3- حنين في الليل
غرقت موروينا في الصمت للحظة , ثم قفزت واقفة بأنفعال , غير مبالي لشعرها الذي أنحلّت عقدته وأنساب على كتفيها مثل شلال من ذهب , وصاحت بغضب:
" ولكن من أنت حتى تحدثني هكذا؟ ولماذا فتحت تلك الرزمة ؟ أنها خاصة للسيد دومنيك تريفينون , ثم بأي حق دخلت عليّ هنا؟".
" أنت التي دخلت هنا , وليس أنا , يكاد وقتك أن ينتهي , لذت أنصحك بأن تجيبي على أسئلتي ".
" لا أرغب في قول شيء , أريد التحدث الى السيد تريفينون فقط".
" أظن أنك لا تمارسين لعبة سمجة معي , وأنك حقا لا تعرفين من أنا".
جمدت موروينا في مكانها وعيناها تحدقان في وجهه بدهشة , ثم همست:
" كلا..... لا يمكن ذلك , أنت لست......".
" بل أؤكد لك , أنا دومنيك تريفينون , أنا من أطلق عليه لقب ملك كورنوول غير المتوّج , وهذه هي قلعتي".
" كلا , لا أصدق ذلك , لا يمكن أن تكون أنت دومنيك تريفينون , أنت لست كبيرا في السن".
" أهذه كلمة أطراء؟".
" كلا ....... أنها ليست كذلك , ولكن حسب ما أعتقد أن دومنيك الحقيقي هو الآن في الستينات من عمره على الأقل".
لم يندهش من قولها , بل أحنى رأسه وكأنه يوافق على ذلك, ثم قال بهدوء:
" الآن أخبريني من أنت , وماذا تريدين؟".
سيطرت على أنفعالاتها وقالت بهدوء:
" يبدو أنني قد أسأت التقدير , ليس أمامي الآن سوى الأعتذار والأنصراف , هل تسمح لي بأخذ رسومي؟".
مدت يدها نحو الرسوم لكنه تجاهل حركتها تماما , وقال:
" ليس قبل أن تشرحي الأمر , لقد تحدثنا كثيرا حين ألتقينا في الطريق , فلماذا هذا التحفظ في الكلام الآن؟ ثم تذكّري أنك جئت لتسأليني أحسانا".
" ليس منك , بل من شخص آخر , ربما هو لم يعد حيا , والدك ربما , أو ...".
" عمي , أنه الآن في غرفته في الطابق الثاني".
" أذن , هل أستطيع مقابلته رجاء؟".
" كلا , بأمكانك مناقشة أي موضوع تودينه معي , وأذا كان الأمر يتعلق بهذه الرسوم , كأن ترغبين بيعها مثلا , فأؤكد لك مقدما أنك تضيعين وقتك هباء".
" كلا , لا أنوي ذلك أطلاقا".
قالت وهي تحدق في أماكن معينة في الجدار , بدا واضحا أن رسوما ما كانت معلقة فيها فيما مضى.
وكان هو يراقبها ثم قال:
" أنت على حق , كانت هناك رسوم معلقة هنا يوما ما , وكانت أكثر قيمة من رسوماتك هذه".
" أعترف أن الرسوم هذه ليست أفضل أعمالها , لكن لها قيمتها الخاصة عندي , أو أن هذا على الأقل ما أعتقده , وألا لما حضرت الى هنا".
" لماذا , هل تناسب بيوتامعيّنة ؟ أذا كان الأمر كذلك فكان الأجدر بك أن تبذلي جهدا أكبر في رسمها".
" كلا بالطبع , لأن التي رسمتها , وهي أمي , لاورا كير سلاك , قد عاشت هنا , كان هذا البيت بيتها حين كانت فتاة , وتريفينون عائلتها , العائلة الوحيد ة لها حتى تزوجت من أبي , أوه , أعرف أنها فقدت الصلة بكم جميعا , لكن......".
" هل هي التي بعثتك ؟".
أعترضها ببرود , هزت رأسها وأبتلعت ريقها قائلة بأسى:
"لقد ماتت منذ سنوات".
" أنا آسف".
قال بلا مبالاة وكأنه يؤدي واجبا ثقيلا.
رفعت موروينا رأسها وحدقت في وجهه بغيظ, وقالت بصوت خفيض:
" أنني سعيدة لأنها لا تسمعك الآن , وأنها ليست حاضرة لكي تعرف كم هم غير أوفياء أولئك الذين أحبتهم".
" أنت سريع الحكم على الآخرين , لقد قلت أنها فقدت الصلة بنا , ألم يخطر لك يوما أن تسألي نفسك , لماذا؟ لست أدري الى أي حد حدّثتك عن حياتها نا , ولكنني أقسم أنها لم تخبرك بمدى الخراب الذي تركته هنا حين رحلت".
" أنت تكذب!".
" ولماذا الكذب؟ قد يكون ما قلته مر المذاق لكنه الحقيقة ".
ظلت موروينا تحدق فيه بدون أن تجد ما تقوله , بعد فترة صمت قصيرة , بدأ هو الكلام ثانية وسألها:
" وماذا عن أبيك , السيد روبرت الأنيق , هل هو يعرف بمجيئك الى هنا؟".
" لقد مات هو الآخر , وشقيقي مارتين أيضا , قتلا في حادث سيارة قبل أسابيع قليلة , وجميع ممتلكاتنا أنتقلت الى أبن عمه , وههذه الرسوم هي كل ما بقي لي".
" يا ألهي , أذن هذا هو الموضوع , قصة والدتك نفسها تتكرر ثانية , قبل خمسة وثلاثين عاما وجدت أمك هنا ملاذا لها , واليوم تحاولين أنت الشيء نفسه".
قال بهدوء وهو يهز رأسه , نبرة الأزدراء التي كانت في صوته , جعلت موروينا تفقد صبرها تماما , وهمّت بأن تهجم عليه وتنشب أظافرها في لحم وجهه الأسود , لكنها تمالكت نفسها وقالت:
" أنك سريع الحكم أيضا , أعترف بأنني قصدتك باحثة عن ملجأ , ولكن ليس لي بالذات بل لهذه الرسوم , فكرت بأنك ستحتفظ بها عندك حتى أعثر على مكان لنفسي , وظننت أنك لو لم تفعل هذا من أجلي , فعلى الأقل ستفعله من أجل أمي , وها أنا الآن قد أكتشفت خطأ ظني".
أطلق ضحكة قصيرة وقال:
" أذن هذا هو الأحسان الذي جئت تطلبينه , يؤسفني أن أقول أنني لا أستطيع تلبيته لك , ما يزال في هذا البيت أناس ستسبب لهم أثارة ذكرى أمك بهذه الصراح ألما كبيرا , عمي واحد منهم , وهو مريض منذ سنين , وأفضّل أن لا ينزعج بسبب هذا الموضوع".
لم تصدق ما سمعته بآذانها إلا بصعوبة , ترى ما الذي حدث هنا خلال تلك السنوات ؟ ى يمكن لشيء أن يشوّه ذكريات لاورا كير سلاك عن دومنيك تريفينون.
شعرت فجأة أنها ترتعش , وقالت وهي تخرج صوتها بصعوبة:
" لا أعرف ما الذي جرى ويجري هنا , ولكن كل ما أستطيعه هو أن أغادر حالا , وأن أعتذر عن تطفلي".
حملت حقيب الظهر من جانب المقعد وسارت نحو الباب , لكنه إبتعد عن الطاولة وإعترض طريقها قائلا بنبرة حازمة:
" أنتظري لحظة , ليس الأمر بهذه السهولة التي تتصورينها , ما الذي كنت تبغينه بالضبط من مجيئك الى هنا؟".
" كنت أبغي شيئا قليلا , أن أدع هذه الرسوم هنا , هذا كل ما كنت أبغيه , لكن يبدو أن هذا أكثر مما يمكن لغريب أن يطمع فيه".
" يا له من أستعطاف , ولكن لماذا لم تكتبي أو تخابري مقدما قبل وصولك؟ ثم هل تصورين أنني تأثرت براواياتك هذه؟ أنه لم يعد , لسوء الحظ , إيواء المشردين من إهتمامات عائلتنا , وأمك هي سبب ذلك".
" أن تصدق قصتي أو تكذبها , هذا شأنك ,ولكن ما قلته هو الحقيقة".
" هل تحاولين أقناعي بأنه لم يرد ببالك أبدا , أنه ربما ستجدين مأوى لك هنا؟".
" لا أقدر أن أنكر ذلك".
نظرت موروينا إليه , كانت نظراته غريبة , وكأن أعترافها قد أدهشه , وفكرت أن هذا كان كل ما يود سماعه منها , سارت مرة أخرى نحو الباب , لكنه لم يتحرك من طريقها , ومرت من جانبه , وما أن مدت يدها الى المقبض , حتى أنفتح الباب فجأة بقوة , فتراجعت الى الوراء خطوة وهي تطلق صيحة خوف:
" أنا آسف.........".
قال الشاب الذي دخل وهو يتأملها بنظرة قلق , ثم أضاف :
" هل صدمك الباب ؟ لم أعرف أنك تقفين وراءه , فكرت أن دوم وحده في الغرفة.....".
" الآنسة ستغادر الآن".
قال دومنيك بلهجة باردة .
" حقا؟ هذا مؤسف , هل تعيشين الى جوارنا؟".
سأل الشاب بدون أن يخفي خيبته.
" أعيش في لندن".
قالت موروينا وقد داخلها شعور بالخوف والقلق من ترك البيت في مثل هذه الليلة العاصفة , لو أستطاعت أن تقضي ليلتها هذه تحت هذا السقف , أذن لتدبرت أمرها غدا , لكنها كرهت الفكرة , ورغبت فعلا بترك هذا البيت المظلم الواسع , وهذا الرجل الذي يتمتع بأذلالها , ورغبت أن تعرف ما حدث في هذا البيت حين كانت أمها هنا.
تكلم الشاب ثانية :
" حسنا , أذا كان لا بد من ذهابك , فكوني حذرة في قيادتك , هناك شجرة واقعة على الطريق , شاهدت جاك وهو يزيحها , لكن ربما هناك أشجار أخرى أيضا".
" لا أملك سيارة , أعتقد أنه ما زالت هناك باصات في الشارع الرئيسي".
" نعم , ولكن عددها قليل , ويتأخر وصولها عادة".
تأملها الشاب طويلا , ثم نظر الى وجه دومنيك , بينما كان هذا يستمع اإلى الحوار وعلى شفتيه إبتسامة باردة , سأله الشاب:
" ما الذي يجري هنا يا دوم؟ هل تتركها حقا تسير كل هذه المسافة حتى الشارع العام في مثل هذا الليل , وفي البيت ست غرف نوم فارغة؟".
فقالت موروينا :
" أوه من فضلك , لا بد أن أعود , فعندي أشغالي".
" أذن دعيني آخذك بسيارتي".
قال بإبتسامة حنونة أدخلت الدفء إليها رغم ما يحدث , ثم أضاف:
" أين تسكنين ؟ في القلعة , في بورت فينور ؟".
" كلا , في الحقيقة أسكن مع بعض الأصدقاء , ولا داعي لأن تزعج نفسك في هذا الليل ".
" أبدا..... أبدا , قل لها يا دوم بأنها لا تسبب لنا أي أزعاج , لماذا تقف هكذا ؟ ما الذي حلّ بك ؟ هل ستتركها تخرج من البيت في مثل هذا الليل؟".