6 - حجر في الماءكان الجميع صامتين أثناء الغداء , وبدا نيكولا مشغول البال , أما موروينا فقد أجبرت نفسها على تناول القليل من الطعام , وكانت منشغلة الذهن هي الأخرى , تستعيد ما حدث لها في الصباح مع دومنيك في تلك الغرفة المظلمة , وشعرت أنها بحاجة شديدة لأن تفكر أكثر فيما حدث , وفي الشعور الذي أنتابها نحوه , أختطفت نظرة إلى نيكولا , كان متعبا ومنهك القوى , وبدا أكبر مما كانت تراه دائما , وكأنه شاخ فجأة , ربما أنبأه الطبيب أن نتائج الفحوصات غير مشجعة , لذا فأنها ذهلت حين أعلن بشكل مفاجىء عن نيته االقيام بجولة بعد الظهر , فسألته مندهشة :
" جولة! أين؟".
" بورت فينور".
لكن أنيز تدخلت قائلة :
" لنر ما سيقول دومنيك , أظن أن صحتك لم تتحسن بعد , حتى تبدأ في الركض ".صرب نيكولا الأرض بعصاه , وصاح بها:
" عليك اللعنة أيتها المرأة , من قال أنني سأركض ؟ هل تعتقدين أنني سأبقى حبيس هذا البيت حتى الموت؟".
ثم سكت وقد بدا عليه الأعياء التام , وأردف قائلا بعد لحظات:
" لم أتخل بعد عن حوض الزوارق , ولم أتنازل عنه.....".
هدّأته أنيز قائلة , وهي تغادر قاعة الطعام حاملة الأطباق إلى المطبخ:
" لا أقصد ذلك , ما أعنيه هو أن تأخذ الأمور على مهل".
قالت له موروينا , وقد أصبحا وحدهما:
" أنها على حق".
" لتذهب إلى الجحيم , لا بد أن أذهب إلى الحوض , هناك شيء أريد جلبه".
" ألا يقدر أحد أبناء أخيك أن يجلبه لك؟".
" يقدرون بالطبع , أذا ما طلبته منهم , لكنني أريد جلبه بنفسي لأسباب عديدة".
ثم تأمل موروينا بعض الوقت , وقال لها:
" تستطيعين أنت جلبه لي , أنه ملف أخضر يحمل رقم ب . و|23في خرانة الملفات في مكتب دةمنيك".
أجابته موروينا بدهشة :
" لا أستطيع , أفرض أن أحدا رآني وأنا أبحث في خزانة الملفات؟".
" تخبرينه بالحقيقة , أنك تأخذين الملف بأمر مني".
أنتظر جوابها بعض الوقت , وحين ظلت صامنة قال:
" أذا لم تذهبي , فلا خيار لي سوى الذهاب بنفسي".
" كلا , لن تتحمل الذهاب إلى هناك , سأذهب أنا".
قالت موروينا وهي تضع يدها على يده , محدقة فيه بحنان , ثم سألته:
كيف سأصل إلى بورت فينور؟".
" سيأخذك مارك , فهو يذهب إلى هناك , عادة في الساعة الثانية بعد ظهر كل يوم , قولي له أنك ذاهبة لشراء بعض الحاجيات".
تناولت سترتها وحقيبتها من غرفتها , ونزلت الى الصالة , كان مارك واقفا أمام الباب يتحدث مع زاك ويقدم له بعض الأرشادات , وحين لمحها سألها بدهشة:
" مرحبا موروينا , الى أين؟".
" الى بورت فينور , لشراء بعض الحاجيات , عرفت أنك ذاهب الى هناك , هل تأخذني معك؟".
" بالتأكيد سآخذك".
قال لها مارك في السيارة:
" لماذا لم تخبريني منذ الصباح ؟ لو فعلت لكنا تناولنا الغداء معا هناك".
ابتسمت موروينا , وتأملته طويلا , كان وسيما ونشطا وعلى قدر كبير من المرح والحيوية , وقالت لنفسها : ( لو كنت في وضع آخر لعشت معه قصة حب رومانسية ممتعة).
" الآن فقط قررت الذهاب الى هناك".
أستمتعت كثيرا بأحاديثه ومزاحه , حتى وصلا الى حوض الزوارق , فأوقف السيارة وقال لها:
" الكثير من المحلات مقفلة الآن , في هذا الموسم من السنة , لكن هناك محل مفتوح لبيع الصحف والمجلات , وآخر صيدلية , ثم مهى جميل يبيعون فيه أيضا التحف والهدايا , وحين تنتهين من شراء حاجياتك , تعالي الى حوض الزوارق".
منتديات ليلاس
شكرته موروينا , وراقبته وهو يبتعد بسيارته , ثم سارت في خطوات بطيئة وهي تتأمل واجهات المحلات , حتى ينقضي بعض الوقت قبل أن تعود الى حوض الزوارق , وفكرت أنه كان بأمكانها أن تخبر مارك ببساطة حول الملف , وأنها جاءت لتأخذه بناء على طلب نيكولا , لكن نيكولا أراد أن يتم الأمر سرا لسبب ما , وعليها أن تنفذ رغبة الرجل المريض.
عثرت على المقهى الذي تحدث عنه مارك , ودخلت اليه , كان صغيرا , ليس فيه سوى بضع موائد ولم يكن فيه رواد , فجلست الى احدى الموائد تنتظر مجيء الخادم , ومن خلف الستارة التي كانت تحجب غرفة داخلية , خمنت موروينا أنها المطبخ , تناهت اليها أصوات نساء وأطباق تغسل , ولم يطل أنتظارها , وبينما هي تتأمل قائمة الطعام , أنزاحت الستارة , وظهرت فتاة في رداء طويل , عرفتها موروينا حالا:
"مرحبا.......".
قالت بيدي بأبتسامة عريضة , وهي تحمل سلة فيها مجموعة من الخزفيات.
وأردفت:
" جئت بهذه الخزفيات علّني أبيع منها شيئا للمقهى ".
" أوه , أنا سعيدة برؤيتك يا بيدي , أتشربين القهوة معي؟".
" بالطبع أكون سعيدة".
قالت بيدي , ووضعت السلة جانبا , وجلست على المقعد المقابل , ثم أضافت:
" أخبرت أخي عنك , وكنا نتساءل هل ما زلت في تريفينون؟".
" ما زلت , والحقيقة أنني أشتغل هناك".
" تشتغلين ؟ لدومنيك تريفينون؟".
" مع عمه , فهو يكتب تاريخ العائلة , وأنا أساعده".
" رائع , وكيف هو مارك تريفينون؟".
" جيد , أنت تعرفينه؟".
" كنت أعرفه , لكن ذلك أنتهى منذ زمن , لم يرض أخوه الكبير عن علاقتنا , أعتبرني غير ملائمة لعائلة تريفينون
سكتت بيدي وظلت تحدق في قائمة الطعام ثم أضافت :
" هنالك فتاة أخرى الآن , تبدو ملائمة لهم".
" ماذا تقصدين؟".
" تقولين أنك في تريفينون منذ أسبوع , ألم تشاهديها بعد؟".
" الفتاة الطويلة ذات الشعر الأسود؟".
" بالضبط , أنها كارين أنجلس".
" أجل , لقد شاهدتها , سيتزوجها؟".
" ربما سيتزوجها أحد الأخوين , خاصة أنها ثرية , وعمتها ترغب في ذلك , بعد أن فشلت هي في الزواج من نيكولا؟".
" وكيف عرفت ذلك؟".
" مارك أخبرني".
" هكذا أذن.......".
قالت موروينا , وسادت فترة صمت بينهما , أخذتا خلالها ترتفشان قهوتهما , ثم قالت بيدي:
" سأكون سعيدة لو جئت للغداء معنا يوما ما في سانت أينا".
" سأكون سعيدة أيضا".
" أذن سنكون على أتصال ".
قالت بيدي , وجرعت ما تبقى من قهوتها , ثم نهضت وحملت سلتها , وودّعت موروينا.
" أتريدين أن أبلغ مارك أية رسالة؟".
" كلا , لا أرغب في ذلك في الوقت الحاضر".
أجابتها بيدي مبتسمة , ثم غادرت المقهى.
أنتهت موروينا من قهوتها , نهضت وحملت حقيبتها , وتركت المقهى , أشترت خارطة للمنطقة من المكتبة الصغيرة , ثم ذهبت الى الصيدلية وأشترت علبة صابون وزجاجة عطر.
حين وصلت الى حوض الزوارق , لمحت سهما يشير بأتجاه المكاتب , فسارت في ذلك الأتجاه على ممر ضيق ومرصوف بشكل جيد , كانت هنالك زوارق وقوارب صيد عديدة ومختلفة , وقفت أمام الباب الأول , وكان عليه عبارة ( الأستعلامات ) , ترددت في الدخول للحظات , ثم دفعت الباب , كانت عبارة عن غرفة ضيقة فيها فتاتان تطبعان على الآلة الكاتبة .
" أنني أبحث عن السيد مارك تريفينون".
نهضت أحدى الفتاتين وتقدمت منها قائلة:
" الجميع في أجتماع الآن , أهو ينتظرك ؟ أتودين أن تنتظري ؟".
ترددت موروينا في الجواب بعض الشيء , ثم أومأت بالأيجاب.
" حسنا , أذن تفضلي".
قالت الفتاة , وقادتها الى مكتب مارك.
لاحظت موروينا أن كلتا الفتاتين تتأملانها بفضول , ربما تحسبانها عشيقة جديدة لمارك , ومن جانبها تساءلت: ( هل يا ترى أستطاع مارك الوسيم والمرح أن يقاوم أغراء هاتين السكرتيرتين الفاتنتين ؟).
كان مكتب مارك صغيرا جدا , ليس فيه غير طاولة للكتابة وبضعة مقاعد ,
جلست على أحد المقاعد وبدأت تستعيد أنافسها , وتتذكر في الوقت نفسه أرشادات نيكولا , وحين تأكدت من أن السكرتيرة عادت الى مكتبها , فكرت أن هذا هو الوقت الأنسب لأخذ الملف , خاصة أن الجميع في الأجتماع الآن , نهضت بهدوء وفتحت الباب , وسارت وهي تتطلع الى أبواب الغرف , حتى لاحظت عبارة ( مكتب دومنيك تريفينون ) , فتحت الباب ودخلت , وثلما أخبرها نيكولا , كانت هنالك خزانة واحدة للملفات , فتحت الدرج الأول , وكانت فيه مجموعة من الملفات الخضراء , غير أن أيا منها لم يكن يحمل العنوان الذي ذكره تيكولا , ثم بحثت في الدرج الثاني , ولم تعثر عليه أيضا , وفتحت الدرج الثالث , وهي جاثية على ركبتيها , حين سمعته يقول من الخلف:
" هل تبحثين شيء ما؟".
لم تصادفها في حياتها لحظة كتلك , تمنت فيها لو أنها تموت حالا , أو أن تنشق الأرض وتبتلعها في اللحظة نفسها , نهضت من مكانها , وألتفتت الى الباب , كان هو هناك , يقف أمام الباب , واضعا يديه في جيبيه , يتطلع اليها بهدوء.
أجابت موروينا بأرتباك بدون أن تتجرأ على النظر في وجهه :
" نعم , لكنني لم أجده".
" ربما أستطيع مساعدتك".
قال دومنيك وهو ما يزال يحدق فيها بوجه عابس.
ثم سار الى الخزانة وأخرج مجموعة مفاتيح من جيبه , وفتح درجا سفليا , وسحب منه ملفا أخضر اللون , قدمه اليها قائلا ونبرة غضب في صوته.
" تفضلي هذا ما تبحثين عنه".
أرادت موروينا أن توضح الأمر له وتبرر سلوكها هذا , فقالت :
" أظن أنك أسأت تفسير سلوكي هذا".
أجابها ساخرا:
" بالعكس , يا ليدي موروينا , الحقيقة أنني كنت منذ مجيئك الى تريفينون".
خطت خطوتين الى الأمام , وأخذت الملف من يده ودسته في حقيبتها بيد مرتجفة.
" حسنا , أظن أن من الأفضل أن تتركي هذا المكان , قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه".
قال دومنيك غاضبا وهو يؤشر لها بالخروج , وبينما هو يتكلم جاء صوت أنفتاح أحد الأبواب مختلطا بوقع أقدام آتية وأناس يتحدثون , فأستدار بأتجاه الممر وسد الباب بجسده وكأنه يحاول أخفاء وجود موروينا عن الآخرين.
سمعت موروينا صوت مارك في الممر وهو يسأل :
" هل شاهدت موروينا يا دوم ؟ أخبرتني السكرتيرة أنها هنا , لكنها أختفت".
" أنها هنا في الغرفة".
دخل مارك الى الغرفة , وهتف حالما شاهدها.
" مرحبا موروينا , هل تأخرت عليك ".
" أبدا , هل نغادر ؟ لا أستطيع أن أتأخر كثيرا".
" بالتأكيد , هيا".
قال مارك , وهو يمد يده اليها , ثم سألها:
كيف وجدت بورت فينور ؟ أنها شبه مهجورة في هذا الوقت من السنة".
قبل أن تجيبه موروينا , دخلت الى المكتب أمرأة أخرى , كانت قصيرة ونحيفة , ترتدي ثوبا ورديا من الصوف , وقد سرحت شعرها الى الخلف بعناية , لم تشاهدها موروينا من قبل , لكنها حدست أنها باربارة أنجلس , وهي الأخرى عرفتها , أذ أنها حالما وقع نظرها عليها , ضيّقت ما بين عينيها الزرقاوين , وتأملتها طويلا وقد أحمرت وجنتيها , ثم قالت:
" صديقة جديدة لمارك؟".
وقبل أن يتكلم مارك أجابها دومنيك :
" كلا , يا باربارة , دعيني أعرفكما ببعضكما , هذه موروينا كيرسلاك , صديقة نيكولا الشابة , والتي ستقضي معنا بعض الوقت , موروينا , هذه باربارة أنجلس , سكرتيرة الشركة , وصديقة مقربة جدا".
كانت يد باربارة باردة وهي تصافح موروينا قائلة:
" أوه يا عزيزتي , يا للسعادة ! أدخل هذه الغرفة فأجد لاورا كيرسلاك واقفة فيها بعد كل هذه السنين , أنها مفاجأة بصراحة , الشعر .... والبنية".
ثم أستدارت الى الرجلين وقالت وهي تبتسم:
" بالله عليكما لا تقفا هكذا مرتبكين , لقد حدث ما حدث قبل سنين , وألتفتت الى موروينا قائلة بحماس:
" أعرف والدتك جيدا , لكننا أنقطعنا عن بعضنا طوال هذه الأعوام , كيف هي الآن؟".
" ماتت وأنا في الثامنة من عمري , أما والدي وشقيقي فقد قتلا في حادث سيارة في بداية هذا العام ".
" وطبيعي جدا , أنك جئت الى تريفينون باحثة عن ملجأ ".
قالت ذلك وكان صوتها دافئا وشفوقا , ثم ضحكت ضحكة خفيفة وهي تقول:
" يا للسماء , كيف يعيد التاريخ نفسه!".
أحست موروينا بحرارة شديدة في الغرفة , وأن ياقة قميصها الضيقة تكاد تخنقها , ألتفتت الى مارك وقالت بنبرة متوسلة:
مارك , لا بد أن أعود الى البيت".
قالت باربارة بلطف:
" حسنا , سنتحدث طويلا هذا المساء , هل أخبرك نيكولا بأننا سنجري مباراتنا الأسبوعية في الشطرنج؟ لم يخبرك؟ يبدو أنه يريد أن يفاجئك بذلك , وسنرتب قريبا أيضا حفلة صغيرة للترحيب بعودة أبنة لاورا الى البيت".
ردت موروينا :
" سيكون ذلك جميلا , وسأكون شاكرة".
منتديات ليلاس
أستعادت موروينا هدوء أعصابها حين أضحت خارج المكتب , وشعرت بحيويتها وهي تسير الى جانب مارك الذي تأبط ذراعها , وخلفها كانت باربارة أنجلس تتحدث مع دومنيك وتضحك , خمنت موروينا أنها موضوع حديثهما بدون شك , قالت لمارك:
" قابلت اليوم صديقة لك , تدعى بيدي , تملك مخزنا للفخاريات في سانتا أينا".
" أوه , حقا ؟ كيف هي الآن؟".
" كانت تبدو سعيدة".
أجابته موروينا , ثم سكتت للحظا , وقالت ثانية:
" هل سببت لك أرباكا في عملك ؟ أخبروني في الأستعلامات أنك كنت في أجتماع".
" أبدا , كان مجرد أجتماع روتيني".
فتح لها باب السيارة فصعدت , ثم صعد هو الآخر , ألتفتت موروينا الى الوراء , فلمحت دومنيك واقفا أمام المكتب والى جانبه باربارة , لوح لها بيده مودعا , فردت عليه بأشارة مماثلة , ثم أستوت في جلستها.
" أهدأي , يكفي أنفعالا".
قال لها نيكولا في البيت , لكن موروينا أنفجرت فيه صائحة:
" أهدأ ....... كيف؟ لم أر في حياتي أذلالا مثل هذا , لقد ضبطني في مكتبه وأنا أبحث في الملفات , ولم يعطني أية فرصة حتى أوضح له الأمر".
قال نيكولا وهو يحاول تهدئتها:
"صدقيني أن الأمر ليس بهذه الأهمية , سأشرحه له بنفسي , لا تهتمي".
" كيف لا أهتم؟ أما كان من الأفضل لو طلبت من غيري القيام بهذا العمل , أم أنك أردت أ تحشرني في هذا الموقف المحرج فقط؟".
" كلا يا صغيرتي , ليس الأمر كذلك , أنا أحتاج الى هذا الملف , ولم أسأل دومنيك لأنني كنت أشك أنه سينفذ طلبي".
" كان بأمكانك تكليف شخص آخر.....".
" أعذريني يا صغيرتي , دعيني أوضح لك الأمر , لقد كلفتك لأنك ستكونين الحجر الذي سألقيه في بركة ماء راكدة , حتى أحركها".
حدقت موروينا في وجهه طويلا , بدون أن تفهم ما الذي يعنيه:
" ماذا تعني بكلامك هذا؟".
" دومنيك سيخبر باربارة أنجلس بالأمر , وباربارة ستثير هذا الموضوع علنا بدون شك , وآنذاك نستطيع كشف الحقائق".
أتسعت عينا موروينا من الدهشة , وهي تحدق في وجهه بأستغراب , وقالت:
" أتعني أن باربارة هي التي سرقت التصاميم وباعتها؟".
أسند نيكولا ظهره الى الكرسي , وألقى برأسه الى الوراء وأغمض عينيه , وقد بدا متعبا , ثم قال بصوت أشبه بالهمس:
" هذا ما أعتقده".
" ولماذا لم تكاشفها بالأمر طيلة هذه السنين ؟".
" لا برهان لكي أثبت ذلك".
" ولكن لماذا أقدمت باربارة على تلك القلعة ؟ ثم لماذا أتهمت أمي بذلك؟".
" لأنها كانت تغار منها , كانت لاورا محبوبة أكثر منها , بالأضافة الى ذلك كانت باربارة تحب والدك , وتأمل الزواج منه".
أخفت موروينا وجهها بين راحتيها , وهتفت:
" أوه يا ألهي , هكذا أذن.........".
" نعم , هكذا.......".
" وكيف عرفت أن باربارة هي التي فعلت ذلك؟".
" من أشياء كثيرة منها أنها كانت متلهفة بشكل غير طبيعي على التقرب منها ومساعدتنا , وقد مولتنا بالمال لأدامة المشروع حين ساءت أمورنا , بالأضافة الى ما قاله الرجل لي في معرض الزوارق , أن أكون أكثر حذرا في أختيار صديقاتي".
" ولماذا تركت أمي المسكينة تتحمل تبعات جريمة , هي بريئة منها؟".
" لم يكن الأمر بالسهولة التي تتصورينها , تعرفين أنني عطفت حتى على باربارة وفهمت جدا وضعها النفسي آنذاك والذي دفعها الى فعل ما فعلت , هنا نقطة أخرى أريد توضيحها لك , بعد تلك الحادثة أصبحنا أنا وباربارة قريبين جدا من بعضنا , وكنت آمل أنه مع تزايد أقترابنا , ستعترف بما فعلت بفعل عاطفتها نحوي , لكن مع الأسف طال أنتظاري حتى الآن".
" وهل تبادلها العاطفة يا نيكولا؟".
" كيف تنمو العاطفة في جو تنعدم فيه الثقة؟".
تجمعت الدموع مآقي موروينا , وقالت بحسرة:
" يا لها من خسارة حياة بل حياتين!".
أبتسم نيكولا وهو يتأمل وجه موروينا الحزين:
" لكنني لم أمت بعد , ولا باربارة أيضا , ما زلنا مستمرين في لعبتنا , والحقيقة أنها تلعب بذكاء , لكنني واثق أنها ستخسر هذه المرة".
ثم رفع الملف من فوق المكتب وفتحه قائلا وهو يقربه من وجه موروينا:
" أما في الوقت الحاضر , فسأجدد علاقتي بحبي الآخر"
أومأ نيكولا بالأيجاب قائلا:
" نعم , زورق آخر , لكن هذا سيعبر المحيطات , وسيتحدث الناس عنه كما يتحدثون عن البواخر العظيمة , وسأسميه ( ليدي موروينا)".
" أوه!".
هتفت موروينا وهي تضغط براحتيها على خدبها الملتهبتين , ثم قالت:
" ولكن هكذا دعاني دومنيك حين وجدني في مكتبه , ليدي موروينا!".
أطلق نيكولا ضحكة قصيرة وقال:
" هل دعاك هكذا؟ أن أبن أخي ليس غبيا , أذن لقد عرف أنني سأسترد هذا الملف".
" ولماذا سميته موروينا؟ أعرف أن هذا أسم شائع هنا , ولكن......".
" هكذا أخترت هذا الأسم , ربما لأشجع نفسي على العمل ".
" لا غرابة في ذلك أطلاقا".
قال دومنيك وهو واقف في با الغرفة , تراجعت موروينا فجأة وأسندت ظهرها الى الكرسي , كرد فعل على ظهوره المفاجىء , تقدم دومنيك منهما ورفع حاجبيه مندهشا وهو ينظر الى عمه وقال:
" ما هذا يا نيكولا ؟ قصة أخرى من قصص العائلة؟".
" بل أنها قصة الماضي والحاضر والمستقبل كما آمل".
نظر دومنيك الى الملف وقال ساخرا:
" تكلّف أناسا غرباء لأنجاز مهماتك , لماذا كل هذا الحذر ؟".
أجابه نيكولا وهو يهز كتفيه:
" لدي أسبابي بدون شك".
" حسنا , لا أريد أن أسألك عن هذه الأسباب , ولكنك حشرت الآنسة كيرسلاك في موقف محرج ظهر هذا اليوم".
" أنها سامحتني , وأظن أنها ستسامحك أيضا مع الأيام , ولكن لماذا هذه الشكليات ؟ أن أسمها موروينا , ألا تتذكر ذلك؟".
" من حسن الحظ أنني لا أنسى الأشياء بسهولة".
قال دومنيك بشيء من السخرية , رفعت موروينا وجهها اليه , وقالت بثقة:
" يبدو أن اسمي ينكأ جرحا قديما لديك يا سيد دومنيك".
" كلا يا آنسة كيرسلاك , لا تحاولي تفسير بهذا الشكل".
أستمرا في عملهما بصمت في ما تبقى من عصر ذلك اليوم , لم تستطع موروينا أن تستشف ما يجول في ذهن نيكولا وهو منكب على رسومه وأرقامه , بينما جلست هي الى مكتبها تدوّن بعض الملاحظات التي طلبها منها نيكولا وذهنها منشغل في أمور أخرى , تفكر فيما أذا كان دومنيك يحاول أستغلال وضعها في تريفينون للحصول على متعة عابرة منها, وأحست بالألم يعتصر قلبها حين تذكّرت غاي ومعاملته لها , تعرف أنها جميلة وذات جاذبية , لذا.
ليس من المستبعد أن ما يطمح اليه دومنيك ه علاقة عابرة سرعان ما تنتهي حين ينتهي هو من نيل ما يريده , وأعترفت بألم لنفسها بأنها تحبه , غير أن هذا يجب أن يبقى سرا في هذا البيت المليء بالأسرار , ثم قالت لنفسها بحسرة: ( أهذا ما كان ينقصني ؟ أن أقع في حب من يعاملني بكل هذه القسوة والأذلال.
أنتهت من أفكارها على صوت نيكولا , يقول بصوت مفاجىءء:
" سأتناول العشاء هذا اليوم في الطابق الأسفل".
أبتسمت وقالت:
" يبدو أنك قررت العودة الى الحياة الطبيعية".
" نعم , يكفي جمودا , علي الآن أن أهتم بتدبير أموري".
" ولكنك بدأت بذلك فعلا حين أرسلتني الى حوض الزوارق".
" أجل , كانت تلك البداية , والآن أذهبي الى أنيز , وبشّريها بالأمر , أظن أنها ذكرت شيئا عن بط مشوي , فلنحتفل اليوم بمناسبة عودتي الى الحياة الطبيعية".
كان صوته طبيعيا وهادئا , غير أنها لم تنخدع به , فسألته:
" ما الذي تخطط له يا نيكولا؟".
" ستعرفين ذلك قريبا".
أجابها ثم أنكب على أوراقه ثانية , غير أنه بعد لحظات من الصمت عد وقال لها:
" والآن , يا عزيزتي , أذهبي وهيئي نفسك للمساء".
أستقبلت أنيز النبأ وفسّرته بأن هناك حفلة ستقام في المساء.
كانت جالسة في المطبخ تقشّر التفاح , وقالت:
" سأطلب من زاك , أن ينظف الأواني الفضية".
" لا حاجة لزاك , أنا سأساعدك في ذلك".
" كلا , أكون شاكرة لو نظفت لي التفاح فقط".
دفعت أنيز بسلة التفاح والسكين اليها , ثم قالت لها:
" لا تنسي أن تغيري هذا البنطال القديم , ألبسي شيئا آخر , ستحضر كارين الى الحفلة حتما , وهي عادة تلبس ثيابا أنيقة".
" عندي فستان طويل سألبسه".
" لماذا تدعين ضيفتنا تتعبنا نفسها بالعمل يا أنيز؟".
كان ذلك دومنيك واقفا في باب المطبخ , ثم تقدّم ووقف أمامهما , وقال لموروينا:
" أريد التحدث معك على أنفراد يا آنسة كيرسلاك".
نهضت موروينا وتبعته الى مكتبه , وهناك سألته:
" تفضل , ماذا تريد؟".
" هل تعرفين لماذا يريد عمي أن يتناول عشاء الليلة في الطابق الأرضي؟".
هزت موروينا رأسها وقالت:
" هل هناك سبب معين لذلك؟".
حدّق في وجهها مقطبا جبينه ومضيّقا ما بين عينيه.
" كل ما يتفوّه به نيكولا , أو يفعله هذه الأيام , أنما لغاية معينة".
" ماذا تقصد؟".
" أنه يهييء نفسه لفتح الجروح القديمة , وأنت السبب في ذلك".
" أظن أنك تغالي في تقدير دوري في الأمور , يا سيد دومنيك".
" كلا , أنك بريئة من كونك عشيقة لرجل عجوز , ولكنك ما زلت تعملين لتحقيق الهدف الذي خططت له".
منتديات ليلاس
أرادت أن تقول له , بأنه مخطىء في ظنونه , وأنها لم تعد تهتم من ناحيتها بأي غاية أو هدف , ولم تعد تهمها سمعة أمها , أن لاورا نفسها لم تعط لهذا الأمر أهمية كبيرة , كانت غايتها سعادة نيكولا وراحته , وربما قدرت أنها أذا ما أبتعدت عن طريقه , فأنه وباربارة سيصلان الى نقطة ألتقاء.
" لا أعتقد أنك فهمت الأمر على وجهه الصحيح".
قالت موروينا , لكنه قاطعها قبل أن تكمل حديثها:
" فهمت جيدا , تريدين أثارة موضوع قديم وطرحه على بساط البحث بشكل علني , بدون أن تهتمي بالذي سيتضرر من عملك هذا ".
( كارين أنجلس؟ ) سألت نفسها , ( أهي من يقلق بشأنها ؟ ) قالت له:
" لا أستطيع فعل شيء".
أجاب بضحكة قصيرة وساخرة:
" تظهرين الوداعة والبراءة , وتخفين قسوة بالغة , يا ليدي موروينا".
" لا تنادني كذلك من فضلك".
" ولم لا , أذا كانت هي الحقيقة؟".
سار ووقف قربها حتى تلامس جسدهما , فشعرت موروينا أن عظامها تذوب وتتحول الى سائل ملتهب , ونظر اليها قائلا بصوت حنون ملؤه التحذير:
" موروينا , دعي هذا الأمر جانبا الآن".
" أنني آسفة ".
" ستأسفين على ذلك حتما".
أستدارت وهي تعض شفتها حتى أحست بطعم الدم على لسانها , سارت بهدوء الى خارج الغرفة وأغلقت الباب , ثم صعدت السلالم راكضة الى غرفتها , ألقت بنفسها على الفراش , وبكت حتى أحست أن الدموع قد جفت في عينيها.