اليوم الذي غير حياتي
كنا في زيارة لأحد الأقارب وكان المجلس مكتظا بالرجال من جميع الأعمار وكعادتي كنت أناقش الموضوعات الجدلية بحرارة وأصطدم مع أي رأي لا يعجبني أو يدخل عقلي وكنت أحب أن أسمع عبارات الثناء من من هم حولي عندما أفحم أحد المتغطرسين الذين يدعون العلم والمعرفة أمام أفراد المجلس فقط لكونهم يحظون بمكانة اجتماعية أو اقتصادية توهمهم بأنهم مخولون بالحديث في أي مجال أو موضوع . كنت أرتوي بنظرات الفخر والإعجاب من أبي خاصة وبعض أقاربي ورواد المجلس عامة وكانت عبارات مثل « أنت سابق سنك » أو « ما شاء الله عليك أفحمتهم » هي التتويج المحبب لقلبي في كل معركة نقاشية أنتصر فيها . لا شك أن هناك بعض العقول المتحجرة التي كانت تعشش في تلك المجالس كالغربان المسنة التي ترفض وتحرم على الطيور الصغيرة الجلوس على غصن هزيل على تلك الشجرة وتنعق في كل من يحاول الاقتراب منها والتي مها طرقتها بسندان المنطق ومطرقة الدليل القاطع لن تنفلق أبدا وتعترف بجهلها لكنها تكتفي بردود وعبارات استفزازية مضحكة مثل « الحمد لله على نعمة الإسلام » أو « إحنا ما نعرف غير القرآن والسنة » وكأن الذي يتحدث معهم قد جاء للتو من حائط المبكى . كنت متعودا على هذا الأسلوب البائد للهروب من الحوار والنقاش العقلاني لكنني كنت أستاء من نظرات التأييد والقبول من بعض الذين كنت أحسبهم ضمن العقلاء في المجلس وكأنهم بهذا التأييد يشترون راحتهم وينجون بأنفسهم من تصنيف حتمي سوف يعزلهم عن تلك الفئة المسيطرة على مجلسنا الموقر ويجعلهم في قائمة تعرف في يومنا الحاضر « بالليبرالية » وهذا المسمى وللأسف تم استخدامه مع من ينطبق عليه ومع من لا ينطبق ناهيك عن عبارات مثل « هل ترضاها لأختك » وغيرها من الوسائل المعتادة للهروب من أي نقاش منطقي . أكاد أجزم أن بعضكم سيتوقف عن القراءة الآن لأنه قد أصدر علي حكما بأني أحتقر من حولي وأنظر لهم بدونية وأحمل شعلة التحرر والانفتاح لأقود بها الناس أو على أقل تقدير فاسق أو مزدر للأديان من مجرد بعض السطور مع أنني لم أتطرق للدين نهائيا لكن تطرقت لأشخاص وهنا تكمن المشكلة الحقيقية التي أواجهها بعقلي الذي يريد التوقف عن التفكير فليس من طبعي تقديس الأشخاص أو لا وضعهم في فئة المعصومين المنزهين عن الخطأ ، فأقصى ما يمكن أن يحظوا به مني هو الاحترام المتبادل والنقاش الراقي وهذا بحد ذاته حلم بعيد المنال مع بعض المحسوبين علينا بالمفكرين والعقلاء والذين لم يتنزهوا أو يترفعوا إلا عن أبسط أبجديات أدب الحوار . ما تسمعه مني هو ليس صوت « الأنا » بل صوت « من أنتم » لتحددوا كيف أكون ؟ لنعد للمجلس الذي امتلأ بدخان البخور معلنا نهاية الجلسة ونظرة غضب من عمي عندما قلت إن إشعال البخور هو من أهم المكونات التي يستخدمها الهندوس في الكثير من مراسمهم وطقوسهم .. يجب أن أتعلم ألا أتكلم في الثوابت في المستقبل . هممنا بالخروج وقبل وصولي لباب المجلس نادى علي أحد أقربائي والذي كان كبيرا في السن وقد ناهز السبعين صيفا من عمره . أشار لي بيده فذهبت له لأني بصراحة أفضل الحديث مع كبار السن لأن فيهم من الحكمة المعتقة التي أحب أن أحتسيها منهم قبل فراقهم لهذه الدنيا . قال لي قريبي المسن : هل ترغب في الحديث ؟ السؤال كان غريبا لكن الإجابة كانت : نعم بالتأكيد ! فقال : ابق معي قليلا حتى يخرج الناس . جلست معه حتى رحل الناس بمن فيهم أبي الذي اصطحبه أخي بسيارته التي بدأ للتو تعلم قيادتها ، لأن المنزل كان منزل ابن الرجل الذي طلب الحديث معي وهو مقيم معه منذ فترة .