الخاتمة

224 15 5
                                    

الخاتمة

صوت رنين الهاتف يصدح في الشقة ولا أحد يرد، سكون غريب يسكنها، الظلام يلفها من كل ناحية، حتى ذلك الهاتف شاشته مقلوبة نحو الأسفل، تمنع الضوء من أن يخترق حواجز الحماية بأي شكل من الأشكال.
ينظر إلى ساعته العتيقة وإلى هاتفه كي يتأكد من الوقت، ليس بها عطب إذن، لم تتوقف عن العمل، وبالتالي أين المشكلة؟. رفع هاتفه مجددا إلى أذنيه، يسمع الرنة الرتيبة، واحدة فاثنتين، فخمسة، ثم التسجيل الصوتي بالإنجليزية "إن الرقم الذي تطلبه لا يرد على المكالمة.." ليعيد الكرة مرة أخرى، ويزفر بحنق؛ فلا شيء تغير.
تململت في فراشها وهي تغمغم بكلمات غير مفهومة، تلتفت ذات اليمين وذات الشمال، لتلتقط أذناها رنة الهاتف التي وضعتها خصيصا له، وتتداخل مع ذلك الحلم الجميل الذي كانت فيه على وشك الزواج من شاروخان، فتهمهم بانزعاج: "حَتَّى الزْوَاجْ وُحَرْمُه عْلِيَّا.." وتردف بالإنجليزية كأنها تحدث العريس "انتظرني قليلا شاروخ، سأرد على المكالمة" ثم مدت يدها نحو الطاولة على يمينها، تتحسسها تبحث عن الهاتف إلا أنها لم تجده، فتلتفت نحو اليسار لتجده هناك، ودون أن تضغط على زر الرد وضعت الهاتف على أذنها، ليجعلها الصوت المرتفع تبعده عن أذنها وتفتح نصف عين فقط لتحدد مكان الرد.
فتحت الخط ليأتيها صوته حانقا: "أنت فين يا هانم؟ مش اتفقنا نتقابل الصبح؟"
ردت بصوت منخفض غير مفهوم معظم كلماته، وكأنها رجل بات ليلته يشرب حد السكر، ليصبح بصداع الثمالة: "رَاحْ نَتْزَوَّجْ مْعَ شَارُوخْ و.." وقطعت كلماتها تاركة الهاتف يستريح تحت أذنها بينما الآخر ينادي باسمها صائحا، فقد عادت إلى النوم مجددا.
أغلق الخط ورن مرة أخرى لتنتفض هذه المرة على الصوت العالي، فتحت عينيها على اتساعهما وهي ترى اسمه، ثم عادت لفركهما مجيبة، تحاول جعل صوتها يبدو طبيعيا:"صْبَاحْ الخِيرْ عْلِيكْ! كِي(كيف) صْبَحْتْ الْيُومْ؟"
زمجر بها بحدة: "انتي كنت هتتجوزي شاروخان؟!"
انتفضت هاتفة بصدمة: "وَاشْنُو(ماذا) تَانِي، كُنْتْ مْعَايَا فِي المْنَامْ وَلَّا وَاشْ(ماذا)؟"
"طبعاً يا هانم ولا عاوزاني أسيب أحلامك كل من هب ودب يدخل فيها" وصاح بصوت أعلى "ما هي جمعية، عشر دقايق بالظبط يا داهية لو ملقتكيش قدامي هطلع أجيبك بالبيجامة من شعرك المنكوش" وأغلق الهاتف بوجهها وهو يضحك، المجنونة صدقت أنه رأى حلمها، مقلب جيد.
لم تستفق بعد من صدمتها، الهاتف على أذنها وتحدق بيدها، فجأة نفضت رأسها وقد استوعبت أنه قد أقفل الخط، هتفت بسخط: "نْتَا تْعَيَّطْ(تصرخ) عْلَيَّا وْتْقُولِّي..عَشْرْ دْقَايَقْ نَلْقَاكْ قُدَّامِي! أَصْبَرْ تْشُوفْ؛ مَايْكُونْشْ أَسْمِي دِيهِيَا إِذَا مَاخَلِّيتَكْشْ(لم أدعك) تَسْتَنَّى سَاعَة تَحْتْ الشَّمْسْ يَا شَرْشَبِيلْ" ثم نهضت من سريرها ببطء شديد، تأخذ وقتها داخل الحمام، تتناول فطورها والهاتف في يدها تتصفح الأنترنت، كل هذا وهو في الأسفل يشتعل غضبا.
اتصل بها أكثر من مرة، وفي كل مرة إما لا ترد أو تقفل الخط في وجهه، إلى أن نزلت في الأخير بعد ساعة ونصف من الانتظار،يعرف أسلوبها المستفز جيدا، لقد تعمدت التأخر لأنه هددها. نظر لها من الأعلى إلى الأسفل ثم ارتدى نظارته الشمسية وسار من أمامها وكأنها لوح من الزجاج الشفاف، لا لن يصرخ بها ويعطها تلك الفرصة أبدا.
اتسعت ابتسامتها وهي تراه يتعمد البرود، فقط أخذ جرعات كافية طوال الستة أشهر الماضية من استفزازها وبرودها، لهذا فدماغه قد كون تلقائيا مضادات لها، نادت عليه باسمه إلا أنه لم يستدر، تعالت ضحكاتها وهي تلحق به ولسانها لا يكف عن ترديد "شرشبيل" فهذا هو اسمه على هاتفها وفي حياتها اليومية معه، ونادرا ما تستعمل مصطفى إلا حين يصل غضبها معه إلى أقصاه.
لحقت به إلى السيارة وركبت بجانبه تسأله بجمود مصطنع: "أعتقد أنني كنت أحدثك؛ لا؟"
انفجر بها مرة واحدة حتى انتفضت من مكانها "قصدتِ التأخر أليس كذلك؟ لقد كان هذا متعمدا"
هدأت من روعها وكأنها لم تنتفض، ابتسمت بسماجة وهي تتحدث بصوت خافت بارد: "قلت لك عدة مرات ألا تصرخ علي، هذا أولا؛ ثانيا، لا أحب التهديد؛ ثالثا، أتودني أن أنزل بالبيجاما؟ هل قال لك أحدهم أنني متشردة! مع احترامي للمتشردين"
"طيب يا أستاذة داهية" شدد على حروف اسمها بتعمد: "ضاع موعد السمسار واليوم أيضا، هل لديك أفكار بعد أن ضيعنا الموعد بسبب عنادك؟"
"تديك.. كنت سأسألك عنه، هل حددت معه يوما آخر؟"
"لا محددتش؛ ظللت أنتظرك هنا. لم لم تلتزمي بالميعاد أود أن أفهم؟"
حكت رأسها وهي تجيب بتلقائية: " لم استيقظ، سْهَرْتَ البَارَحْ مْعَ أَنِمِي، وْأَصْلًا كُنْتْ فِي مْنَامْ.." ضمت أصابعها وقبلتها بسعادة "وَاشْ(ماذا) نْقًولَّكْ! حْشَمْتْ نُوضْ وَنْخَلِّيهْ (خجلت من الاستيقاظ وتركه)"
جذبها من أذنها بحدة: "بتاع شاروخان ها، من هنا ورايح مفيش هندي أبدا فاهمة ولا لاء؟"
أمسكت يده وهي تتألم هاتفة: "آي، يا بنادم؛ قلت لك سهرت على أنمي، شاروخ لم أشاهد بعد فيلمه الجديد.."
تركها وضحك بتلقائية شديدة: "مفيش حاجة فيكي هتتغير.. ها قولي لي بقى هنروح فين في يومك اللي مش فايت ده؟"
كانت تفرك أذنها متبرمة، قاطبة الجبين: "المطاعم مليئة في سيدني، دعنا نذهب لنتغدى، جعت"
" جعت، جعت، جعت، دائما تشعرين بالجوع أنت؟ أعطني يوما واحدا فقط ها.. أم لا ليس يوم، ساعة واحدة فقط لم تقولي فيها كلمة (جعت)" قالها مشاكسا يقلدها بلهجتها التي تعود عليها.
مطت شفتيها كما الأطفال ثم قلبتها نحو الأسفل تنظر إليه باستعطاف: "عندي تنين يأكل معي، يجوع كل ساعة، حْرَامْ إِذَا خَلِّيتُه(تركته) يْمُوتْ بَالْجُوعْ صَحْ؟" ثم رمشت بأهدابها لينفجر هو ضاحكا يهز رأسه بلا أمل فيك أو في لسانك، وينطلق بالسيارة ليأخذها تسكت جوعها.
***
بأحد المطاعم الهادئة على أحد الشواطئ في سيدني، حيث يمكنك رؤية راكبي الأمواج يدخلون تحت الأمواج الرائعة بمهارة واحتراف، وسماع الصوت المبهج للطيور التي كانت تحلق فوقهم؛ جلست ديهيا تقابل مصطفى واضعة يدها أسفل خدها تراقبه وهو يحطم صدفة السرطان، ومن ثم أخرج لها قطعا من اللحم الأبيض الشهي واضعا إياها بطبقها. خرجت من شرودها أخيرا وأمسكت بشوكتها وهمست له مبتسمة: "صحة"
غمز بشقاوة: "عدي الجمايل"
ابتسمت وبدأت بتناول طعامها: "أنت من أحضرنا إلى هنا وقد قلت لك بأنني والسلطعون لا نتفق أبدا"
كان مصطفى لا يزال يعمل على تقشيره ولكنه كان محظوظا، فالمطعم يوفر أداة تساعد كثيرا على كسر صدفته بسهولة: "لهذا صممت على أن نأكل هنا، لأنني أعرف أنك جاهلة بأموره".
ابتسمت وهي تهز رأسها غير مصدقة تلك الصدفة التي حدثت لها، كيف التقى شخصان من بلدين مختلفين ببلد ثالث للسفر إلى بلد رابع! بل والأدهى من ذلك، أن يغفو كل منهما حالما بنفس الحلم، يتشاركان أحداثه ويقصان لبعضهما تفاصيل حياتهما. لو أقسم له أحدهم ألف مرة أنها ستحكي لذلك المتغطرس الذي أوقعته في المطار عن هشام، ذلك الذكرى المؤلمة والحلوة اللذيذة في نفس الوقت، لأخبرته أن يذهب ويزور طبيب أمراض عقلية، لأنه وبالتأكيد معتوه، مجنون ومختل عقليا لا محالة.
لاحظ شرودها لا تتناول الطعام بشهيه كعادتها: "انتي النهاردة مش معايا خالص"
أفاقت لنفسها: "لا شيء؛ لقد ذهب تفكيري نحو البعيد قليلا "
نظر إلى طعامه وسألها بهدوء مدروس: "أيمكنني أن أعرف فيم، أم هو سر؟"
تناولت شوكة من طعامها تاركة إياه قاصدة كي ينتظر إجابتها: "حسنا.. في الحقيقة.. كنت أخبر نفسي بأنني كنت سأبعث من يقول لي أنه سيأتي يوم أجلس فيه على طاولة واحدة مع ذلك المتحذلق الذي قابلته في مطار دبي لتناول الغذاء سويا، إلى مستشفى المجانين بتذكرة ذهاب دون عودة " وأنهت كلامها بابتسامة شريرة.
ضحك عليها كثيرا، هذه هي داهيته حقاً لن ينكر هذا، ضحكت هي الأخرى وبدآ في تناول طعامهما بشهية، سألته فجأة قبل أن تنسى السؤال فيما بعد: "هل اتصلت بكريم؟"
هز رأسه موافقا وابتلع ما بفمه: "أجل، بعث لي بكل أغراضي وأغلق الشقة، ويبحث عن مستأجر للشقة الثانية".
ابتسمت، لقد شفي من شعوره بالذنب نحو والدته، حتى شقة عرسه تركها كل هذه السنوات وكأنه يحاول أن ينسى تلك المحاولة من الأساس. تساءلت: "أمتأكد أنت من الاستقرار هنا؟"
هز رأسه بإيجاب: "أجل متأكد؛ أولا لأنني غير مستعد على ركوب الطائرة مرة أخرى مجددا، ليس قبل سنة من الآن على الأقل، وثانيا العمل هنا مستقر، ولو احتجت إلى أي شيء أسافر بالسيارة بدلا من تلك الوسيلة المرعبة.." ثم تنهد مطولا "وثالثا؛ وهذا أهم ما في الأمر كله، أنني لا أشعر بالوحدة بتاتا" ابتسمت ديهيا بخجل بالغ جعلها تشعر باشتعال وجنتيها، لتشتت نظراتها في كل مكان هربا من عينيه، ليتنحنح هو ويغير الموضوع ليرحمها من ذلك الشعور، الذي للأسف يجعله سعيدا للغاية ويتمنى لو يطول أكثر "حسنا، أين  سنقضي بقية اليوم؟ الغذاء وقد أوشك على الانتهاء، ماذا بعد؟"
هتفت دون شعور منها: "إلى السينما، ففيلم شاروخ الجديد سيعرض اليوم في قاعات السينـ.."
أوقفها بيده يمنعها من الاسترسال: "شاروخان لا؛ هندي لا؛ جرعة زائدة من الرومانسية غير المقنعة والتي لا وجود لها في هذا العالم؛ألف لا"
لوت شفتها نحو الأسفل وهي تحاول استعطافه إلا أن وجهه ظل جامدا رافضا بتعنت الرضوخ لها، رغم أن نظرتها تلك تجعله يرغب في تقديم نفسه لها دون تفكير، لتتنهد بحزن مصطنع قائلة ونبرة الحزن المدروسة تطغى عليها: "حسنا، سنشاهد ما تريده أنت.." ثم زمت شفتيها لتتغير نبرتها ونظرتها إلى الوعيد في لحظات قليلة "لو قمت باختيار فيلم رعب يا مصطفى يا غازي، سأتركك تشاهده لوحدك وأذهب لمشاهدة شاروخ لوحدي"
وقف دون حديث ليمد يده نحوها يدعوها إلى الوقوف، فتحذو هي حذوه وتمسك به وتقف، لينزل على ركبته وعينيه تفيض حنانا وحبا لم يشعر به من قبل، حتى مع من كان سيتزوجها، ويقول بعد أن قبل يدها: "كنت أعتقد أنني أحببت من قبل، وأنني تألمت من لسعة نار الحب التي أحرقت فؤادي وجعلتني أعتزل كل نساء الدنيا، لأجد نفسي في الأخير هائما بحب شقية لم يُرَ لها مثيل، طفلة بجسد امرأة تجعلني أهفو إليها كلما نادتني، ترتفع نبضات خافقي كلما نظرت إليها، كلما سمعت صوتها، كلما رأيتها قادمة نحوي بابتسامتها التي أنارت حياتي من جديد.." استقام واحتضن وجهها متناسيا أنهما في شرفة المطعم وكل الموجودين هنالك يتابعون ما يحدث دون أن يفهموا شيئا؛ يوجه نظراته لعينيها التي تذرف دموع الفرح، لا تعرف لم تبكي؟ إلا أن الموقف وكلماته استدعيا تلك الدموع لتخرج؛ أردف "ديهيا، داهيتي أنا وأروع داهية وقعت مغرما بها، لقد أخرجتني من الظلمة التي كنت أدفن نفسي فيها إلى نور الحياة الحلوة، حياتي أصبح لها طعم بك، بوجودك فيها، لقد أصبحت أعشق الحياة وأرغب بعيشها كلها إلى آخر نفس في صدري؛ معك أنت وفقط" ثم قبل جبينها تحت أنظار الجميع، لتتعالى تصفيقات الجماهير المتابعة، منهم من يصفر ومنهم من يهتف بكلمة "برافو"، ليستفيق الإثنان من سكرة العشق التي أذهبت بعقليهما، ويلتفتا حولهما ليجدا الناس يضحكون بفرح، فتدفن هي رأسها في صدره بخجل وقد توردت وجنتاها أكثر مما سبق، ويضمها هو بقوة وضحكاته تتعالى حينا ويتنهد حينا آخر براحة يشعر بها الآن وقد فارقته لزمن طويل توقف عن عد أيامه.
حاولت دفعه والخروج من حضنه وهي تهمس: "ابتعد"
ليستنكر ذلك وهو يضمها أكثر قائلا: "ولماذا أبتعد؟ أما نقوم به حرام؟"
غمغمت دون أن يفهم كلماتها ثم رفعت رأسها قيلا نحوه قائلة: "النَّاسْ تَتْفَرَّجْ فِينَا"
نظر إليها مبتسما: "مايتفرجوا عادي يعني، هو مش عيب ولا حرام على فكرة، خطوبة وركبتيني الطيارة تاني وروحت للجزائر وطلبت إيدك من الأستاذ فؤاد، كتب كتاب وكتبته، يبقى دلوقتي هعمل كل اللي نفسي فيه" لتعيد دفن رأسها بخجل ويطلب هو الفاتورة ويدفعها، ثم يخرجا من المطعم وذراعه لا تفارق كتفيها، يحتضنهما وكأنهما سيطيران في أية لحظة.
وتكون السينما هي وجهتهما الثانية، ليقضيا وقتا ممتعا في مشاهدة آخر فيلم لشاروخان كما قررت هي، ومن بعده يأتي دور التنزه في إحدى الحدائق ليأتي المساء محملا بالمشاعر لكليهما، فبعد أن كانا يشعران بالوحدة عند قدومه وكل منهما يجتر ذكرياته، أصبحا الآن بالكاد يتذكران ذلك الإحساس الذي غادرهما وبلا رجعة؛ ويأتي وقت العشاء، ليكون هو الآخر كما الغداء لا يخلو من بعض المشاكسات التي باتت لا غنى عنها.
وتعلو شمس الصباح الموالي خفية تخشى إيقاظ تلك النائمة في سباتها الدائم، ليتكرر ما يحدث كل صباح وعند كل لقاء، فالموعد مع السمسار لشراء منزل ليقيما فيه بعد الزواج، قد حدد اليوم، والخطأ هذه المرة ممنوع، لا بل هو محرم تماما
رنة، فاثنتين، فثلاثة، ولا رد، الهاتف هذه المرة على وضعية الصامت؛ فجأة، جرس الباب يرن بقوة ودون توقف، لتستيقظ هي فزعة، تبحث عن الهاتف، تراه قد اتصل مرة واحدة فقط، تخرج من الغرفة وتهرع نحو الباب لفتحه عل ذلك الرنين المزعج يتوقف، لتراه يقف أمامها وابتسامة سمجة تطل على محياه، تطبق جفنيها بقوة، هذه هي عادته ولن تتغير؛ مزعج.
نظر إليها من رأسها إلى أخمص قدميها، فوضى تسير على قدمين بشعرها الذي تظفر نصفه، حياها بتحية الصباح ثم قال: "هي خمس دقائق فقط يا داهية لا غير"
زمت شفتيها وهي تحك رأسها بانزعاج، ثم ابتلعت ريقها كي تبلل حلقها الجاف، وقالت بصوت بالكاد خرج: "شْحَالْ(كم) رَاهِي السَّاعَة؟"
حانت منه التفاتة نحو ساعته مجيبا: "سبعة ونص، ثمانية إلا خمس وعشرين دقيقة أراك أمامي"
أومأت بإيجاب والنوم يعبث بها: "حسنا، انتظرني في الأسفل"
كادت أن تغلق الباب إلا أنه أوقفها: "دعي الباب مفتوحا لن أدخل، بل سأنتظرك هنا لا في الأسفل"
هزت كتفيها وعادت إلى  غرفتها بينما يقف هو أمام الباب ونظره مصوب نحو الهاتف، ثم تخرج منها وتغلق الباب في وجهه تاركة إياه يحدق فيه باستغراب، لقد أغلقت الباب حقا، لتفتحه مجددا بعد انتهائها وتخرج إليه، بعد مرور نصف ساعة، مبتسمة بإشراق، كاد أن يعنفها حينها إلا أنه لم يستطع فابتسم فقط دون حديث.
كان من المفترض أن يقابلا السمسار في مكان عمله، إلا أنه غير الموعد والمكان في آخر لحظة، ليتجها نحو أحد المقاهي وديهيا تشتعل غضبا من إيقاظها في وقت مبكر ليؤجل الموعد فيما بعد، هتفت بمصطفى وهما يترجلان من السيارة: "أيقظتني باكرا بذلك الرنين المزعج ليؤجل ذلك الأحمق الموعد،  قل لي ماذا استفدت أنا الآن ها؟ أو ماذا استفدت أنت من ذلك؟"
أمسك بيدها محاولا امتصاص غضبها، ضاغطا عليها برقة: "استفدت أنني سأقضي معك المزيد من الوقت، وسأبدأ اليوم برفقتك منذ بدايته"
ابتلعت غضبها مع كلماتها تلك التي كانت تجهزها له، فهل بقي لها كلام تقوله بعد سماعها لتلك النبرة؟ تنهدت لتقول وهي تجلس إلى الطاولة الخارجية المطلة على الشارع: "يا شرشبيلي، أنت تعلم أنني لا أحبذ هذه النبرة وهذه الكلمات أليس كذلك؟"
إتكأ على الطاولة أمامه بعد أن أخبر النادل بما يريدانه وقال بابتسامة: "وأنت تعلمين أنني أستعملها لنيل غرض ما، والآن هيا، أود أن أستمع إلى تلك الكلمات التي ترددينها وأنت على الهاتف، أود أن أرى كل تعابير وجهك وأنت تقولينها لي"
جحظت عيناها وهي تتخيل نفسها تقول له كلمات حب وجها لوجه، هذا ليس بأسلوبها، هي لا تتفوه بتلك الكلمات أمامه، لا تستطيع ذلك، تبتلع لسانها ولا تستطيع إيجاد صوتها، همست بصوت خفيض: "هل جننت! لن أتفوه بحرف واحد لـ.."
قاطعها وهو يمد يده ليمسك يدها ويطبع قبلة رشيقة على باطن كفها: "فقط مجرد كلمات داهيتي، لا أطلب منك الكثير"
ازدردت ريقها وصدمتها لا تزال على حالها، تنظر إليه لتراه ما يزال على حاله يحدق بها بابتسامته الجذابة، والتي تجعلها تنسى نفسها أحيانا، لتخرج كلماتها بتسلسل منمق وعينيها تشتت تركيزها في كل الاتجاهات: "لطالما اعتقدت أنني قد أقفلت قلبي بمفتاح رميته في قاع المحيط كي لا أجده مرة أخرى، لطالما اعتقدت أن الحب لن يطرق بابي مجددا، إلا أنني كنت مخطئة وها أنا ذا أدفع ثمن خطئي.." اختفت الابتسامة من على وجهه لتومئ هي بإيجاب وتردف "أجل؛ أدفع ثمن خطئي، فها هو الحب قد طرق بابي من جديد وجعلني أعيشه وأحياه وأحسه مرة أخرى، وأنا التي كنت أظن أن الجدار الذي بنيته حول نفسي لن يتهدم، بل جاء من يهدمه، هو نفسه من غاص في قاع المحيط وجاء بذلك المفتاح وأعاد فتح قلبي، هاجم تلك الذكريات المؤلمة وأزالها، ليستحوذ عليه في الأخير معلنا انتصاره أمام الملأ، ويأخذني بين ذراعيه ليحتويني، يبدد أوجاعي ووحدتي، ويزرع ذكريات جديدة تجعلني أشعر بأنني ما أزال على قيد الحياة.."
توقفت عند مجيء النادل ليضع أمامهما الطلب، وحاولت شد كفها من يده إلا أنه أحكم قبضتها عليه وهمس: "كملي، متوقفيش، مش لما وصلتي للنقطة دي"
استطردت وقد شحذت شجاعتها موجهة نظرها نحوه بحب اشتاق إلى أن يراه: "لقد وقعت في غرام المصري مصطفى غازي دون أي مجهود منه يذكر، لم أحتج إلى الكثير ليحدث ذلك، فقط، تسلل شعور لذيذ إلى داخلي ببطء ألذ جعلني أنغمس فيه شيئا فشيئا، أتذوقه برفق لأستلذ طعمه الحلو المستخلص من العسل لا محالة"
همس بصوت مثقل بالمشاعر، صحيح أنه لطالما سمعه عبر الأثير إلا أن طعمه مختلف هذه المرة، خاصة وهو يرى تعابير وجهها الخجلى، وجنتيها محمرة وعينيها تمسح المكان فارة: "طب.. أنا هرد أقول إيه بس دلوقتي؟ شكل ماما الله يرحمها داعيالي في ليلة القدر، وشكلها فعلا كانت ولسه راضية عني عشان كده أنت بتحبيني.. أنا عمري ما كنت أتخيل في حياتي أن الحب حلو كده.." أمال رأسه قليلا نحو اليمين ناظرا إليها وأردف "مش هو بس اللي حلو؛ ده حتى اللي بحبه، هو انت بتحلوي كل يوم كده ليه يا داهية؟ ياختي كميلة، مش كنتي فوضى متنقلة؟ هو إيه اللي بيحصل بس يا جدعان!"
تعالت ضحكاتها تداري خجلها ليقبل كفها مرة أخرى يردف بحب: "ربنا يقدرني وأسعدك يا داهية وميعرفش الحزن طريق ليكي أبدا طول ما أنا موجود وربنا مديني نفس، هبقى ليكي السند اللي تحتاجيه، الظهر اللي يحميكي، والحضن اللي هيديكي حنان الدنيا كلها، ولو عايزة أكتر مش هستخسره فيكي" ابتسمت وهمت بالرد إلا أنه استوقفها "أنا مش عايز ردك، أنا عايزك بس تبقي واثقة فيا وفي كلامي.." ثم التفت نحو القهوة التي بلا شك قد بردت "خلينا نخلص من القهوة اللي مش هنعرف هنشربها وهي باردة إزاي دلوقتي" لينتهيا بعدها من تناول ما أمامهما ويتجها نحو موعدهما المنتظر.
أخبرهما السمسار أنه سيلتقي بهما في البيت الذي أعجبهما، قاد مصطفى السيارة إلى هناك، منطقة سكنية هادئة لا يوجد بها غوغاء ولا ضجيج، اصطفت عدة بيوت ذات طابقين على جانبي الطريق، وكل منزل ملحق بحديقة أمامية وأخرى خلفية؛ رائعتين.
صف سيارته أمام المنزل المنشود، ترجلا منها وهما يحدقان بحب نحو ذلك المنزل الذي سيكون عشهما الصغير، أين ستبدأ أولى خطوات حياتهما في تكوين أسرة صغيرة سعيدة ملؤها الحب والحنان. أمسك مصطفى بيدها وهما يتقدمان نحو الباب ليدق الجرس وينتظر، ثانيتين وفتح الباب ليطل منه شاب يقارب مصطفى في السن، ذو بشرة سمراء وطول فارع، يرتدي نظارة طبية ويحدق في ساعته قبل أن يرفع رأسه مبتسما ومرحبا بهما بإنجليزيته التي تدل على أنه أسترالي أبا عن جد: "أنتما دقيقان في الموعد تماما كما أخبرني توماس.." مد يده نحوهما معرفا بنفسه "مرحبا.. أنا أنجيلو باترسون، صاحب هذا البيت، لقد ارتأيت إلى أن أراكما بنفسي بدلا من توماس لأنني أود إطلاعكما على بعض التفاصيل و.." قطع كلامه عندما رآهما يحدقان به بصدمة واستغراب شديد، وقد سقط فكي كل واحد منهما بسبب الدهشة، أردف متسائلا "أهنالك خطب ما في وجهي؟"
ليهتفا معا في نفس اللحظة: "أَنْسْيُو/ أخ نسيوه!"
اتسعت حدقة أنجيلو وهو يصحح لهما دون أن يفهم شيئا: "لا؛ بل أنجيلو وليس أنسيو"
ليهتف مصطفى بانفعال: "هو أنت يا أخي إيه مبتحرمش! هربنا منك هناك لاحقنا لغاية هنا؟" ثم جر ديهيا التي كانت تحاول مجاراته في خطواته وتستدير في نفس الوقت لترى ذلك الذي يشبه إلى حد مخيف أنسيو زعيم القبيلة التي أسرتهما في الحلم، إلا أنه إنسان حديث وغير بدائي، يقف أمام الباب دون أن يتحرك إنشا واحدا وألف سؤال يخالجه ويظهر على محياه الذي وكأنه قد أصبح علامة استفهام.
أردف مصطفى بسخط: "وأنت تعالي هنا بتبصي على إيه؟ هو وحشك يعني بتبصيله.. يلا نمشي من هنا بسرعة، بلا سمسار؛ بلا بيت؛ بلا شقة؛ بلا زفت.. أنا هتجوز وأسكن في فندق"


تمت بحمد الله

حبيت داهية حيث تعيش القصص. اكتشف الآن