الجزء الاول

418 17 0
                                    


ليـلة رهيبـة
كنت في ذلك الوقت شابا في الخامسة والثلاثين من عمري لا أعرف شيئاً عن عالم ما وراء الطبيعة وكنت أومن أن العلم قد عرف كل شيء .. كنت ساذجا بالطبع ...
‏ سافرت إلى بريطانيا لحضور مؤتمر أمراض الدم الذي يحضره نخبة من أساتذة هذا العلم في العالم كله ، لكن كما هو معروف ـ ليست المحاضرات مشوقة إلى هذا الحد وقد قضيت في ذلك اليوم أربع ساعات من أسود ساعات حياتي أصغى لكلام كثير عن سرطان الدم و أنيميا البحر المتوسط ..و ..... و........
‏كان الأطباء الجالسون قد أصيبوا بذلك النوع من الملل والتعاسة والتجمد الفكري الذي أوثر أن أسميه ( ذهول المؤتمرات ) ، كانوا جميعا قد فقدوا الإحساس بظهرهم وأطرافهم . وتحولت أرادفهم إلى جزء من المقاعد وبعضهم أخذ يزجي الوقت في الحديث همسا وهم يضعون أيديهم على أفواههم كتلاميذ المدارس ... ...
‏- شكـرا .
‏وللحظة لم يصدق هؤلاء البؤساء آذانهم لكن الرجل ..

‏كان قد انتهى بالفعل من محاضراته الطويلة ، من ثم تعالت تنهدات العرفان بالجميل ، وبدأوا يصفقون له شاکرین !
‏كان المحاضر كهلا وسيما اسمه ( ريتشارد كامنجز ) قابلته في مصر أكثر من مرة وانبهرت به بشدة ، كان شامخا مهيبا عصبيا مغرما بالتاريخ والفن وكان يعشق تاريخ الفراعنة وكانت هذه نقطة تلاقينا .
‏ بعد المحاضرة قابلته ، وعلى الفور هش وبش لي وبدت السعادة على وجهه ، بل إنه صافحنى ( وهو شيء غير معتاد من الإنجليز ) ثم إنه سألني عن رأيي في المحاضرة فكذبت عليه في كياسة قائلًا إنها رائعة ، دعاني إلى بيته الريفي في ( يوركشاير ) ؛ لأنني ـ كما قال - إنسان متحضر وشديد الإخلاص للعلم . ..
‏ لهذا ـ وكما علمتني التقاليد الإنجليزية الصارمة وجدتني أجتاز مدخل حديقة البيت الإنجليزي الجميل في تمام السابعة مساء .. وكان القمر يرخي ضوءا هادئاً رقيقا على غصون اللبلاب المتدلية فوق سقف البيت المنحدر ، وفي الحديقة كنت تشم روائح غير مألوفة لزهور لا تعرف اسمها ...
‏وفي الداخل كان البيت أنيقا بسيطا ، بيت أسرة كاثوليكية متدينة .. وفي قاعة الجلوس كانت هناك ..

‏مجموعة كبيرة من الصلبان الأثرية ، ولوحة كبيرة للعشاء الأخير ، وكانت زوجته في منتصف العمر مهذبة رقيقة ، أما ابنته كاترين فكانت مراهقة لكنها أكثر تعقلا من سنها .
‏ وأدركت كم هم متدينون حين تلوا قبل العشاء صلاة المائدة ، من ثم شعرت بالخجل من نفسي لأني نسيت البسملة على الطعام قبل أن أبدأ الأكل .. تمتمت أن بسم الله أوله وآخره ، وشرعت أملأ بطني من الأصناف جميلة المنظر ، شنيعة الطعم ، التي عرف بها المطبخ الإنجليزي في أوروبا كلها ...
‏بعد العشاء - وفي حجرة المعيشة المريحة - جلس د . ريتشارد جوار المدفأة يدخن غليونه ويرشف القهوة في استمتاع وقد بدا لكلينا أن الحياة لن تكون أبذا أروع مما هي عليه الآن .
‏قال د . ريتشارد : كيف تشعر وأنت من سلالة الفراعنة هؤلاء العباقرة ؟
‏ابتسمت ولم أدر بماذا أرد ، فغمغت : .. بالنـدم وبالحسرة لأني لم أحفظ حضارتهم وكل ما اكتشفوه ..

‏ أحيانا يخيل لي أنه لم يعد هناك ما يمكن اكتشافه بعد كل ما اكتشف حتى اليوم ..
‏  ..
‏أعتقد أن زمن ( الكشوف ) قد ولى وبدأ زمـن ( التطوير ) .
‏وهنا يبدأ دور رجل علم مثلى يؤمن بعلم ما وراء الطبيعة ويؤمن أن كل أسطورة لها أصل ما لم يحاول القدماء أن يتوقفوا عنده ، وهكذا نفتح أبوابا جديدة ..
‏وجال ببصره في الحجرة الخالية .. ثم همس :
‏- خذ عندك أسطورة الكونت دراكيولا ..إن أحـذا لم يحاول أن يتأمل فيها .. ، كانوا يبحثون في الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسيـة والانشطـار النـووى والمضادات الحيوية فلم يتوقفوا عند هذه الأسطورة أبذا هنا يأتي دور رجل علم مثلي يؤمن أن هذه الأسطورة لم تأت من فراغ..
‏ ويتوقف لحظة عندها هناك شواهد تاريخية عديدة ومريبة .. الدم هذا السائل الأحمر الغامض رمز الحياة والموت معا خذ عندك طقوس شرب الدماء في الهند .. المومياوات ذات الأنياب التي وجدوها في الصين ، ومآدب أهل أسبرطة التي كانوا يحتسون فيها الدم الممزوج بالخل والتوابل ، ودمـاء السلحفاة البحرية التي يشربونها لعلاج الروماتيزم في .. جامايكا

‏وكتب السحر في العصور الوسطى ، وكلها تتحدث عن طرد مصاصي الدماء كقضية مسلم بها .
‏وهنا نبدأ ـ بمرونة فكرية ـ نجزم أنه في وقت ما ، في مكان ما ، تواجدت مخلوقات كابوسية تعيش على الدماء مثل دراكيولا
‏ - اوه ! ..
‏ كان هذا هو صوت كاترين .. وكانت قد دخلت الحجرة لتوها فسمعت آخر جملة ، وسرعان ما اعتذرت بأنها ترغب في الصعود لحجرتها قال د . ريتشارد :
‏- هكذا أفضل ..  ‏هناك أشياء لا يجب أن يقولها المرء أمام النساء ..أنت تفهمينني ..

‏واتجه نحو النور الكهربائي وأطفأه ، فساد الظلام الحجرة فيما عدا نور المدفأة الهادئ الخافت .. ، وقال بطريقة درامية مؤثرة .:
‏ هكذا يكون الجو مناسبا لهذه الأحاديث الرهيبة !! أحسست بالرجفة تسري في ظهري ، وكان منظر لهيب المدفأة يذكرني بالمشوار الذي ينتظرني بعد هذه الأمسية في العودة لفندقي .. البرد والخوف .
‏توقف د . ريتشارد أمام إحدى اللوحات المعلقة يتأملها على ضوء المدفأة المتراقص ، وهمس :
‏ ـ لقد بحثت وبحثت سنوات طويلة مع أحد رفاقي من علماء التاريخ .. واليوم أستطيع أن أقول إننا برهنا بالدليل المادي على وجود الكونت دراكيولا . دوت الكلمة الكابوسية في الظلام فأجفلت لها في مقعدی ، والواقع أن د . ريتشارد كان مخرجا مسرحيا رائعا ..
‏القصة كما يعرفها كل الناس هي قصة ذلك الكونت الذي عاش في ترانسلفانيا في القرن الرابع عشر .. كان شريرا بكل ما في الكلمة من معان ، ولكنه لم يكن من الموتى الأحياء .. إلا أن كاتبا نشطا أسماه ( دراكيولا ) أي الشيطان ، وخلده « برام ستوكر » في قصته الشهيرة التي لم يزل الناس يرتجفون منها حتى اليـوم .. ثم السينما العالمية .. « فنسنت برايس .. لون شانی » ليكملوا الصورة . .. ..
‏*** « اليوم أقول أنا : إن ( دراكيولا ) وجد فعلا كما صورته القصص دون أية مبالغة

‏***********

سلسلة ماوراء الطبيعة (مصاص الدماء ، و اسطورة الذئب )لأحمد خالد توفيقحيث تعيش القصص. اكتشف الآن