائق بفتح باب السيارة......
                  *********
أعدت "نادين" الكثير من أصناف الطعام الشهي على الغداء بمساعدة "حور" و"تالين"، فاليوم ستجتمع افراد العائلة بعد غياب، انتهت "نادين" من سكب أكواب العصائر ثم استدارت تجاه ابنتها التي تعد السلطات بأنواعها، قائلة:
_روحي يا حور أسالي اخوكي وقوليله قربوا يوصلوا ولا أيه؟
جففت يدها ثم ارتدت حجابها المنسدل حول رقبتها، متجهة للشقة المقابلة لهم،  طرقت عدة مرات، وبالرغم من أن الباب كان نصف مفتوح لم ترغب في الولوج قبل أن تطرق مرات متعددة، وحينما لم تنتظر رداً ولجت للداخل وهي تنادي بتوترٍ:
_"بدر".... بدر..
لم يأتيها رده، فاتجهت لغرفته ثم حاولت فتح بابها ولكنه كان موصود من الداخل،  تعجبت للغاية من اغلاقه للباب بالمفتاح، فاتجهت لغرفة أحمد بقلقٍ من أن يكون أخيها بسوءٍ، وجدت باب غرفته مفتوح على مصرعيه، لتراه أمامها يؤدي صلاته بخشوعٍ تام، وصوت في الترتيلٍ سحرها لدرجةٍ جعلتها تجلس على مقربةٍ منه لتسمع صوته الخاشع في تلاوة القرآن الكريم،  وبعد أن انتهى من صلاته نهض يثني سجادته وهو يتطلع اليها بابتسامةٍ مرحة:
_إنسيه لما بينام بيبقى شبه المقتول بالظبط.. لو عايزاه في حاجة مهمة وكده ممكن أجازف واعديله من البلكونة ورزقي ورزقك على الله..
شرودها بها لم يجعلها تستمع لما قاله،  فخرجت كلماتها تلقائياً دون حساب منها:
_صوتك جميل أوي يا أحمد ما شاء الله،  أول مرة اعرف انك صوتك حلو في قراية القرآن.
ابتسم على مدحها الرقيق، ثم قال:
_مش أوي كده، احنا على قدنا..
ضحكت وهي تجيبه:
_متخفش انا مش حسادة بس برضه صوتك حلو..
ضحك هو الأخير ثم قال:
_ماشي يا ستي متشكرين.... المهم هنأكل ايه النهاردة لحسن انا واقع!
قالت بحماسٍ سبقها بالحديث فلم يضع لها حداً:
_عملتلك طاجن ورق عنب بالكوارع انما ايه عجب..
تطلع لها بفرحةٍ:
_ايه ده بجد!
هزت رأسها،  فوضع سجادة الصلاة على الاريكة القريبة منه ثم قال مازحاً:
_أنا خسيت النص من بعد ما تعبتي، محدش بيفتكرني بأي صابع كفتة تايه حتى...
تعالت ضحكاتها على مزحته، فانتفضت بوقفتها وهي تردد بتذكرٍ:
_يا خبر دي ماما هتولع فيا،  كانت قايلالي اخلي بدر يشوفوهم بقوا فين وانا بحاول من ساعتها اصحيه مش عارفة.
أخرج هاتفه من جيب بنطاله وهو يردف بابتسامة عذباء:
_اهدي بس كده ولا هتقتلك ولا هيحصل حاجة... هجبلك أرارهم وحالاً..
ابتسمت وهي تردد بامتنانٍ:
_تسلم يا أحمد..
منحها نظرة هادئة قبل أن يحرر زر الاتصال، ليأتيه صوت آسر،  فقال الاخير:
_فينك يا ديزل!  .. كل ده في الطريق!
أتاه صوت الساكن بغيمة عشقه المجاور له:
_لا خلاص يا أحمد دقايق وداخلين عليكم ان شاء الله
=توصل بالسلامة أنت واللي معاك... أنا هستناك تحت..
_تمام يابو حميد... سلام
وأغلق الهاتف ثم أشار لها قائلاً:
_على وصول يا حور..
همت بالخروج قائلة بابتسامة رقيقة:
_الحق اكمل السلطة قبل ما يوصلوا..
ابتسم وهو يجذب مفاتيحه ثم قال:
_وأنا هنزل استناهم تحت..
وأغلق باب الشقة ثم هبط للاسفل وعينيه تراقبها وهي تدنو من باب الشقة المجاورة، حتى اختفت تماماً من أمامه، فاستكمل طريقه للاسفل بابتسامةٍ مرسومة على وجهه رغماً عنه..
                     *********
بغرفة "روجينا"
زفرت بتأففٍ حينما حاولت الاتصال به للمرة التي تعدت الخمسة عشر مرة ولم ياتيها رده،  بات القلق يستحوذ عليها بشكلٍ كبير، فأرسلت اليه رسالة مسجلة والحزن والقلق كفيل بجعل صوتها مرتعش كالرعد الذي يضرب القمر فيجعله يرتعد خوفاً:
_أيان أنت فين من الصبح بكلمك مش بترد عليا،  أنت زعلان مني في حاجة.. يمكن أكون عملت حاجة تزعلك وأنا مخدتش بالي.. أرجوك رد عليا أنا قلقانه عليك.. آآ.. أنت وحشتني أوي، مشفتكش امبارح ولا النهاردة.. أرجوك حاول تطمني عليك.. أنا حاسة اني هيجرالي حاجة من كتر تفكيري بيك.
                  *******
على الجانب الأخر..
فتح هاتفه ومن ثم فتح الريكورد المسجل وعينيه منصوبة على الطريق بنظراتٍ خالية من الحياة، مازال يتذكر مواجهته بألد عدو له،  كان يقف أمامه ويتحدث إليه وتركه دون أن ينتهي منه،  لكم مقود السيارة بغضبٍ كفيل بجعل السيارة تنقلب في حادث مزري تجاه عصبيته الدامية، ولكن لولا مهاراته بالقيادة لانقلبت به بالفعل،  استمع "أيان" لصوتها الباكي فشعر بوهلة بتخبطٍ بمشاعره، ما بين الفرحة والغرور بأنه سيقتص منهما قريباً، وما بين التوتر والارتباك من شعوره بشيءٍ حاد يخترق قلبه لسماع صوتها الباكي، ثمة شيئاً غريباً يلامس قلبه حينما يستمع لصوتها، والأغرب من ذلك مشاعره التي تتحرك حينما تكون معه وبين يديه، ظنها بالبداية غريزته الذكورية هي من تحركه تجاهها ولكن بات الأمر الآن غير مفهوماً بالنسبة اليه،  فأغلق الهاتف في تحدٍ لذاته بأنه لم يتغير، بل هو مثلما كان عليه، حتى انه لن يهتم برسالتها مثلما كان يفعل سابقاً،  فبات طريقه للصعيد بمثابةٍ حرب غير منصفة له ما بين الاتصال بها والثبات باتزانه الرزين!
                         ********
وصلت سيارة "آسر" أولاً، ليجد أحمد وعمه "سليم" باستقبالهم،  حتى "حور" اسرعت للاسفل، لتضم رفيقتها بشوقٍ وترحاب تشاركت به نادين التي رحبت بزوجة خالها ووالدتها، واستقبلتهما أفضل استقبال،  ومن بعدهما لحقت بهما سيارة "فهد"،  فهبط منها ليسرع احمد باحتضانه، ربت على ظهره بحنانٍ وهو يردد:
_اتوحشتني يا ولدي... كيف أحوالك!
أجابه بابتسامةٍ متسعة:
_بخير يا عمي..
ثم اشار له بالصعود:
_اتفضل..
صعدوا جميعاً للأعلى فجلسوا بالردهة المطولة، لتستقبلهما"تالين" بالمشروبات الباردة،  ومن ثم اسرعت تجاه عمتها لتحتضنها بشوقٍ:
_وحشتيني أوووي يا عمتو، كان نفسي اشوفك..
احتضنتها الاخيرة بقوةٍ ثم قالت:
_حبيبة قلبي وانتي كمان والله وحشتيني انتي ورؤى..
وتساءلت باستغرابٍ:
_هي فين؟
قالت ويدها تشير على غرفتها:
_جوه هي وبابا..
انعقد حاجبها بذهولٍ:
_هو خالد نزل من السفر!
هزت برأسها بنعم،  فتساءلت بدهشةٍ:
_أمته ده وازاي ميقوليش!
تطلع لها فهد بإشارة فهمتها رغم عدم استيعابها ما يحدث،  التقطت اذنيها صوت صغيرتها المنطلق بفرحةٍ:
_حمدلله على سلامتك يا بابا..
ابتسم "فهد" وهو يتطلع لها،  فترك العصا عن يديه ثم أشار لها بأن تسرع لاحضانه،  وبالفعل هرولت ليحتضنها باشتياقٍ تتبعه قوله المعاتب:
_كده متساليش عن أبوكي طول الفترة اللي فاتت دي،  حتى الاجازات اللي بتاخديها مبقتيش تنزلي فيهم البلد،  شكل عيشتك هنا عجبتك يا روجين..
ابتعدت عن احضانه وهي تجيبه بدلالٍ:
_حضرتك عارف اني بكره الجو في الصعيد، هنا بكون مرتاحة أكتر..
ربت على رأسها بحنان:
_وأنا مبحملش غير اللي يريحك يا روح قلبي المهم تكوني مبسوطة..
ابتسمت بفرحةٍ وهي تستند على صدره:
_حبيبي يا بابا ربنا ما يحرمني منك يارب..
ضمها اليها ببسمةٍ صغيرة،  تلاشت حينما وجد الدموع تلألأ بعين زوجته،  فأبعد ابنته عنه ثم قال ويديه تحتضن رأسها:
_مش هتسلمي يا ماما ولا أيه؟
انقلبت تعابيرها للضيق،  وبالرغم من ذلك حاولت ان تبدو ثابتة حتى بقولها:
_لا هسلم.
ونهضت لتقترب منها ثم قالت بجمودٍ:
_ازيك يا ماما عاملة ايه..
نهضت رواية عن مقعدها وان كانت لم تقدم ابنتها على احتضانها فاقدمت هي،  ضمتها لصدرها بوجعٍ وشوق يتلحمان بمعركةٍ قاسية،  ثم همست لها بدموعٍ:
_كده يا روجين،  أهون عليكي تسيبني كل ده من غير ما حتي ترفعي عليا سماعة التليفون،  حتى مكالماتي مش بتردي عليها غير كل فين وفين طيب ليه يا بنتي!
ابتعدت عنها ثم قالت بابتسامة زائفة:
_معلشي يا ماما انتي عارفة اني من فترة كنت بمتحن وانشغلت بالمذاكرة حقك عليا..
ربتت على كتفيها بحبٍ:
_ولا يهمك يا حبيبتي المهم انك تبقي بخير دايماً.
حاولت رسم ابتسامة اخرى والدموع تكبتها داخل عينيها،  فمن سيصدق ان "رواية" كانت الاقرب دوماً لروجينا ولكن الآن باتت الامور معقدة بفضل اصدقاء السوء وعلى رأسهم "تقى" التي سمحت لهما "روجينا" بالتدخل بحياتها،  فسيطروا عليها سيطرة كاملة ليقتلوا بها كل زرع طيب زرعته رواية بداخلها،  فباتت مهيئة لاستقبال ذاك الشيطان الذي ارسل لها اتباعه بالبداية ليمهدوا له طريق للدخول،  وها هو الآن يستحوذ عليها قلبا وقالباً..
انتبهت "روجينا" من غفلتها على يد آسر التي تحيط كتفيها، ليشاكسها بمزحٍ:
_مستانية الأذن عشان تسلمي عليا ولا مستانية الكبير اللي يجي ويسلم على الصغير..
قالت بابتسامة مشرقة:
_لا وانت الصادق بفضيلك دور خصوصي عشان أسلم وأبارك وأعين..
جذبها لاحضانه ثم استدار بها للخلف، ليهمس جوار اذنيها وعينيه على تسنيم الجالسة جوار حور وتالين تتبادل الحديث معهم بانشغال:
_عيني براحتك... هاا..
ضحكت وهي تهمس له بالصعيدي:
_عينت قبل سابق ياخوي، مهي تبقى صاحبة حور الروح بالروح بس برضك الاحتياط واجب ولازمن نعينوا تاني وتالت ورابع ولا أنت رأيك أيه!
هوى على جبهتها بضربةٍ خفيفة وهو يستفزها بالحديث:
_من رأيي انك تقعدي جنب خطيبك وتقيميه هو أفضل..
انقلبت معالمها فور دفعه لها برفقٍ لتجلس على مسافةٍ من  أحمد،  فارتبكت للغاية وانتفض جسدها بتوترٍ غير محبب، وبالرغم من حلقة المزح بينه وبين اخيها الا انها لم تفكر الا باختيار مكان اخر تجلس به بعيداً عنه..
انضم لهما "خالد" بعدما خرج من غرفة ابنته،  فاسرعت اليه راوية لتحتضنه بدموعٍ وشوق،  ثم قالت بعتاب:
_كده يا خالد تنزل من السفر واختك أخر من يعلم..
أجابها بصوتٍ مشحون بالهموم الموجوعة:
_غصب عني والله يا رواية،  مكنتش فايق لاي حاجه خالص.
تساءلت بقلقٍ:
_ليه حصل أيه؟
تفحص اوجه الجميع ثم قال:
_لما نبقى لوحدينا هحكيلك..
ثم تركها وتبادل السلام الحار مع فهد الذي ما أن رأى اشارة منتظرة من وجه "بدر" الذي ولج من الخارج لتو،  حتى همس لخالد قائلاً:
_اللي قولتلك عليه حصل..
ابتعد عنه وهو يتطلع له بصدمةٍ من سرعته في تلبية ما قاله،  فاسرع بالحديث الغاضب:
_خدني ليه عايز اشفي غليلي..
أمسك يديه وهو يحثه على الجلوس قائلاً:
_أعقل، أنا ما صدقت اعقل بدر،  هناخد حقنا منه بس بالعقل..
ثم رفع عينيه تجاه بدر ليشير اليه بهدوءٍ،  فتابعهما خالد بعدم فهم، وخاصة حينما ولج بدر لغرفة ابنته،  فنقل نظراته لسليم الذي قال بحزمٍ:
_بعد ما الضيوف ياخدوا واجبهم هنروح للمصنع وتشفي غليلك منه..
هز رأسه بتفهمٍ، ثم قال:
_طيب وبنتي..
أجابه فهد بغموض:
_هي اللي هتختار بنفسها حياتها..
تساءل بعدم فهم:
_ازاي!
قال بايجازٍ:
_سيبها لبدر هو عارف هيعمل ايه بالظبط..
ثم أشار لهما قائلاً:
_يلا الأكل اتحط..
ونهضوا جميعاً ليجتمعوا على المائدة الضخمة التي اعدتها حور ونادين لاستقبالهم بما لذ وطاب..
                        *******
بغرفة "رؤى"..
طرق بابها قبل أن يدلف للداخل،  فسكن الحزن تعابير وجهه باجتيازٍ حينما وجدها ساكنة على فراشها، كأنها تستسلم للموت الذي بات الاقرب اليها وأسمى امنياتها،  شرودها وبكائها الدائم جعلها بدوامة بعيدةٍ حتى انها لم تشعر بمن يقف أمامها، انحنى حتى جثى على ركبتيه أمام فراشها،  ثم نادها بصوته العذب:
_" رؤى"..
رفعت عينيها تجاهه، فكانت حجتها لزهق تلك الدمعات العالقة، لم يتردد في مسح ما يؤلمها فازاح دمعاتها بعيداً عنها،  ثم عاونها على الاستقامة بالجلوس على الفراش،  ليسألها بنبرة ختمت بوجع سكن كلماته كالشبح:
_ليه عاملة في نفسك كده... مطلعتيش ليه تقعدي معانا بره؟
بابتسامة باهتة يتبعها دمعة خائنة قالت:
_أطلع فين يا بدر، أنا مش قادرة ارفع عيني في عين حد..
وببكاءٍ مرير قالت:
_أنا خلاص اتكسرت وكبريائي كمان انكسر معايا..
جز على شفتيه يحتمل وجع قلبه الباكي عليها،  فرفع كفة يديه يطوف به وجهها،  ثم أجبرها باصابعه بأن تتطلع اليه،  ليردد بهيامٍ تزين بالعشق:
_ما عاش ولا كان اللي يكسرك وأنا عايش وعلى وش الدنيا، ياريت الوجع اللي جواكي ده يتنقل كله فيا وأرجع أشوف ابتسامتك وشغفك بالحياة تاني يا "رؤى".... بعدك عني مكنش عقاب أد ما حزنك ده أقسى عقاب ليا...
ثم زفر عدة مرات وهو يحاول التحكم بذاته،  وبالفعل تمكن،  فنهض ليجذبها عنوة لتقف أمامه وتنصت اليه حينما قال بصلابةٍ اكتسبها فجأة:
_بس خلاص جيه الوقت اللي أشيل كل اللي جواكي ده وبأيدك يا رؤى..
لم تفهم مغزى حديثه جيداً، فقالت بدهشةٍ:
_تقصد أيه؟
أمسك يدها واجبرها على ان تلحقه للخارج وهو يردد بثقةٍ:
_هتعرفي دلوقتي...
وخرج بها للاسفل مستغلاً انشغال الجميع بغرفة الضيافة،  ومن ثم صعد بها لسيارته التي تحركت تجاه المخازن الخاصة بتوريد المصنع،  توقفت سيارته أمامها فهبط ثم أشار لها قائلاً:
_انزلي..
طوفت المكان بنظرة خوف،  ثم قالت:
_ليه!
لف اليها، ثم فتح بابها ليشير لها بالهبوط،  فتتبعته بالاسفل،  ومن ثم اتبعته فسلك شارع رفيع يفصل المصنع عن ذاك المخزن،  فوجدت رجلين  باجساد كالدبابات المدرعة يقفون أمام  باب حديدي يفتح من الاعلى، وفور رؤياهما لبدر قال احداهما:
_الامانة مشرفة جوه من بدري يا بشمهندس، لو تحب نخلصوا منها احنا أي خدمة..
أشار له بحزمٍ:
_لا محدش يتعامل معاه بدون أذن مني...
ثم قال بصرامةٍ:
_افتح الباب..
دوي صوت الباب جعلها تتمسك به بخوفٍ،  فما ان ولجت للداخل حتى سألته برعبٍ:
_أنت جايبني هنا ليه يا بدر!
وجدت نظراته قاتمة مخيفة، تتجه خلفها بثباتٍ قاتل،  فاستدارت للخلف لتتفاجئ بأخر شخص تتوقع رؤياه،  وجدته مقيد ووجهه ينزف دماءٍ لا مثيل لها،  فقالت بصدمةٍ:
_أنت!
............ يتبع.............
#الدهاشنة٢....... #بقلمي_ملكة_الإبداع_آية_محمد_رفعت..
أحبائي في #المغرب الحبيب ❤
رواياتي متوفرة حاليًا في #معرض_الرباط_الدولي_للكتاب جناح #إبداع رقم C36 في صالة C في #معرض_الرباط_الدولي_للكتاب_2022
بداية من 3 حتى 12 يونيو في فضاء السويسي بشارع الإمام مالك أمام فندق سوفيتيل ...
للتواصل مع الدار في معرض الرباط واتساب الرقم 00201004022774 أو هاتف رقم 0600126538
********___________********

الدهاشنة (لملكة الإبداع ايه محمد )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن