الفصل 7-8-9

234 11 1
                                    

رواية ميدوسا ابنة الظلام
الفصل السابع
وما زلت كالسيف في كبريائي يكبل حلمي عرين ذليل ما زلت أعرف أين  الأماني وإن كان درب  الأماني طويل
~فاروق جويدة~
فتحت بوابة الفيلا لتستقبل من غادروها بالأمس و عادو لها اليوم بقلوب مكسورة و كأن الزمن لم يمر عليهما، عادو موجوعين و قد دمرت بفعل مرور السنين أحلامهما، يخفيان بداخلهما قسوة ما مرا به، تغيرا بالظاهر و لكن دخلهما قد انطفئ بعد أن احترقا معا بجحيمهما و لم يتبقى من أثار الحريق الا الرماد، أمنية واحدة يتشاركانها هي الانتقام...
هي تشعر بخيبة الأمل
هو يشعر بالغضب
هما يصوبان نحو بعضهما نفس السلاح  الصمت القاتل، فمن نلوم هنا غير ذاك الشيطان الذي تمكن منهما خطط و نفذ و النتيجة غادرا غاربين ليعودا أغرب..
و ما بين الحب و الكراهية علاقة معقدة فالأول ارتبط بالقلب و الثانية ارتبطت بالعقل فعندما نعشق فان القلب يجبرنا من دون أن يبرر أما عندما نكره فإن عقلنا يجد الأسباب يبرر لنا و يقنعنا و يبقى هناك خيط رفيع هو الاختيار بين الأمرين و هنا يقع الصراع و الضحية هي المشاعر إما أن يتم اغتيالها أو طعنها لتقع صريعة تنتظر إنعاشها...
توقفت سيارته بالموقف بعد أن أمر بإرسالها لهما للمطار
ثم التفتا يلقيان على بعضهما نظرة فهمها كلاهما فقد بدأ الجزء الثاني من فلمهما و الذي يتطلب منهما لبس الأقنعة ليقنعا من بالداخل بعد أن قضيا سنوات يدعيان أنهما زوجان طبيعيان..
و قبل أن تفتح سارة الباب لتترجل من السيارة كان قد فتح بلهفة تلك الأم التي اشتاقت لفلذة كبدها تعانقها قبل أن تغادر مقعدها و دموعها تعبر عن ما عانته ببعدها و هنا فقدت صغيرتها ثباتها فانهارت باكية تمسك بكفيها تقبلهما بشوق و حب و لوعة تحت أنظار ذلك الذي تجمد مكانه يحاول أن لا يتأثر و شعور بالذنب ينهش داخله
أبعد عينيه عنهما نحو الذين يقفون بالخارج ينتظرون قدومهما و ككل مرة يبحث بعينيه عنها هي...
حوره أليت الزمان يعود لذلك اليوم الذي كان فيه طفلا بحضنها يلعب اه يا أمي عيناي يداي حتى انفاسي أنا كلي بنيران الأسى أكتوي حزنك يا أمي بداخل قلبي يصرخ أصمت و أدعي أني بخير و الوجع يأكل مني و يشرب طفلك يا أمي أراه هناك ينادي بالله يا أمي عودي فأني من دونك روحي تزهق....
مساءا كان جميعهم يجلسون بتلك القاعة التي شهدت بالأمس على ذكر اسم ليال لأول مرة...
تندس منذ ساعات في حضن أمها، لا ترغب في تركها ولو للحظة..
تشعر بالأمان وبأن قلبها قد عاد للحياة ثانية بعد سنوات من الوحدة و السجن، همست لها تسألها بصوت خافت:
-أين ساري يا أمي؟ ألم يشتاق لي؟!
فابتسمت دلال بحنان و هي تجيبها بينما تمسد بكفها على شعرها الحريري:
-بلى حبيبتي و لكن قال أن هناك إجراءات يجب أن يقوم بها اليوم لأجل خروج زو...
قطعت ما كانت ستقوله عندما أدركت أن سارة لم تعلم بعد..
و لكن ماهر الذي كان يراقبهم سمع دلال و فهم ما كادت تتفوه به فأكمل  ما سكتت عنه هي و هو يقول بنبرة ذات مغزى يؤكد برأسه بينما عينيه تسلطت على الموجودين:
-زوجته أكمليها يا خالتي!!
فنهضت سارة من حضنها بصدمة تهتف بحنق :
-ماذا ساري تزوج! لمَ لم يبلغني أحد؟! من تزوج أمي أخبريني هل أنا آخر من يعلم؟! أم أنكم نسيتم أن لكم ابنة تدعى سارة؟!
انفجارها ذاك كان متوقع لماهر بينما تعجبه البقية خاصة و انها أطلقت العنان لدموعها تبكي...
و الظاهر كان أنها تبكي زواج اخاها الذي لم يخبرها بينما كانت تبكي سنوات غربتها.. تبكي قسوة ذاك المسمى زوجها.. تبكي ذلها وهوانها على أبيها الذي استقبلها ببرود لتحتمي وراء ذلك الخبر وتخرج ما بداخلها بالصراخ والبكاء وكأنه ارتكب ذنبا عظيما!
حاولت أمها تهدئتها و لكنها لم تستجب...
فتدخل جلادها يمنعها من أن تضعف أمامهم و هو متيقن من ان صبرها وصل نهايته:
-اخفضي صوتك، هل سيبرر لك لمَ تزوج؟! ثم لمَ كل هذه الدموع الآن؟!
نبرته القاسية تلك جعلت قهرها يزداد.. 
فأجابته بينما تجفف دموعها بأناملها تشمخ برأسها :
-ما دخلك أنت؟! طبعا سيبرر لي فهو أخي..
و لان كلاهما يعلمان حقيقة  انهيارها رده هذه المرة كان أقسى مما سبقه و هو يقول من بين اسنانه بغضب مكبوت تعلم أنه سنفجر بها إن لم تسكت:
-قلت اخفضي صوتك، وعندما يأتي طالبيه بتبرير ذلك والآن كفي عن البكاء فلم تعودي طفلة لتكون ردة فعلك هكذا..
فتدخل راشد يحاول تهدئة الوضع :
-حبيبتي كلنا لم نعلم إلا بالأمس..
فابتسم ابنه و ملامحه قد بان عليها حقده الدفين يسخر منه و من الجالسين:
-ألم يزعجك الأمر أبي؟! ألم تتساءل إن كانت تلك ابنتك؟!
تطلع فيه راشد بعتاب و خيبة أمل ثم رد عليه بنبرة حاسمة لا تقبل الشك:
-لا ليست ابنتي.. 
ذهول سيطر على سارة التي لا تعلم شيئا فالتفتت إلى امها تسألها بصدمة :
-ابنته؟! ما الذي يحدث هنا؟ هلا فسر لي أحد ما يجري!
فلم تجد وقتها دلال بدا إلا أن تعلمها بما أخبرهم به ساري بالأمس أمام صدمتها التي ظلت لثواني تحاول الخروج منها و استيعاب ما سمعته ..
ثم انفجرت تضحك و دموعها تتابع نزولها على خديها من شدة قهرها، تطلعت بوالدها و قد فقدت القدرة على مدرات قرفها و احتقارها و هي  تقول بجرأة لم يسبق لها أن تحلت بها:
-هل حقا فعلت ذلك أبي؟!هل تخلصت من طفلة رضيعة وتسببت لها بكل تلك الآلام؟! لتكمل بنبرة بها من الألم الكثير بينما تشنجت حنجرتها فخرج صوتها مختنق :
-لا أعلم حقا لمَ أستغرب منك ذلك! فمن يتنكر لابنته قادرا على فعل الأبشع.
صرخ بها والدها بغضب فهو لم يستطع أن يتجاوز ما فعله ابنه لتكمل هي ما بدأه شقيقها:
-تأدبي يا فتاة أم أن الزواج غير منك ليجعلك قليلة أدب؟
ابتسمت باستنكار و قد فقدت السيطرة على نفسها فما مرت به من الامس إلى اليوم كان قاسيا  فنهضت من جوار أمها و هي تسأله بحرقة بينما تقترب منه ببنما تطلع فيه بكسرة خاطر :
-هل قول الحقيقة صار قلة أدب، ماذا يطلق على ما فعلته أنت إذا؟
ولم يتردد للحظة و هو يترك مقعده بغضب يطبع كفه على خدها بصفعة أسقطتها أرضا تحت قدميه، انحنى ليمسك بذراعها ينهي ما بدأه..  و لكن يد ماهر الذي نهض بسرعة أمسكت بكفه يمنعه :
-هل تضربها في وجودي يا خال أنسيت أني زوجها؟!
التفت إليه غاضبا يلومه و قد احمر وجهه بينما يضع يده على صدره إثر نغزه خفيفة شعر بها:
-إذن علّم زوجتك كيف تحترم كبار العائلة، فالظاهر أنك دللتها حتى فسدت أخلاقها..
عض ماهر على شفته يحاول تمالك غضبه من خاله ومن تلك التي تجلب له الإهانة..
انحن بجذعه ليمسكها من ذراعها ثم يسحبها يصعد بها إلى جناحهم من دون أي رد، دخلا معا فتركها يغلق الباب بقوة انتفض لها جسدها يسألها و هو يمرر كفيه على وجهه عله يهدأ:
-هل ستبررين لي الآن سبب قلة أدبك بالأسفل؟
رآها تجلس على فراشها بتعب، تضع كفها على مكان الصفعة تتحسس خدها تطلعت به فرأته ينظر لها بغضب منها و عليها ثم أغمض جفنيه بقهر بينما رفع راسه إلى فوق فنكست رأسها و هي تشعر بالخزي بأن يرى برود والدها بالترحيب بها ليكمل ذلك بصفعة استقبال..
هدأ قليلا ثم جلس بجانبها على الفراش ينوي أن يؤنبها قليلا كي لا تعيد ما فعلت..
-أنتظر منك تبريرا يا سارة لأن ما فعلته بالأسفل لا يغتفر، وأنت ترفعين صوتك في وجهي ثم في وجه والدك..
مد يده يرفع لها ذقنها و هو يدير رأسها لكي تواجهه بينما يرفع حاجبه و يسألها بنبرة صارمة:
-أنظري لي هل ترغبين حقا بأن أعيد تأديبك؟ لأنني لن أمانع فليس ماهر من يسمح لزوجته بأن تهينه أمام من كان..
و لم يعلم أن تأنيبه ذاك كان القطرة التي أفاضت الكأس فلا قدرة لها على احتمال المزيد، ازالت يده بشراسة و هي تصيح به بجنون و قد نهضت من جانبه وفيروزتيها تشتعلان بجحيمهما:
-كفى كفى، ما الذي تريدونه من سارة؟ أنت وهو دمرتم حياتي، لن أسكت بعد اليوم ولن أخاف قسوتكم فقد عشت قسوة أبي لسنوات لتكملها أنت بسنوات أخرى، ما الذي تستطيعان فعله بي أكثر؟
غصة استحكمت بحلقها جعلت صوتها يختنق و هي تنفس عما بداخلها و تلك الدموع لا تكف عن التحرر من سجنها كأنها كانت تنتظر تحرر صاحبتها:
-غادرت سجن أبي من أربعة سنوات بصفعة منك لأغادر سجنك الآن بصفعة منه هو هل تتناوبان على أذيتي؟
أخذت نفسا و صدرها يعلو و ينزل من شدة ما بها من قهر و غضب ثم تابعت باستسلام و هي تميل عنقها ترسم ابتسامة مريرة على ثغرها و قد احمرت عينيها تنظر له بيأس:
-لعلمك يا ماهر لم أعد أخاف عقابك لا أنت و لا هوفلا تتعب نفسك وإن أردت إعادة تربيتي مثلما تزعم فلك هذا، أشارت بإصبعها على وجنتها تضيف:
-هيا يا زوجي لقد صفعني أبي هنا...
ثم قربت خدها منه:
-فأكمل أنت الثانية على الآخر ...
تأملها ببرود لا يعكس ما بداخله ثم رد بنبرة يلفها الغموض كصاحبها :
-حسنا يا سارة سأعيد تأديبك، ولكن ليس بالضرب فقد فعلها والدك قبلي..
ثم غمز لها و خرج من الغرفة تاركا إياها تبكي ضعفها رغم تلك القوة التي ادعتها...
بعد أن أفرغت ما بداخلها من وجع تطلعت بجناحها فشعرت أنه يكتم على انفاسها فدخلت الحمام لتغسل أثار صفعة والدها و دموعها ثم وقفت أمام المرآة و اعادت تسريح شعرها البني الذي يميل للشقار و عادت لغرفتها امام طاولة زينتها أمسكت بفرشاتها تغمسها بذلك اللون الوردي كي تخفي الأثر الموجود و غادرت تقصد جناح من في بعده كسر جناحها دخلت فشعرت بالأمان بمجرد استنشاقها لرائحته و وجدت ابتسامتها تعلو ثغرها و كلها شوق لرؤيته تشعر بالفخر به فهو لم يحميها هي فقط في الماضي بل سعى لحماية ابنة عمتها ..
تتساءل بشك بداخلها...
هل تزوجها عن حبا أم أن زواجه فقط لحمايتها؟!
بعد ساعتين قضتهما ترتب له غرفته كما كانت تحب فتح باب جناحه فالتفتت بسرعة من شدة لهفتها و جرت ترتمي بحضنه قبل أن يستوعب وجودها تقبل كفه عوضا عن والدها و داخلها صراخات تبكي ضياعها منه تكتم شهقاتها كي لا تزعجه فعانقها بقوة يمنحها ذلك الأمان المفقود ثم أبعدها قليلا و هو يضع كفيه على كتفيها يتأمل صغيرته الأخرى التي كبرت بعيدا عنه وأعاد احتضانها مقبلا جبينها و رغم ما مر بها عاد مركبها يبحر وعاد الشراع يسير بها نحو أمانها فلا شيء يعوض لها وجود ساري بقربها.. جلسا معا تضع رأسها على صدره تسأله بشوق:
-علمت بزواجك يا قلب أختك مبارك لك ..
داعب شعرها و ابتسم متجاهلا تطرقها لموضوع لياله:
-دعيك مني و أخبريني كيف يسير زواجك هل أنت بخير؟
طردت بسرعة دمعة كادت أن تنزل و ارتدت قناعها كما اتفقا هي و ماهر ثم رفعت رأسها من فوق صدره تتطلع به و قد رسمت ابتسامة عريضة تخفي غصتها ترد بثقة:
-لا تقلق أخي أنا بخير ماهر يحسن معاملتي..
رفعت سببتها تدعي المرح:
-و لكن لا مهرب لك من سؤالي أخبرني عنها كيف سرقت تلك الفتاة قلب أخي؟!
ثم تطلعت به بشفقة على تلك و اكملت:
-كيف وجدتها أخي؟!
زفرة طويلة عبرت عما بداخله و هو يتطلع بالفراغ امامه بينما يقول بأسف:
كانت أمامي دائما لم تضع و عندما أضعتها وجدتها و ليتني لم أضعها..
-كيف فعل أبي ذلك يا ساري؟!
سؤال لم تستطع كتمه بداخلها
فتطلع فيها بحزن لم تراه قبلا بعينيه..
-لم يكن هو صاحب القرار يا سارة، جدي وقتها من دبر كل شيء..
فردت بغضب تلقي بلومها على والدها:
-لكنه وافقه أخي، لا تبرر له..
نظرة عتاب نالتها منه ينفي تهمتها يرد بقوة و صدق كعادته:
-أنا لا أبرر له، أنا فقط أخبرك الوضع كما هو..
أمالت رقبتها تبتسم بشفقة وسألته:
-هل ستخبرها؟
-ليس الآن، فحتى هي لا أعتقد أنها جاهزة.. دعيها تتعود علينا ومن ثم سنرى..
والرد كان لأول مرة بنبرة تخلو من ثقته فاقدة لثباتها..
فشعرت بالحزن من أجلهما فالواضح أن شقيقها يشعر بالضياع و لم تعلم إنه تائه في ظلام عيناها منذ تلك الليلة..
تطلع بها ينهي النقاش بذلك الموضوع يسالها باهتمام:
كيف حال دراستك علمت أنك التحقت بكلية الطب..
و بينما كادت ترد قاطعها و هو يرفع يده يمسح بأصابعه على أثار صفعة والده و ذلك الجرح الصغير الذي لا يكاد يرى بقرب شفتها يقطب جبينه ثم سألها بشك:
-من فعل بك هذا؟
و لأنها تعلم أن شكوكه ذهبت ناحية ماهر و أنه لن تستطيع امساكه ردت بربكة تعترف وتبرر له فالمذنب هنا والده و لن يستطيع أمامه إلا الانصياع حتى إن لامه :
-لا تغضب حبيبي، الذنب ذنبي أنا من قللت من أدبي أمام أبي..
مسح بكفيه على وجهه بغضب يستغفر بسره:
-حاولي تجنب غضبه يا سارة لأنني لن أصمت إن كررها..
فربتت على ذراعه بحنان :
-لا أخي، لا أريدك أن تغضب أباك من أجلي وسأحاول تجنبه لأجلك فقط..
نكس رأسه يخفي أساه عنها ثم وبنظرة جانبية سألها:
-أين ماهر لم أره؟!
و لأنها لا تعلم حاولت أن تتكهن كي لا يشك فمن أمامها بارع في كشف الكذب تقنعه انه اخبرها أن لديه موعد شغل ثم أردفت بثقة زائفة:
-لا بد انه عاد و نحن نجلس هنا..
فنهض و هو يمسك كفها كي تنهض معه يضع ذراعه حول رقبتها يقربها منه و هو يهتف بمرح:
-اذا داعينا ننزل كي ارحب به فليس لائق تأخري بمقابله للآن...
في الأسفل كان يجالس والده ينصت اليه بذهن شارد فقريبا قطعة من حوره تمتلك عيناها ستكون بقربه منذ ساعتين و والده يحاول اقناعه بعدم اخبارها و لكنه غير مقتنع!! كيف يريدونه ان يعاملها كغريبة؟!
كيف و قد زاد حنينه لها؟!
كيف و هي ابنة امه التي تبكيها أيامه بحزن؟!
كيف و هو يعلم حاجتها له بعد ما حصل معها؟!
كيف و هو رأى ضياعها؟!
لا هو لن يستطع يعلم سيفشل، هو حتى لم يستطع تقبل فكرة سجنها ولومه كان على من حرمهم الأم و العقاب كان سجن ابنتهم رغم شكه ببراءتها....
قاطع صمته نزول ساري و هو يرحب به:
-أخيرا عاد ابن العمة أنرت العائلة..
فوقف يبتسم بصدق لا يشعره إلا أمام ساري ثم اقترب منه و عانقه بقوة و كأنهما يواسيان بعضهما و ينتهي العناق بجلسة استطاع ساري بها اقناعه بما فشل به راشد
……………………
~بعد أسبوع~
تقف خارج أسوار ما يطلقون عليه سجنها ، لكنها ترى فيه بيتها..
تقف مودعة لسنوات عاشتها داخله قد رسمت لها الفارق بين ليال ما قبل الدخول وليال ما بعد الخروج، لا تشعر بالحرية ولا بالسعادة.. كل ما تشعر به هو الخوف مما ينتظرها، فهي الآن تبدو شابة جميلة اكتمل نضجها جسدها المتناسق الطويل قد برزت معالم انوثته و هي ترتدي بنطال  من الجينز الأزرق الفاتح يعلوه قميص أبيض قطني تدخل نصفه بينما تركت الباقي ينزل على خصرها و قد تطاير شعرها الأسود الليلي من تأثير تلك الرياح الخفيفة ثياب أقل من عادية و لكنها لاقت بها فسحرها المظلم يستحيل اخفائه و كل السحر يقع بعينيها ففيهما دهائها و عمقها فيهما يسكن ظلامها، أحست بيد سمر تمسك  بذراعها بلطف تحاول إبلاغها أنها لم تعد وحيدة وأنها ستكون سندا لها..
ناظرتها بعينين دامعتين فاحتضنتها تطمئنها فالخارج بالنسبة لليال هو السجن هو جحيمها الذي عاشته لسنوات -لا تبكِ حبيبتي هناك حياة تنتظرك، أين صديقتي القوية التي تمردت على الكل واِستطاعت أن تجعل من سنوات سجنها أملا لها؟!
أنت جاهزة الآن وستواجهين هذه الحياة كأنثى قوية، ولست طفلة الأمس يا ليال..
-لا تشعريني أن كل تعبنا قد ذهب هباء منثورا؟!
دعم سمر الذي لا ينضب حتى في لحظات خروجها جعل ليال تجبر نفسها على الابتسام و هي تمسح ما سقط منها من دموع ترد بثقة كاذبة:
-لا لم يذهب شيء يا سمر، بل سترين كيف سأسترد ما حرمتني إياه الحياة بكل قوة.. ابتسمت لها بتأثر توافقها: هذه صديقتي التي أرغب برؤيتها..
فتصيح تلك تضع كفيها هول فمها و كأنها تسمع الجدران تسمع الأرض و السماء عل صوتها يصل من ظلمها تقنع ذاتها قبل اقناعها لسمر:
-انتظريني أيتها الحياة أنا قادمة.. وبقوة ولن تستطيعي هدمي هذه المرة...
و انتقلت عدوى لحظة جنونها لسمر فصفقت لها بحماس تتشاركان ضحكة حاولا كلتاهما إتقانها ..
توقفت سمر فجأة تنكز ليال بمرفقها لتنتبه على الواقف قرب سيارته مبتسما على ما يراه يحدق بها بفخر و إعجاب لم يستطع إخفائه و كانه لم يتركها الا امسا فلا يزال ذلك الغموض يحيطه و وسامته تزداد لا تستطيع أن تقول عنه أنه أيقونة جمال و لكنه جذاب من دون أي سعي منه  بشرته السمراء و جسده المتناسق و لباسه الذي يغلب عليه لون الظلام أسراها فكيف لا و هي ابنة الظلام أما عينيه بلونهما الأسود فهي قصة مختلفة تخيفانها و تطمئنانها و كأن بهما سرا لا تعلمه تشعرانها أنهما موطنها و منفاها بنفس اللحظة، كيف؟! هي حقا لا تعلم و لا تريد أن تعلم كل ما ترغبه هو الهروب و ليتها علمت أن عينيه هو أول ما رأت بهذه الحياة....
ظلت لثواني تتطلع به و قد تلاشت ضحكتها و ذلك الحماس المزيف للقادم تقطب حاجبيها بحيرة بينما هو يقترب منهما يسأل بمرح:
-هل انتهى العرض أيتها السيدتين؟!
فابتسمت سمر بخجل بينما اكتسى البرود ملامح ليال، ترد بانزعاج لم تحاول إخفائه:
-ماذا تفعل هنا يا سيادة النقيب؟ هل أتيت لزيارة المركز؟
ركز نظراته عليها لثواني يضيق سوداويتيه و لم يفته انزعاجها من وجوده ثم أجاب يؤكد لها أن شكوكها نحوه صحيحة:
-لا، أتيت لأراكِ لأن هناك ما يجب عليك معرفته..
نظرت له سمر بعتب على استعجاله في إخبارها فحاولت أن تثنيه عما ينتويه:
-ما رأيك أن تذهب معنا لبيتي نتغدى سويا، ثم تكلما براحة فهي تحتاج لقليل من الوقت لاستيعاب خروجها أولا!..
أخفض رأسه يخفي ملامحه عنها فلم يعد قادرا أكثر على الصبر يريد في الحال أن يعيدها حيث تنتمي يعيدها كزوجة احترامها من احترامه و لكنه تفهم ما حاولت سمر ثنيه عنه فرد بخفوت:
-حسنا ليس لدي مانع..
فتركتاه ليسبقاه بسيارة سمر و بعد ان انطلقت تلك لم تستطع ليال كبت سؤالها أكثر و قد تأكدت مخاوفها من أن يكون هناك ما لا تعرفه و أن رفيقتها على علم به :
-ماذا يريد مني؟ ألا ينوي تركي هذا الرجل؟! و لا تقولي أن لا علم لديك لأني لست بغبية...
فأجابتها بملامح لا تعكس شيء و هي تقود تركز على الطريق أمامها فالأمر عندما يتعلق بمديرها تتحول سمر لشخص غامض لا يستطيع أحدا أخذ شيء منها :
-ستعلمين بعد قليل لا تستعجلي..
فالتفتت إلى الخلف لتجد سيارته تلحق بهما، تأففت بغضب من ذاك المتسلط المغرور الذي يرفض تركها في حال سبيلها..
………………..
جلسا بعد الغداء في الحديقة، فجلبت سمر القهوة تراقب صمتهما بقلق قلقة من ردة فعل ليال..
فساري كعادته واثق من نفسه لا يقدر أحدا على قراءة ما بداخله لأنه لا ينعكس على خارجه يبتسم بهدوء يتأمل تلك التي تتأفف بضجر.. فسعلت قليلا لينتبها إليها و هي تقول:
-سأحضر بعض الحلوى التي أعدتها احتفالا بخروج ليال فإسماحا لي قليلا؟
نظرت إليها ليال بعتب لأنها ستتركها وحيدة معه بينما رد هو يجاملها و بداخله يعلم انها تترك له الفرصة ليصارحها: -حسنا تفضلي لكن نحن لن نتأخر كثيرا لأنه يجب علينا الرحيل..
لم تنتبه ليال بعدها لانصراف سمر بل نظرت لذاك الذي قال للتو بكل ثقة انها سترحل معه، بان عليها الذهول و قد اتسعت عينها ثم انفجرت بالضحك الذي قطعته و تطلعت فيه تنتظر منه أن يعلن أن ما قاله مجرد مزاح ثقيل كثقل وجوده الآن!..
و عندما لم يبرر و شاركها ابتسامة ترافقها نظرة رأت بها تقييما لوضعها ابتسمت له بغباء يشوبه القلق تدعي عدم الفهم و هي تصحح له بينما تلعب بأذنها تخفي ارتباكها:
-تقصد أنك سترحل بعد قليل، وليس سنرحل أليس كذلك؟!
تطلع فيها و لم تفته محاولتها نفي ما الواقع و هو يؤكد لها بنبرة لا تحمل الشك :
-أنا قلت سنرحل ولم أقل سأرحل..
ليجن جنونها فتقف بشموخ و تنحني بجذعها تضرب أمامه الطاولة تهتف فيه بغضب :
-مهلا مهلا هل جننت يا هذا؟! هل تنتظر مني دفع ثمن مساعدتك لي طوال هذه السنوات؟!
ثم وقفت تنظر له نظرة احتقار و هي تكمل:
كنت أعلم أن وراء ذاك الكرم والرجولة يختفي شخص نذل وحقير..
رفع حاجبيه يحاول أن يستوعب ما قالت، هل أهانته هذه الصغيرة للتو؟! كز على أسنانه و هو يتنفس بعمق يضع مرفقه فوق راسه بينما يرفع راسه يتطلع فيها يحاول السيطرة على غضبه كي لا ينهض الآن ويلقنها درسا على ما قالت ولكن ليس الآن فالعمر أمامه ليعلمها كيف تتحكم في لسانها..
انتظر إلى ان صمتت و هي تنظر إلى جهة اليمين تتهرب من نظراته بعد اهانتها له ثم طلب منها بهدوء غريبا عنه: -اجلسي ولا تتسرعي بالحكم، استمعي لما سأقول وبعد ذلك سنرى إن كنت نذلا حقير أم شيئا آخر!
فعادت للجلوس تكتف ذراعيها تطلب منه بنفاذ صبر أن يكمل فداخلها لا يريد ان يصدق أن رجلها المظلم كما اتهمته..
أخرج لها عقد زواجها و أعطاها إياه، فأمسكت الورقة تقرأ ما فيها بعد تخلصها من جهلها بفضله هو، ثوان و رفعت عيناها بصدمة تصرخ به:
-أنا زوجتك! متى تزوجتك؟!
و من دون شعور رمت الورقة بوجهه تتهمه بغضب:
هذه الورقة مزيفة، هل هذه خطتك لاستدراجي؟!
فقاطعها يرفع كفه أن تصمت يبرر لها:
-أنت زوجتي بتوكيل منك وقعتِ عليه لمحاميك ماهر
ناظرته بصدمة.. هل حقا تم استغلاها وجعلاها توقع على ما تجهله؟!
سألته تبتلع ريقها و قد بدأت تشعر أن الموضوع جدي:
-كيف؟ لمَ فعلتما ذلك؟ أنا وثقت بكما..
و سؤالها ذلك لم يكن الا خيبة أمل به جعلت دموعها تلمع بقهر داخل منفاه تتساءل لما هي؟!
و الجواب منه حاسم كما شخصه لا يلف و لا يدور و لا يكذب لن يبرر إن كان لا يستطيع الاعتراف:
-هناك أسئلة يا ليال لا يوجد لها إجابة، كل ما عليك معرفته الآن أنك زوجتي..
فثارت بعناد تحاول أن تنقذ نفسها:
-لا لست زوجتك، وهذا الزواج باطل وستطلقني.. هل تفهم؟!
-حسنا ولكن عليك دفع مبلغ كبير إن طلبت الطلاق، هذا ما وجد في عقد الزواج الذي وقع عليه محاميك..
و الصدمة هنا كانت قاسية عليها و هي تراه يساومها
و لم تعلم أنه ما وضع هذا الشرط الا لعلمه المسبق باستحالة موافقتها..
فتساقطت دموعها تغادر المنفى و هي تلعن حياتها التي لا تجعلها تعرف معنى السعادة، فها هي بمجرد خروجها من ذاك المكان يأتي هذا الرجل متبجحا بأنه زوجها..
مسحت بكفيها تبلل خديها كي لا تكون مصدرا للشفقة تسأله بيأس و حقد :
-لماذا أنا يا سيادة النقيب؟ فوقف هذه المرة و اقترب منها يثني ركبتيه ليكون بمستوى جلوسها ثم أمسك كفيها يجيبها بصدق فلا وجود الا للحقيقة بقاموس ساري:
-لدي أسبابي يا ليال، ولكني لا أقدر على قولها الآن..
رفع ذقنها كي تلتقي العيون فلا رابط أقوى من ذاك الرابط بينهما يكمل:
-كل ما أطلبه منك هو الثقة بي وأعدك لن أستغلك ولن أجبرك على شيء إلا إن كنت راغبة ومستعدة له..
و لم يعلم أنها استمدت قوتها من قوة نظراته و تذكرت وعدها لنفسها أن تتغير وتودع ضعفها فسألت و هي تضيق عينيها:
-ما المطلوب مني الآن؟
و الرد كان حاسما:
-ستأتين معي وتعيشين جانب زوجك مثل أي زوجة.. ليضيف مازحا :
-أتعلمين أن الكثيرات يتمنين مكانك هذا؟
عندها تركت كفيها كفيه و قد وقفت أمامه تهتف بتمرد:
-اذهب إليهن إذا، لمَ تفرض نفسك على من لا تريدك؟ ابتسم بلؤم فهو يعلم انها تريد التخلص منه و لكنه يعذرها بل يعجبه دفاعها المستميت على نفسها و رد سؤالها بسؤال آخر و قد وقف يضع يديه بخصره يطالعها بمتعة:
-هل لأني أنا أريدها! ثم ألم تقولي قبل قليل أني نذل حقير فلمَ الاستغراب إذن؟
عادت سمر تضع الحلويات فوق الطاولة تسترق النظرات إليهما تعترف لنفسها ان نقيبها الذي عشقت قد وجد نصفه الثاني فهي لم تراه ينظر إلى فتاة كما رأته ينظر لليال كل ما التقى بها خلال الأربعة سنوات...بينما شعرت هي بقدومها فالتفتت لها تناظرها بخيبة تسألها و تجيبها فهي أكيدة الآن من اتفاق صديقتها معه:
-كنت تعلمين أليس كذلك؟ كلكم اتفقتم معه.. أنت والمحامي و حتى مديرة الدار...
لم تستطع سمر إنكار معرفتها فاقتربت منها تحاول التبرير لترفع الأخرى كفها أمامها بمعنى أصمتي وانصرفت إلى الداخل بسرعة تجلب معها حقيبتها الصغيرة تسبقه إلى سيارته من دون أن تنبس بكلمة إضافية..
…………………….
يجلس كعادته يملأ الحقد قلبه، مصِّر هو على تدميرهم كما دمروه قبلا، دق بابه ثم دخل محاميه الذي عينه قبل أربعة سنوات بعدما فشل الآخر في ما وُكّل إليه، فهو لم ينسى كيف نجت ابنة الحارث وسافرت صحبة زوجها و لا كيف اتحد صقر و راشد و انقذا معا الشركة من الانهيار..
مسك قلمه يضرب به سطح مكتبه ينتظر آخر التطورات
فسعل الآخر يجلي صوته من ربكته ثم شرع في حديثه:
- سيد أحمد، لقد نفذت ما طلبته مني وراقبت تلك الفتاة، خرجت اليوم من المركز واتجهت صحبة إحدى موظفاته لمنزلها والملفت أن النقيب تبعهم بسيارته ليخرج بعدها وتلك الفتاة معه!..
ضغط بأصابعه على القلم فكسر، إذا فهم سبقوه في الوصول لها، ولكنه لن يسمح بذلك مهما كان الثمن.. ابنة حور يجب أن تعلم الحقيقة وتحاسبهم، أجل هو متأكد من أنها ابنتها كيف تغاضى عن ذلك الشبه بينهما عندما قابلها لأول مرة وهي هاربة من موسى! ليثبت ذلك النقيب هذا بزواجه منها ويكون وكيلها هو ابن راشد، الصورة اتضحت له أكثر إنهم يظنونها ابنته..
ابتسم بمكر، يفكر كيف يمكنه أن يستغل الوضع لصالحه..
ثم رد على الواقف أمامه بخبث و دهاء:
- دعها تذهب، فضولها سيجعلها تأتي إلي بنفسها.. أومأ له المحامي و قد استطرد قائلا:
-هناك خبر آخر عليك معرفته سيد أحمد..
-ماذا؟
قالها ترافقها غمزة من عينه
فرد المحامي:
-علمت بأن والدك مريض، وقد أرسل أحدا من رجاله ليبلغك برغبته في رؤيتك..
استولى الغضب عليه يناظره بعيون قد احمر بياضها من شدة ضغطه على نفسه، يعطي أمره بنبرة ناقمة لا ترحم :
-ارموا ذاك الرجل في أقرب مكان للقبيلة بعد أن ترسموا ما أريد إبلاغه لهم على كل مكان بجسده..
أومأ المحامي ليهم بالانصراف بعدها، لكن صوت أحمد أوقفه و هو يتراجع:
-انتظر، لا تفعل شيء فالوقت قد حان لرجوعي إلى تلك القبيلة، و هذه فرصتي ما دام يريد رؤيتي..
……………..
يقف في الحديقة عينيه على  البوابة بقلب مشتاق لقطعة من حوره، ينتظر اللحظة التي سيراها فيها بعد أربعة سنوات من السجن..
كيف سيمنع نفسه عنها! فساري قد أبلغه بقرارهم أن لا تعرف شيئا خوفا عليها من عائلة والدها ، يشعر بالاختناق كلما فكر بأنهم يتهمون أمه بمعاشرة رجل غير والده.. هو يتذكر والدته كانت امرأة فاتنة و لكنها تمتلك من الخجل والشرف ما إذا وزعته يكفي بنات القبيلة و يفيض فكيف سولت لهم أنفسهم بأن يحاكمونها بتلك التهمة البشعة ..
انتبه على صوت البوابة يفتحها الحارس فتدخل سيارة ساري وليال تجلس بجانبه تتطلع حولها بذهول لم تفصح عنه و داخلها تشتعل نيران الماضي فلم تتخيل للحظة أن يكون النقيب و زوجها الذي جبرت عليه من نفس قبيلتها و كأن مصيرها ربط بهذه الأرض تتساءل و ماذا بعد؟! بينما تجمد ماهر بمكانه يتأمل تلك التي تحولت بعد أن كبرت لنسخة من فقيدته ، لسعت الدموع أجفانه ليتنفس بقوة طاردا إياها يدعو بداخله أن يساعده الله على السيطرة على مشاعره حتى لا يأخذها بحضنه يهمس بخفوت:
-ارتاحي يا حوري فليال بأمان ابتداء من هذه اللحظة..
ترجلت من السيارة  بعد ان رأته ترمقه بغضب بعد أن تعرفت عليه ثم اقتربت تسأله بنبرة بها استهانة:
-لقد وثقت بك حظرة المحامي فورطتني، هل أنت راض الآن؟!
ثم أجابت على سؤالها تلقي بحكمها عليه دون انتظار دفاعه:
و لكن لما التعجب فالواضح أنك ابن هذا البيت أي انكما اتفقتما..
و كم كانت نظرتها التي رأى فيها حقدها صعبة على من بمثل مشاعره بتلك اللحظة كل ما استطاع قوله و هو يتطلع فيها بأسف:
-صدقيني كان لي أسبابي لفعل ذلك...
ردت بضحكة ساخرة:
-هل هذه حجتكم! لكم أسبابكم؟! حسنا إذا ما دمتم قد فعلتم هذا فتحملوا ما سيحدث..
ثم انطلقت مثل العاصفة تصعد سلم ذاك القصر وتدخل إليه...
«عادت ليال عادت ابنة الظلام..
عادت بهيئة حور..
عادت أنثى بقلب مكسور..
بالأمس كانت طفلة لا عاطفا بالأيادي هب يحملها
ولا أبا حاني بالصدر يحميها
الظالمون تمادوا في نكايتها
ليتسابق من بالجرح يدميها
قساة القلوب سلبوا منها طفولتها
وها هي اليوم تقف أمام من للرخص نسبوها
تقف برأس مرفوع، على جبينها قد كتب أنا قطعة من حور..
راشد في القلب مطعون لم يتحمل أن يرى نفس العيون
أما صقر فكالعادة ينسحب كي يداري اشتياقه للحور
الزعيم يتأملها بقلب بالأمس كان موجوع واليوم هو مقتول..
ابتسمت بثقة تتطلع بالواقفين يطالعونها بنظرات لم تفهمها فابتسمت لهم بود مزيف تلقي بقنبلتها:
-مرحبا، أنا التي تزوجها ابنكم غصبا، فتاة ليس لي أهل و لا اسم كنت منذ قليل في السجن فهل ترضون بمن مثلي كنة لكم؟!
و الرد كان من دلال التي تتأملها بدموع أغرقت مقلتيها:
-رضينا، وأهلا بك بيننا يا زوجة ابني..
صدمت ليال من رد فعل تلك الأم كيف ترضى بها زوجة لابنها بعدما قالته، و لم يستطع ساري خلفها كتم ضحكته و هو يراها تحاول لتنهي زواجها منه ثم اقترب منها يقول بمتعة استفزتها:
-ها قد أخذت رضا أمي فتعالي لتأخذي رضا الزعيم..
أمسك بكفها مقتربا من الحارث ليمد لها الآخر يده لتقبلها..
فيخفيها ساري وراءه آخذا يد والده وقبلها مكانها، ثم تمتم بهمس لم يسمعه غير الحارث:
-ليال لن تقبل اليد التي حملتها وأعطتها لموسى يا زعيم..
فرد ذاك بامتعاض:
-أهلا بك يا زوجة ابني، خذ زوجتك وعرفها على جناحها يا ساري..
تطلعت فيهم بغضب تسأل غير مصدقة برود هذه العائلة:
-هل ستسمحون له بالاستمرار في زواجه مني؟! حسنا إذا اعلموا أني ساعدت في قتل أبي ..
رد ساري بنفاذ صبر بينما يقبض على ذراعها:
-تعالي معي لأريك جناحك، فلا فائدة من كلامك الكل يعلم..
أجبرت على السير معه و هو يجرها بينما تلتفت بخصرها و رأسها للخلف تصرخ به و بهم
-هم يعلمون ولكني لا أعلم، أنا لا أريدك يا سيادة النقيب.. هل تسمع؟! أنا لا أريدك، أنا لا أريدكم...
فرد ببرود بينما يتابع جرها:
-ولا أنا أريدك يا ليال، كل ما أنتظره منك هو أن تستقري في حياتك هنا أمام عيناي..
وصل إلى جناحه وأدخلها   فتأملته لثواني و هو يقف أمام ذلك الباب الذي اوصده يتكأ عليه مكتفا ذراعيه ينتظر الخطوة القادمة من وصلة جنونها فهو يعلم أنها لن تستسلم بسهولة..
جالت بعينيها داخل ذلك الجناح تحاول أن تجد هدفها المقبل ثم اتجهت فورا لغرفة الملابس وبدأت في نزع ملابسه من المعاليق ورميها أرضا بينما تهدده:
-بما انك ترغب كثيرا بهذا الزواج انت و عائلتك و كأن بك عيب ما فتحمل جهنمي التي سأجعلك تعيش داخلها..
و هنا نفذ صبر ساري فاقترب منها بغضب يرد على تهديدها و هو يلوي ذراعها الي الخلف يلصق ظهرها بصدره و هو يهمس بنبرة جادة: إن كنت جهنم فأنا البركان الذي يقذفك نيرانك تلك تعيش بداخلي يا زوجتي فنصيحة مني أخمديها أو احترقنا سويا
أطلقها اخيرا بعد ان سمع أنينها الذي يدل على ألمها من شدة قبضته يكمل بقسوة كي تلزم حدها:
-أقسم لك إن لم تعيديها مكانها بعد تنظيفها وكيها، سأريك الوجه الآخر مني والذي لم تتعرفي عليه بعد...
فتتعطل بعد توعده لها لغة الكلام وتجن لغة العيون، وسهام التمرد تقذف من داخل مقلتيها ولو كانت حقيقة لأردته قتيلا..
جلس على فراشه يستحثها ببرود:
-هيا ابدئي يا زوجتي المتمردة
فابتسمت له ببراءة تخفي خلفها وجها اخر وبدأت بجمع ثيابه ثم اتجهت بهم ناحية الحمام تغلق الباب خلفها..
تمدد قليلا باسترخاء و قد رسمت على شفاهه ابتسامة النصر و الراحة فاليوم حقق ما سعى له منذ سنوات عادت لياله الى بيتها و عائلتها حتى ان كانت لا تعلم، بينما تلك في الداخل تقلب بين كل الأغراض الموجودة، لتقفز بسعادة وهي تجد ضالتها... افترشت قميصه لتجلس عليه وتبدأ في مهمتها..
انتبه على خروجها بعد وقت فسألها بصوت ناعس:
-هل انتهيت..
أجابته بثقة تطالعه بنظرة بريئة براءة الذئب الذي خدع ليلى:
-أجل، لا تقلق ملابسك الآن أصبحت أجمل مما كانت..
تعجب ردها فتركها ودخل  الحمام ليرى ما أنجزت، وقف يحاول استيعاب أن تلك الكومة التي أمامه كانت ملابسه منذ دقائق قبل أن تدخل تلك المخادعة جناحه، فقد تحولت إلى قطع صغيرة متكومة فوق أرضية الحمام
و بنبرة حادة تحمل بطياتها تهديدا مبطنا هتف بها يعلن حربه عليها: لقد أنهيت نفسك، ستدفعين ثمن هذا يا مجنونة..
فردت تضع يديها بخصرها ترفع حاجبها و رأسها بكبرياء:
-هذا قليل من كثير سأفعله بك يا سيادة النقيب...
اقترب منها متبخترا يرسم ابتسامة متلاعبة على ثغره ثم امسك خصلة من شعرها يتلاعب بها يلفها حول اصبعه يسألها بنظرة مظلمة أطرقت هي على اثرها تبتلع ريقها:
-هل هذا تهديد يا ليال؟!
-هل انت بقدر هذا التحدي؟!
و رغم خوفها تطلعت به بتردد و عتب تأسره بسوداويتيها التي لا تعلم أنه اسير ظلامهما لسنوات ترد بقوة مزيفة:
-أنا لا أخافك سيادة النقيب، و أجل أنا لن أتراجع عن ما قلته..
ابتسم ساخرا يقزم منها بينما اصبع السبابة ينزله و يرفعه و كانه يقيسها:
-أنت! ستجعلين من حياتي جحيما؟!
قطع كلامه يوافقها بإماءة من رأسه:
-حسنا إذا ما دمتِ قد أعلنتِ الحرب، فلا تبكِ مثل الأطفال لاحقا..
ثم ابتعد عنها ينظر لتلك الكومة التي كانت قبل وصولها ملابسا باهظة من مختلف الماركات العالمية، بينما هي تسترق النظر له بتوجس تنتظر ما سيفعله بها و في رأسها تتخيل أقسى المشاهد..
-تعالي..
كلمة واحدة جعلتها ترتعد رعبا....
هل سيضربها؟! أم سيعتدي عليها؟!
كل ما تصورته بدخلها انعكس على خارجها فقد اصفرت بشرتها من خوفها...
بينما هو يتطلع بها و لم يفته ارتباكها و لا يديها التي تكورهما بتوتر ترمش بسرعة بجفنيها كمن سيقاد لمذبحته..
تنهد بأسف عليها و على نفسه فقلبه تمرد عليه يعلن شفقته على ابنته فهمس يدعي الجدية:
قلت اقتربي ولا تخافي كل ما في الأمر ستعيدين ثيابي لما كانوا عليه قبل أن تتلفيهم..
توسعت حدقتيها لا تستوعب قصده تسأله بذهول: كيف؟! لقد تحولوا لقطع صغيرة!!
هل جننت؟!
-تأدبي يا فتاة ، أنا زوجك..
نبرته الصارمة و صوته الهادر جعلاها تتراجع للخلف..
فاجتاز هو ما يفصله بها من مسافة يمسكها من أذنها بلين من دون أن يؤلمها يقودها للحمام ليردف آمرا:
-هيا اجمعي هذه القطع، والآن..
ردت بنبرة طفولية رغم انها لم تعش تلك الطفولة المسلوبة:
-وإن لم أفعل؟
فابتسم بخباثة يخيفها بينما يتركها:
-لا بأس، وقتها سنمزق الثياب التي ترتدينها وتبقين دونها أمامي..
احمر وجهها من شدة الخجل والغضب لتنحني تجمعهم وهي تشتم صاحبها في سرها..
تكلم يحاول ان يكون جادا بينما يمسك ضحكته فليس هناك من بسعادته و هو يراها امامه سالمة لا يستطيع غيره أن يؤذيها يعاهد نفسه أن يحميها مهما حصل:
-ضعيهم أرضا في الغرفة...
ثم غادر ليعود لها بعد دقائق يحمل كبة خيط كبيرة و ابرة وضعها امامها ينظر من خلال ثقبها اليها يقول بتسلية:
-لا حرمنا الله ست الكل فهي لا تتخلى عن عادتها..
ثم اردف بابتسامة استفزت تلك الواقفة امامه تنظر له بحقد:
أخيطي هذه القطع و كوني منها سجادا ثم افرشيه بجناحنا للذكرى كي أضمن ألا تعيديها..
رافق كلامه بفتح كفها يضع بهما تلك الابرة و الخائط وانصرف تاركا إياها تنظر لكومة القطع التي خيل إليها أنها بعلو جبل من شدة تعبها بعد يومها المليء بالتغيرات، ولكنها تفضل هذا على تمزيقه لثيابها فهي لا تأمنه وتخاف أن يكون تهديده جديا..
مرت الساعات وهي تحاول دون جدوى تلعن تمردها الذي أوقعها بهذه الحالة، تتمنى من قلبها ألا يصعد إليها تكاد تبكي وهي تشعر بالنعاس والتعب لكنها استمرت إلى أن نامت فوق الأرض دون أن تشعر..
فتح باب جناحه، يحمل بيده مجموعة من الأكياس بها بعض الملابس له ولتلك المجنونة التي قلبت حياته..
فوجدها نائمة أرضا وتلك القطع منتشرة حولها.. اقترب منها بهدوء يتأمل تلك التي عاش حياته يفكر بها وهي طفلة  و هي مراهقة و الآن وهي أنثى فاتنة يتذكر سؤال عمه راشد:
-لماذا تزوجتها؟ و رده لأحميها..
يتساءل هل حقا تزوجها ليحميها؟ فالحقيقة حتى هو لا يعرف إجابة ذاك السؤال، كل ما يعرفه أن ليال قد سيطرت على حياته من ليلة ولادتها تلك..
وهو طفل راقب موسى ليستغل فرصة ذهابه إلى المقبرة ليدخل ذاك البيت ويراها وهي نائمة فيطمئن قلبه.. رآها ايضا مرة وهي تحبو، وبعدها تفاجأ بها تمشي أول خطوات لها رفقة موسى في الخارج، رآها وهي تجلس قرب البيت وحيدة تراقب الأطفال وهم يلعبون، وعندما صار شابا أصبحت رؤيته لها صباحا عادة يومية لم يتخلف عنها إلى ذلك اليوم الذي اختفت فيه، فأمضى عامين بالبحث عنها ليعاود بعدها العناية بها في فترة سجنها وهي مراهقة، وها هي اليوم صارت أنثى متمردة وزوجة له في بيته.. لا يذكر يوما أن أنثى غيرها شغلت تفكيره وكأن وجودها أعمى عيناه عن رؤية غيرها، هو لا يعرف اسما لمشاعره نحوها ولكن الذي يعرفه أن هذه النائمة الآن هي ابنة قلبه لا يهم من أباها ومن عائلتها، المهم لديه أنها صغيرته والآن أصبحت زوجته أيضا...
ابتسم بدفء لينحني رافعا إياها بحضنه يضعها برفق على فراشه فتكورت تجمع ساقيها و هي تضع كفيها بينهما و خصلاتها السوداء تمردت فأخفت عنقها الطويل عن عينيه بدت لعينيه أنثى مغرية و هو رجل بدماء حارة و لأنه ساري الذي لا يسمح لغريزته بالسيطرة عليه  غادر جناحه ليرى تلك الأخرى التي تعتكف في غرفتها وترفض الخروج منها..
طرق باب جناحهما ففتح ماهر و رحب به و شوقه لتلك لم يستطع اخفائه و هو يسأله بلهفة:
-كيف حالها الآن؟
ابتسم لتتحول ابتسامته لقهقهة و هو يتذكر مشهد ثيابه يشكي له حاله:
-اسألني عن حالي أنا، فأختك قد أعلنت الحرب اليوم وأول ضحاياها كانت ملابسي..
نظر إليه مستفهما، فابتسم ساري يفسر بشفقة على نفسه:
-لم تترك لي قطعة واحدة، مزقت كل ملابسي لقطع صغيرة..
ضحكة رنانة قاطعتهما ابتسم على اثرها ماهر فهو لم يرى ابتسامتها لسنوات بينما هي تقفز من الاريكة تحادث شقيقها:
شوقتني أكثر للتعرف اليها أخي..
نظر ساري لماهر بنظرة ذات مغزى ينصحه:
-لا أنصحك باقتراب زوجتك منها، أخاف أن يتفقا وتتحول حياتك أنت الآخر إلى حلبة مصارعة...
فابتسم الآخر يوافقه الرأي بينما كتفت سارة ذراعيها تعبس بملامحها غير راضية عن ما قاله فاقترب منها يقبل رأسها يردف:
-لقد نامت الآن حبيبتي غدا تعارفا فالأيام قادمة يا بنات الهاشم 
………………
يقف بسيارته أمام منزل والده، يتذكر يوم طرد منه..
لقد صدق والده أنه رجل لا يمتلك شرفا، تنفس بقوة يخرج ذاك اللهيب من صدره، يقسم أنه لن يرحم أحدا فهم لم يرحموه لا هو ولا هي.. حكموا عليه بالنفي من قبيلته ليكملوا حكمهم وينهوا حياتها..
ترجل من سيارته وطرق باب منزلهم الحجري القديم
ففتحت له أخته كوثر التي تطلعت به بذهول تحول لبرود و هي تقول:
-أبي ينتظرك أدخل إليه.. ابتسم بألم فها هي أخته تحقد عليه وتلومه لموت أمه قهرا عليه، تركها ثم اتجه نحو غرفة والده ليأتي اللقاء بعد سنوات طويلة من الفراق...
..............................
ألا ايتها الليلة السوداء. أما لك من آخر سرقت العمر منا ولا نجد لنا مفر ليال ذهبت عنى وأنا للحسرة أجتر
لم اترك في البحث عنها سبيلا أو دربا فمال أيامنا تسقينا من المآقي دموعا
وتلك البريئة تنشق الارض عنها يوما مكبلة اليدين تقطران دما...
يا ويح قلبي..
لقد نحرها من هم لي قوما..
أتركنا الفتاة تقتل وحشا انتهكها ثأرا..!؟
شيطانا أثيما ترعرعت ببيته تعانق أشباحا مقبرة وهو من احتوى رفات ليال غير مبال
لم تهنأ يوما ولم تكن لها آمالا
حتى أرداها كيس السعادة بين يدي شيطانا طفلة بريئة لا تدرى ما اعتراها هذا أباها فلماذا ينهشها بلا ضميرا..!؟
واليوم اراكي صبية متهمة مأسورة..
فكيف يشم رأسي الهواء وقد بت مغدورة؟!
ذنبك موصولا برقبة من توهموا بأنهم اشرافا وسادة
هم القتلة وليس أنت أيتها الصبية الوضاءة خسئ السادة يا عالية القامة فانت لك السيادة فهم من بليلة ظلماء ألقوك لأكثر القوم وضاعة و الآن أعدك يوما ما ستودعين الظلم وترفعين الهامة
من ساري لليال
بقلمي..شيزو
~نهاية الفصل السابع~
*دمتم برعاية الله*
~نادين لطفي
**********************
رواية ميدوسا ابنة الظلام
نادين لطفي
الفصل الثامن
أيام صعاب سرقت من تلافيف العمر جله؟ فما كان هناك من يعيدها.. وتلك الآلام لازالت تنسكب كنهر جارف لا تجف منابعه ولازال يغرق مدن الأحلام ويطمس هويتها..!
~نورهان الشاعر~
"الظلم أنواع والبشر الذين يسلط عليهم كذلك متنوعون بردة فعلهم، فمنهم من ينتظر أن يرفعه الله عنه، ومنهم من يسعى لرده بأقسى الطرق.."
وأصعب أنواع الظلم عندما يتخلى عنك أقرب الناس إليك ويصدقون عنك ما ليس فيك.. عندما يتم نبذك من حياتهم وكأنك لم تكن يوما موجودا!...
أحمد الهاشمي المذنب البريء الذي دفع ثمن حبه لابنة الهاشم..
والذي دفع ثمن شهامته وهو ينقذها من بين يدي حيوان على هيئة بشر، أحمد هو الشاب العاشق الذي تم رفضه في كل مرة يتقدم فيها لنيل حبيبته ولكنه لم يفكر يوما في أذيتها..
عائلته هي الفرع الأضعف في القبيلة فهم ليسوا من الأثرياء ولكنه كان طموح قرر أن يساعد أهله الذين لا يملكون غيره هو وأخته كوثر و نجح في ذلك ولكن للحياة رأي آخر فهي جعلت منه مذنبا لذنب لم يرتكبه، طرد وأهين ليفقد زوجته وهي تلد وبعدها أمه قهرا على ما أصابه وبعدها بتسعة أشهر يفقد تلك الحبيبة و من ثم يفقد نفسه لتتحول روحه لروحا مشوهة بالأحقاد.. حينها أقسم على جعلهم يدفعون ثمن ما عاشه حاول ولكنه فشل وها هو يكرر المحاولة مرة أخرى وكله تصميم ألا يفشل حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك..
وقف أمام والده الذي بان عليه التعب و قد فقد الكثير من الوزن و صارت عينيه القاسيتين عميقتين يحيط بهما السواد، نائم على سريره الصغير فاقدا لقوته التي يفخر بها رجال القبائل يتطلع فيه بنظرة مذنبة تطلب منه العفو لترتاح روحه قبل أن تغادر جسده الهزيل فيقابلها بنظرة عاتبة غاضبة لا ترحم و لا تغفر..
تقدم يحمل المقعد الذي كان بجانب الحائط و جلس أمام سرير أبيه يصمت لثواني تساءل خلالهم أيهما أسوأ المرض أم الموت أو حياته هو التي لا يوجد بها إلا الأحقاد..
سأله ببرود ليس مصطنع فمن مثله فقد المشاعر و تحجر داخله ذلك النابض:
-ما سبب استدعائك لي يا أبا كوثر؟
سالت دمعة ذلك العجوز تعلن انتهاء عهد جبروته يرد عليه بصوت متقطع يحاول أخذ نفس ما بين كلمة و أخرى :
-أردت رؤيتك قبل موتي يا أحمد..
ابتسم ساخرا و سأله و هو راغب بشدة أن يسمع ندمه ليس لشيء سوى تعويضا عن ذلك اليوم الذي لم يقبل أن يسمعه :
-هل تخاف أن تكون ظلمتني يا حاج أمين؟
وهنا لم يستطع العجوز تمالك نفسه فخرت منه تلك الآه تعبر عن كمية الألم التي بداخله و رد بتعب:
-أتعلم أن بداخلي أمنية أن أكون ظالما، قلها يا أحمد، قل أنك لم تدنس شرفنا في الأرض طمأن قلب هذا العجوز بني ..
-هل سأحاسب بني لأني صمت عن قتلهم لها.. 
تطلع فيه بألم ثم رد بحقد لا يرغب بمنحه الراحة التي ينشدها منه:
-بلى يا أبا كوثر دنسته، حتى أني اكتشفت أن لي منها ابنة..
تفاجأ باصفرار وجه والده و قد اتسعت مقلتيه وحبات عرق بارزة تقطر منه ثم بدأ بالسعال بقوة يحاول أخذ نفسه و لكنه لم يقدر فعلم أنها سكرات الموت تأخذه منه و هو لا يزال يراه مذنبا، وقف سريعا يناوله كأسا من الماء لكي يبل ريقه و لا يمنحه للموت و هو عطشا ولكن ذلك العجوز كان يفقد أنفاسه وبدأ في الارتخاء إلى أن سكن عن الحركة..
فأعاد الكأس لمكانه وكل ما شعره لحظتها هو فراغ يتسع بداخله يتطلع بجسد والده الساكن يرغب بأن يصرخ صرخة الموت ولكن هذا ليس من حقه، فهو رغب بأن يراه معذبا لآخر نفس من حياته فتزيده هذه اللحظة قسوة و جبروتا، مد أصابعه وأغلق جفنيه ثم وضع اللحاف على وجهه ليخرج بعدها لأخته بملامح قد نحتت من حجر يخبرها ببرود:
-اتصلي بأعمامك وأخبريهم عن موت والدك ليفعلو الواجب، فتخرج تلك الصرخة التي كتمها داخله من أخته تنعي والدها..
.. .. .. .. .. ..
و في ذلك المجلس المعتاد للزعيم الحارث اجتمع نخبة من أهالي القبيلة يتناقشون كعادتهم حول بعض المشاكل و يقومون بحلها...
دخل عليهم صقر بملامح  متجهمة ينقل لهم الخبر :
-لقد توفي الحاج أمين يا زعيم..
أخفض الزعيم رأسه بألم يترحم على ذاك العجوز الذي حمل معهم سر ما حصل و هو يقول بأسف:
-إنا لله و إنا إليه راجعون افعلوا اللازم وأقيموا له جنازة تليق بمقامه..
فرد صقر بعبوس يحاول السيطرة على غضبه:
-وصلتني أخبارا بأن ابنه دخل القبيلة وأنه هو من سيتلقى العزاء في أبيه..
تطلع الحارث بصقر بنظرة مهددة أن لا يتهور و رد:
-دعوه إذا وبعد العزاء سنقرر ما علينا فعله..
و هنا تدخل أحد أعيان القبيلة يطالب و يبرر:
-الحاج أمين تعذب كثيرا ببعد ابنه يا زعيم والذي لا نعرف إلى الآن له سببا نبذه وتبرأ منه لسنوات و حتى إن أذنب فأعتقد أنه قد دفع ثمن خطأه غاليا فأرجو منك أن لا تعيد نفيه مرة أخرى، فكلنا كنا نعرف أحمد الشاب ذو الأخلاق العالية وأخته الآن قد بقيت وحيدة وقد كبرت في السن ولم تتزوج أي أنها تحتاجه..
التزم الحارث الصمت فهو لا يجد ردا مناسبا على ما يطالبه به هذا الرجل أمام أعيان القبيلة ثم رد بعدها ينهي النقاش يأخر المحتوم فالقدر قد قال كلمته :
-سنرى ذلك فيما بعد، الآن ليس وقته..
غادر الجميع متجهين للعزاء..
فنهض الحارث و العجز قد بدأ يتمكن منه و قد شعر أن الماضي يعود و بقوة أولا عودة ليال و الآن أحمد الهاشمي ضرب الحائط بغضب من فقدانه للسيطرة ثم التفت لصقر الذي لا يقل عنه قلقا و غضبا يأمره:
-لا تخبر راشد بدخول أحمد، فلا أضمن أن يقوم بتصرف مجنون..
أومأ له صقر يوافقه فغادر بعدها بتعب يدخل قصره يتساءل ماذا يخبئ الغد لهم وما الحكمة في عودة ليال وأحمد بنفس الوقت، دخل جناحه بتعب وجلس على فراشه، فجاءته  دلال مسرعة بعد ان رأته  يمشي و كتفيه متهدلين و كأنه يحمل فوقهما حمل الجبال، سألته إن كان يحتاج شيئا فنظر إليها بألم يهمس بنبرة يأس:
-أحتاج الراحة يا أم ساري..
تأملته بقلق ثم سألته:
-ما بك يا زعيم؟ هل توجد مشكلة؟!
فرد بخفوت و كأنه يحاكي نفسه و هو يتمدد على فراشه يضع ذراعه فوق وجهه يخفي ضعفه عن عينيها:
-أشعر أن الأوضاع تخرج عن سيطرتي ولا أدرِ إن كان هذا ضعفا مني أم أنه قد حان وقت الحقيقة التي ستفتح أبواب الجحيم على الكل؟!
شعرت بالقشعريرة تتملك منها وهي تستمع إليه فجلست جانبه تحاول مواساته..
أمسكت بكفه بين كفيها تواسيه فسألها دون التطلع بها:
-أترينني ظالما يا دلال؟
لم تستطع إجابته ولكن عيناها تكفلتا بذلك وهي تطالعه بعتب وألم لم يراه..
فأكمل مسترسلا و قد فهم من صمتها أنها لا تريد أن تزيف الحقيقة فلطالما كانت عينيها مرآته التي تعكس إثمه:
-أنا حقا آسف على كل ما جعلتك تعيشينه..
و كان ردها عتاب على ما تشعره و هي تعلم أنه لن يغير شيئا لأنه تقصده عقابا له هو قبل ان يكون لها :
-أنا أفتقد زوجي الذي أحببته لقد ردمت مشاعرنا تلك الليلة وجعلتها تذبل بفعل جفاف السنين..
تنهد بعمق يوافقها:
-كنا وصرنا يا أم ساري فعلينا الرضى بما صرنا عليه..
………………..
تجلس بغرفتها تحاول حل ما يمكن حله من الأسئلة التمهيدية فزوجها الموقر لم يفكر أن يجلب لها أستاذ أو تركها تعود لدراستها في إحدى الجامعات والامتحانات لم يعد على موعدها إلا أقل من شهر..
شعرت بالملل من المراجعة فنهضت تقف أمام مرآة زينتها ترفع شعرها لفوق بشكل كعكة و هي تتسائل.. "هل تطلب من ساري أن يجلب لها أحد الاساتذة ليساعدها" ولكنها تخاف ردة فعل ماهر فذلك مؤكد سيغضبه وهي لا تريد أن تكون سببا في تدهور العلاقة بين زوجها وأخيها..
غادرت جناحها باتجاه غرفة أخيها فهي لم تقابل ابنة عمتها بعد ثم طرقت الباب فأتاها ذلك الصوت الأنثوي الرنان بأن تتفضل دخلت فتفاجأت بها تفترش الأرض و حولها كومة من الأوراق الممزقة ترفع خصلاتها بأحد أقلامها الذي ينتهي بقلب في نهايته ترتدي بيجامة سوداء يتدلى أحد كتفيها فيبرز بياض بشرتها و عنقها الطويل بدت لها ساحرة و لكنه ذلك السحر الذي ينبع من هالة الحزن و الغموض التي يحيطانها فرغم ابتسامتها الا أن عينيها كانتا كليلة حزينة تخفي بداخلها أسرارا، تقر ان لعينيها جمالا يفوق كل الأقوال فنظرة منها كفيلة بأن تأسر قلب شقيقها و لم تدري أنه أسير الأحزان داخلهما منذ زمن طويل...
ابتسمت لها تعرفها بنفسها:
-أنا سارة أخت ساري، أردت التعرف عليك..
فردت تدعي التفكير و هي تبتسم :
-وأنا ليال يقولون أني زوجته..
تأملتها تقلب شفتها مثل الأطفال وهي تلاحظ غضب ليال من هذه الحقيقة تعطيها الحق فهي أكثر من يشعر بها ثم سألتها:
-هل تسمحين لي بالجلوس يا زوجة أخي؟
تطلعت فيها تضيق سوداويتيها لا تخفي امتعاضها ثم ردت تساومها بنبرة غلب عليها المرح:
-ألغي زوجة أخي وسأسمح لك..
فرفعت الأخرى كفيها باستسلام تضحك و جلست أرضا تشاركها جلستها ثم قالت بنبرة جادة بينما تتكأ على كفها و تثني ركبتيها:
-وأنا أيضا متزوجة وليس لي رغبة بذكر تلك الحقيقة..
تعجبت ليال مما سمعته فسألتها ترفع حاجبيها بذهول لم تستطع إخفائه:
-هل استغفلوك أيضا؟!
أنعمت براسها و ردت و ابتسامتها تعلو ثغرها:
-أجل زوجوني وأنا لا زلت رضيعة من ابن عمتي، أظن أنك تعرفينه فقد علمت أنه كان محاميا لك..
هتفت ليال تتأفف بتذمر:
-أخت ساري وزوجة ذاك المحامي ماهر، أعطيني سببا واحدا لأحبك يا فتاة..
فضحكت سارة بخجل تحاول  اقناعها بمنحها السبب:
-يكفيك أنني في صفك وليس في صف أخي، ثم أنا تزوجت ماهر دون رغبة مني لأني كنت رضيعة ..
فتطلعت بها بشفقة تسألها:
-ما قصة هذه العائلة مع الزواج من دون أخذ رأي الزوجة، هل هي عادة لديكم؟
قاطع حديثهما طرق دلال على الباب تسأل:
-هل يمكنني الدخول يا زوجة ابني؟
فلم تستطع سارة امساك ضحكتها على تعابير ليال اليائسة وهي تسمع نفس النعت من أمها تجيب بمرح عوضا عنها:
-أدخلي يا أمي فليال لن تسمح لك بعد نعتك لها بزوجة ابنك..
ابتسمت دلال و هي تفتح الباب ثم وقفت ترمق تلك الفاتنة التي دافع عنها ابنها وكاد يقف في وجه أبيه لأجلها بنظرة حنونة موجوعة..
لم تتعجب حسنها فالتي أمامها قد أخذت الكثير من أمها حور التي اشتهرت بجمالها، انتبهت من شرودها على صوت سارة توافقها و قد فهمت نظرة والدتها:
-معك حقا أن تتأمليها فليال فاتنة يا أمي..
اقتربت منهما ثم وضعت كفها على شعر كنتها و لسانها لم يستطع الصمت عن رغبتها:
هل تسمحين لي بمعانقتك يا ابنتي..
ابتلعت ريقها فهي ليست متعودة على الاهتمام أو أن يغمروها بالحب و لكنها وجدت نفسها تومأ لها موافقة و كأنها تنتظر ذلك الحضن منذ طفولتها... نهضت و اقتربت منها و أصابيعها يعيدون خصلات تدلت إلى  خلف أذنها بارتباك تريد ان تجرب حضن الأمهات فهي لم تجرب حضن امرأة بسن والدتها سابقا فوجدت نفسها فجأة في حضن سيدة الدفء و الحنان تضمها إليها بشوق فالتي بين ذراعيها هي ابنة الغالية رفيقة دربها أختها تشعر أن حور عادت إليها فلم تتمكن من امساك دموعها التي سالت و هي تنظر لابنتها التي فاضت مقلتيها تأثرا بما تراه فهما يعلمان و هي لا تعلم...
مسحت وجنتيها بخفية ثم تركتها و الغريب أنها وجدت دموع ليال تسيل بفيضان و قد تجمدت مكانها تتسأل ما الذي يحصل معها و لما تأثرت لهذا الحد..
اقتربت منها تلك الام الحنون تجففها لها بابتسامة صادقة تعدها بصمت أنها ستكون لها الأم و العوض...
ثم حاولت بعدها ان تدعي الجدية و هي تقول بنبرة صارمة لا  تشبهها..
-هيا الإفطار جاهز والعائلة ستجتمع الآن...
تأففت سارة بضجر بينما ردت ليال:
-لا أرغب بالنزول سيدتي، هلا عذرتني؟
اقتربت منها تأنبها برفق:
-هل بعد عناقنا ستناديني سيدتي هذا لا يروق لي صغيرتي ناديني امي أو خالتي إن شاء الله حتى دلال و لكن سيدتي هذه لا أريد سماعها ثانية...
فابتسمت بحرج توافقها بينما أكملت دلال تحثهما:
-هيا لديكما أزواج لا يجب إهمالهما، فأنا وبهذا العمر لا أذكر أني أهملت الحارث يوما.. كفاكما دلع هيا لأرى أمامي..
ضحكت سارة على أمها التي تدعي القسوة لتزين الابتسامة ملامح الأخرى وفي داخلها ألفة نحو هذه السيدة من لحظة ترحيبها بها وهي تهاجمهم..
في الأسفل جلسن ينتظرن عودة رجال العائلة من الجامع عدا ساري الذي أخبرتهما دلال انه تعود على الذهاب لعمله بعد الصلاة و لكنهن تفاجأن به يعود رفقة والده و أعمامه من الجامع فالمشوار قد ألغي و لم يعد له داعي.. قبل كف والدته فهو لم يراها كعادته باكرا ثم جلس بجانبها يضع ذراعه على كتفيها يقربها منه و هو يقبل جبينها امام ذهولها و صمت البقية... سألها وبصوت خافت و نبرة شامته لما جعلها تعانيه:
-هل ارتحت بنومك ليلة البارحة؟
فأومأت له و قد شعرت رغما عنها بالدفأ يتسلل داخلها من الاهتمام الذي لاقته رغم أنها فهمت مقصده فهي حتى لا تعلم كيف انتقلت للفراش.. ابتسامة ارتسمت على ثغرها رغما عنها وهي تتذكر ثيابه التي صارت سجادة تفرش على أرضية الجناح..
أنهوا إفطارهم ليجلسوا في قاعة الجلوس كالعادة وتوزع السيدة دلال القهوة فهي تحب هذه العادة رغم وجع ركبتها تساعدانها سارة و ليال 
تبادل الجميع الحديث الذي تنوع ما بين جديد الأعمال لديهم والمزاح الثقيل بين ساري وماهر..
جلست ليال بجانب دلال تراقب تلك العائلة تتساءل لمَ رضوا بها كنة؟
فبداخلها تعترف أنها لو ظلت تتخيل أن يكون لها عائلة وزوج لما استطاعت أن تصل بخيالها لهذه الصورة التي تراها الآن..
استهزأت من أفكارها تتساءل هل أخيرا قررت الحياة منحها كل شيء وبهذه السهولة؟!
هل حقا انتهى كابوسها و ستحيا بفرح في ظل حياة طبيعية...
تطرق ساري لموضوع دراستهما هي و سارة فقاطعه الحارث يفرض قراره بحدة:
-ستدرس هنا، أجلب لها ما شئت من الأساتذة ولكن أريدها أمام أعيننا..
قطبت ليال حاجبيها بضيق ثم قالت ببرود فطاقة هذا الرجل تجعل المكان الذي يتواجد فيه مشحون بالتوتر:
-عفوا منك ولكن هذه حياتي ولا أرغب بأن يرسمها لي أحد..
فزجرها ساري بقسوة يرمقها بنظرة حادة :
-أظن أني موجود يا ليال و استطيع الرد فلا ضرورة لتمردك هذا..
نهض الحارث و هو يتذمر غير راضي عن قلة الادب التي يراها:
-الواضح أن بنات هذه العائلة لم يعد لديهم احترام للكبير،  بداية من أختك لزوجتك لا أعلم أي نوع من الرجال أنت وماهر..
ثم انصرف بينما ردت ليال تضرب بما قاله ساري عرض الحائط :
-ولكني لست ابنة هذه العائلة..
فأمسك ماهر ضحكته على أخته التي تقصف ولا تبالي و هو يتطلع بساري يبلغه بقراره أيضا:
-كلام والدك هذه المرة منطقي، دعها هي وسارة تتابعان الدراسة من المنزل..
و لأنها لم تتعود على أن تصمت و تنتظر من الغير الرد مكانها نال ماهر نصيبه منها و هي تهتف به باستنكار:
-يكفيني سجنا أريد أن أخوض الحياة الطبيعية، فلا تتدخل يا حضرة المحامي وأنصحك ألا تحرم زوجتك من حق مواصلة دراستها خارجا فهي ليست سجينة لديك..
ابتسمت سارة بألم وهي تتابع ردود ليال القوية و تطلعت بماهر فلا أحد يعلم للآن بسجنه لها أربعة سنوات فتهرب بعينيه منها يتجاهل عتابها الصامت فيكفيه كلام شقيقته..
بينما ضحك ساري رافعا حاجبيه لماهر بمعنى هذا نصيبك من القصف فلا تعترض..
فعبس يقول بضجر:
-كل ما أعرفه أن سارة ستكمل دراستها من القصر، فقرر أنت يا ساري ما يخص زوجتك فالظاهر أنها لن تستمع لرأي أحد غيرك..
أخفض ساري رأسه يفكر إن كان والده يعلم شيئا هو لا يدرِ به فالأسلم إذا أن تدرس في القصر إلى أن يتأكد ويتضح ما يخفيه والده و يطمأن ..
نظر إلى ليال يخبرها بينما ملامحه تحمل بقايا ضحكة قد اعدمتها هي من على ثغره:
-حسنا، مؤقتا ستدرسين هنا وفي السنة القادمة سنعيد التفكير في هذا الأمر..
فنهضت بغضب تسأله من دون خجل من الجالسين :
-هل أنا مسجونة يا حضرة النقيب؟!
رد ببرود يتملك منه عندما يرى تمرد من أمامه:
-لا، ولكن إن استمريت بقلة أدبك فأجل سأسجنك يا ليال..
ثم نهض و غادر منهيا ذلك النقاش فالظاهر أن زوجته لم تفهم بعد من يكون زوجها و كيف عليها الصمت عندما يجب عليها ذلك و لكن الأيام قادمة و سيعلمها تدرجيا كيف تتصرف فهو لا يقدر على لومها و لم يوجد في حياتها من ينصحها كيف تتعامل عندما تتزوج..
تركت الجلسة على إثره بغضب تخرج للحديقة التي يجلس في شرفتها راشد يحتسي فنجان قهوته وحيدا بعد أن أنهى افطاره مفضلا عدم الانضمام لجلستهم، فاقتربت منه تلقي التحية ولكنها تفاجأت بقيام الآخر يرد السلام بصوت خافت ثم ينصرف بسرعة و كانه يفر منها..
رفعت كتفيها بغير مبالاة و هي تتابع خطواته السريعة ثم جلست مكانه فانتبهت إلى تلك الصورة التي أوقعها اثناء مغادرته  ظلت تتأملها و هي تتعجب الشبه الذي بينها وبين تلك المرأة في الصورة فتمتمت بخفوت و قد ظنت ان لا أحد يستمع لها:
-هل لهذا السبب هرب مني لأني أذكره بها؟!
و لكن ماهر الذي تبعها رد عليها و هو يطالعها تحمل صورة والدتها بشفقة:
-هذه أمي ماتت منذ سنوات..
نظرت إلى الصورة بحزن و سألت ترمقه بفضول و قد تناست غضبها منه مؤقتا:
-هل ماتت وهي بهذا العمر؟
فأومأ لها  "بأجل"
فشعرت بالألم بداخلها نحو ذلك الرجل الذي ترك لها المكان قبل قليل و الشفقة على تلك الحسناء التي تمسك صورتها... 
بينما أكمل ماهر و هو يجلس على المقعد مقابلها:
-هل تعلمين أنك تشبهينها كثيرا..
فأومأت له مقرة:
-لاحظت هذا ولكنها أكثر جمالا مني، ما اسمها؟
فأجابها بحسرة:
"حور، اسمها حور"
قطبت حاجبيها تحاول تذكر أين سمعت ذلك الاسم ليعود لذاكرتها مشهد القاتل وهو يقتل موسى قائلا (أنت السبب في مقتل حور)
شردت و قد بانت الحيرة على ملامحها تفكر بصدمة حور وبنفس قبيلتها وميتة أو ربما مقتولة؟!
و السؤال فرض نفسه عليها فتطلعت فيه تحاول نفي شكوكها:
-كيف ماتت؟
تفاجأ ماهر من سؤالها فأجابها يحاول أن يخفي الحقيقة دون الكذب عليها:
-كنت مسافرا، لا أعلم يا ليال..
فرفعت حاجبيها غير مصدقة تضيق سوداويتيها:
-ألا تعلم كيف ماتت أمك؟! رد يتهرب فقد حاصرته بأسالتها و قد علم انها لم تصدقه :
-كنت طفلا و سافرت حينها لذلك لا أذكر الكثير..
استنكرت إجابته و لكنها لم تحاول أن تستعلم منه أكثر فالواضح لديها أن هناك ما يخفيه عن موتها و هذا جعل شكوكها تتفاقم..
فترتكه مكانه متعجبا ردة فعلها وهو يراها تغادر..
دلفت إلى جناحها و أغلقت بابه ثم جلست تفكر قليلا في الصدف الغريبة التي تحدث معها و قد بدأ ما عاشته يمر أمام عينيها كانه فلم..
بداية من كيس السعادة من ذاك المجهول و الذي جلب لها ساري نفسه بزنزانتها...
تذكر تعجبها من معرفته لتفاصيلها و كأنه يعرفها...
تذكر ذكر ذلك القاتل لأسم حور عندما قتل موسى...
و ذهولها أن زوجها هو ابن قبيلتها...
تحاول فهم زواجه منها الغير مبرر من دون أن يطالبها بأي مقابل...
و أخيرا قبول عائلته التي تعلم ماضيها المخيف و ترحيبهم بها...
فشعرت أن الأفكار بداخلها بدأت تتزاحم و أن رأسها سينفجر و قد بدأ النبض لديها يتسارع، نهضت مسرعة للحمام تغسل وجهها بالماء البارد علها تستوعب ما يحدث، تطلعت بانعكاسها على مرآة الحمام بينما تمسك الحوض بشدة تتنفس ببطيء كما نصحتها طبيبتها عندما تكون بلحظات صعبة ثم عادت للغرفة و فتحت الدرج بالمنضدة التي جانب السرير الذي خبأت به تلك الورقة و أمسكت بهاتفها تتصل بذاك الرقم ثوان استمعت خلالهم للرنين ولكن صاحبه لا يجيب..
فأعادت الورقة لمكانها و سجلت الرقم بهاتفها ثم ألقته و تمددت على فراشها تقنع نفسها أنها مجرد أوهام او مجرد صدفة و لكنها لم تستطع منع نفسها من أخذ الهاتف ثانية و هي تفكر بمعاودة الاتصال فمؤكد سيفاجئها صاحب الرقم بأمر ما و قد سيطر عليها فضولها كما توقع ذاك الذي يرغب بقلب حياتهم لجحيم..
و من شدة استغراقها بالتفكير لم تنتبه لساري الذي وقف بقربها يتطلع بذاك الرقم الغير واضح من بعيد..
انتفضت اثر سؤاله المفاجئ:
-رقم من هذا؟
فتمالكت نفسها وأجابته تدعي البرود و هي تتطلع به و لم يفتها مظهره و هو يرتدي طقم عمله الذي زاده رجولة و فخامة :
-شيء خاص بي..
ثبت عينيه عليها لتشعر بالارتباك أكثر ويحمر وجهها، فضيق عينيه يسألها:
-ولمَ أنت مرتبكة؟
فتأففت بغضب تهاجمه كي تداري ما بداخلها:
-لقد انتهت أيام تحقيقك معي سيادة النقيب، فلا تتعامل معي كأني متهمة،  ثم ألم تذهب قبل قليل لعملك لمَ عدت بهذه السرعة؟!
ودون ان يحيد بنظره عنها رد و لم يفته تهربها فهو خبير و لا يمكن خداعه و لكنه فضل تأجيل الأمر...
-لم أرد أن أتركك غاضبة، فأجلت عملي .. فربما ترغبين بالخروج قليلا...
تفاجأت من تفكيره بغضبها فهي لم تتعود أن يراعي أحدا ما تشعر به و شعور بالذنب تسلل لها فابتسمت له بحماس تسأله و قد نهضت لتجلس تربع ساقيها و هي تتوسط الفراش:
-هل يعني هذا أن أجهز نفسي؟
فرد و هو يتجه إلى الحمام..
-معك خمسة دقائق..
هتفت بحماس أكبر و قد نهضت تقف أمامه تشير لثيابها:
-بل أنا جاهزة..
التفت يتأملها مقيما ثم سألها باستنكار و هو يشير لها بإصبعه:
-هل ستخرجين هكذا؟!
فأومأت برأسها تأكد له و لم تعجبها نظراته المستهجنة: "أجل"
فعاد يمسك كفها و يجلسها ثانية بجانبه يحاول ان يقنعها و هو يخاطبها بكل لين:
-ليال هناك بعض الأشياء عليك تغييرها..
فردت بفتور و قد زال حماسها تقطب جبينها تحاول أن لا تتأثر بقربه و رائحة عطره ديور الذي اختلط برائحته الخاصة فسلب منها القدرة على التركيز أو التمرد و كل ما استطاعت التفوه به:
"مثل ماذا؟"
فرد بنبرة جادة:
-مثل ملابسك، تذكري أنك متزوجة وتحملين اسمي وهذه الملابس لا تناسب وضعك الآن..
فنظرت إلى نفسها ترغب برؤية السيئ في هيئتها..
كانت ترتدي بنطلون جينز بلون أسود و قميص أزرق  بالكاد يصل لخصرها يظهر مفاتنها ببذخ غيرتهما قبل نزولها صباحا مع دلال..
بينما أكمل ساري يستفسر:
-ثم أنا قد جلبت لك بعض الملابس، لمَ ترتدين ثيابك القديمة؟!
فردت بعناد تتقنه و هي ترفع رأسها تعلن تمردها:
-أنا أحب تلك التي تقول عنها قديمة ولا أرغب بتغييرها، ثم الذي جلبته لي لم يعجبني منه شيئا لم أتعود على ارتداء الفساتين..
و لم تعلم أنها إن كانت هي تتقن العناد فالذي امامها هو من اخترعه و الرد منه كان حاسما ينهي النقاش يحاول ان لا يرعبها منه فيكفيها ان أول لقاء بينهما كان كارثي: 
-ستتعودين لا تقلقي، ثم إن أردتِ الخروج فلا حل أمامك إلا اختيار شيء مما جلبته لك..
أدركت أن أول مشوار لها للمتعة سيطير من بين يديها بفضل عنادها فاستدركت أمرها توافقه بقهر و قد انقلب حماسها لاستياءا منه:
-حسنا أمري لله، سأبحث فيهم عن شيئا يصلح لارتدائه..
بعد ربع ساعة كانت تجلس بجانبه في السيارة تتكأ على النافذة تراقب خضار قبيلتها الذي يمتد على مد البصر يزين ذاك الخضار ألوان زاهية من الورد إضافة الى الطيور التي زينت فضائها و تلك الخرفان ذات الفرو الأبيض ترعى عانقتها الطبيعة بسحرها الذي تسلل لداخلها يمنحها الطمأنينة و السعادة بكل سخاء..
فتساءلت بداخلها لمَ لم ترَ هذا الجمال وهي ابنة هذه القبيلة.. تذكر أن طوال مكوثها فيها لم ترَ إلا القبور!..
فشعرت انها ترغب بشكره تطلعت به تميل رقبتها بامتنان..
-شكرا لك، كنت بحاجة للخروج..
خرج صوتها هذه المرة دافئ يحمل تأثرها بما فعل فابتسم بدفء و رد و هو يعاود النظر إلى أمامه:
على الرحب و السعة، توقعت ذلك وهذا طبيعي بعد الذي مررتِ به..
فردت تشرد مرة أخرى تراقب الخيول التي انطلقت بسرعة تطوي ذلك الخضار تحت قوائمها تذكرها بحريتها:
-تقصد أني كنت سجينة وكل السجناء يشتاقون للحرية، لمَ لا تقولها أم أنك تستصعب أمر أن تكون زوجة النقيب لديها ماض إجرامي..
ضحك ساخرا و هو يعيد ما قالت بنبرة مستنكرة :
ماضٍ إجرامي!؟
ثم فجأة أوقف السيارة والتفت إليها يدير رأسها بأصابعه كي تواجهه و تفهم ما سيقوله فتطلعت بعينيه حيث تشعر انها تنتمي و لا تفهم لماذا بينما تكلم هو و كل حرف من حروفه يترسخ بداخلها:
-أولا زوجتي دافعت عن شرفها وهي طفلة، وهذا يفرحني حتى إن لم تكن الطريقة صحيحة ولكن الغاية واحدة..
و ثانيا أنت لست مجرمة يا ليال، وأنا أميز المجرمات جيدا بحكم تعاملي معهن..
ثالثا لم يرغمني أحدا على الزواج منك ولو لم أرَ أنك تستحقين أن تكوني زوجتي ما أقدمت على ذلك..
رابعا و هو الأخير أنظري لتلك الخيول.. السوداء هي فرس جامحة لا تسمح لأحد بالركوب عليها و للآن يحاولوا كثيرون ترويضها و لكنهم لم ينجحوا أتعلمين تشبه من يا زوجة ساري بجموحها و لم يحتاج ان يكمل لأنها انعمت براسها و قد سال دمعها على خديها..  
رغبة في الارتماء في حضنه احتلتها، تشعر أن قلبها و في هذه اللحظة بدأ يعلن انتمائه لصاحبه الذي لطالما هربت لسنوات من سحره فإن كانت هي الفرس فهو خيالها الذي لن ترتضي دونه ..
سمر كانت دائما تمنحها القوة وتثني عليها ولكن أن تستمع لذلك من شخص كساري بدا لها مختلفا، فكل فخر بها سمعته في نبرة صوته ورأته بعينيه قد أمدها بثقة أكبر بنفسها فهو ببساطة أراها ليال الطفلة الصغيرة التي حاربت كي لا تفقد نفسها...
ترددت قليلا ثم قررت البوح:
-ساري الذي قتل موسى ليس نفسه الذي حكم!!!
تفاجأ بالسر الذي باحت به لكنه تمالك نفسه كي لا تتراجع عن ثقتها فيه فسألها يدعي الهدوء و هو يتذكر شهادتها أمام القاضي:
-أنت متأكدة؟
أومأت تكمل إخباره ما تخفي فهي باتت تعلم ان الذي أمامها حقيقتها الوحيدة التي مهما كانت صعبة لن تتغير..
-أجل، ولكني خفت منه فهو سبق وحذرني من التكلم..
صمت لثواني يفكر ثم سألها:
-هل تستطيعين أن تروي لي كيف تعارفتما؟
فعادت للشرود قليلا في ذاك الخضار تسترجع ذلك اليوم الذي غير كل حياتها ثم التفتت له تشرح بصعوبة:
-يومها كنت نائمة وهو اممم..
أخفضت رأسها بخجل تحاول ايصال ما تقصده :
-هو أراد … أنت تفهمني أليس كذلك؟!
فأومأ مجبرا و خجلها من ذكر ما حصل الذي رافقته دمعة صامته جعلته يتألم بهدوء قاتل هدوء يسبق العاصفة التي تعلن من الآن أنها ستعصف به و تنهيه.. أكملت بصوت مرتعش و كأنها تعاود عيش تلك اللحظات من جديد ترمش يجفنيها و يديها تحركهما تشرح و كأنها لا تستطيع ايصال ما حدث بلسانها :
-هربت منه ولكنه أراد اللحاق بي، ففتحت الباب ونزلت الدرج لأصطدم بذلك الرجل..
مسحت بكفها دموعها و قد تغيرت نظرتها لنظرة أخرى لا يعرفها ساري نظرة قاسية قوية و الأهم لا يوجد بها ندما..
لدرجة أثارت استغرابه فهو الآن يشاهد أمامه فتاة مهتزة أحيانا ضعيفة لينقلب حالها لقوة و قسوة في اللحظة التي تليها...
بينما هي تكمل:
-رجوته أن يساعدني فأخذني لسيارته وأخفاني بها ومنها رأينا موسى يبحث عني سألني إن كنت أعرفه ولأني كنت خائفة قصصت عليه ما فعل بي، يومها شتمه كثيرا ثم قال لي بأنه يحتاج مني مساعدة وإن نفذتها سأتخلص منه ووعدني بأن يساعدني..
بعدها طلب مني فقط أن أفتح له الباب عندما يحتاج ذلك وأعطاني هاتفا صغيرا لكي نتفق و حذرني أنه مهما حصل إن فتحت فمي بشيء فإنه سيؤذيني فعدت و تحملته لآخر مرة والباقي أنت تعرفه..
سؤال واحد قاله بحشرجة:
-أين ذلك الهاتف؟
فردت بسرعة:
-قال لي أن أتخلص منه بعد مكالمتي معه فأحرقته..
لو تعلم تلك الصغيرة فقط ما سببت له من آلام وهي تروي رعبها وبشاعة ما عاشته وهي طفلة يشعر بأن قلبه قد طعن بعدد الأحرف التي تخرج من بين شفتيها... يتخيلها وهي تقاوم موسى، يحزن على وضعها الذي جعلها تلتجأ للشيطان وتتفق معه فقط لأجل التخلص من جحيمها..
لم يقدر على الرد ظل يتأملها بصمت عيناه تلتهمان كل حركة، كل نفس يخرج من بين شفتيها يرغب بأخذها بحضنه وأن لا يتركها لأي كان.. و قد أدرك وقتها أن الذي يكنه لليال ليس حبا بل هو أكبر من ذلك بكثير هو قدر ربط بينهما ليلة ولادتها..
ليال هي صغيرته وحبيبته وزوجته هي كل النساء بنظره يذكر أول نظرة لها وهي في صندوق السيارة تلك النظرة التي رافقته في كابوسه إلى الآن..
لم ينتبه على نفسه إلا و هي تسأله تحاول الهروب من نظراته :
-سيادة النقيب ماذا هناك؟
فابتسم بتعب و مرارة لم يستطع إخفائهما:
-ساري يا ليال، ساري ولست سيادة النقيب..
"أنا زوجك"
و الرد منها كان ابتسامة توصل بها رضاها على ما قاله..
عاود القيادة بصمت ثم أوقف سيارته أمام أحد المحلات وطلب منها انتظاره قليلا...
و قبل دخوله للمحل رأته يجري مكالمة و ملامحه لا يمكن تفسيرها فمن تشاهده ليس ساري الذي كان بجانبها بل هو ذلك النقيب الذي كانت تخافه...
عاد إليها بعد دقائق حاملا كيسا وأعطاه لها فنظرت إليه ليال بعيون دامعة والابتسامة تزين محياها تسأل بصمت فيجيب بعينيه، والسؤال منها كان تأكيدا فلم يعد لديها شك انه هو:
-كنت أنت أليس كذلك؟ كنت أنت من يجلب ذاك الكيس يوميا...
فابتسم يقر و يعترف:
-أجل، زواجي منك ليس صدفة يا ليال.. ألم أقل لك أني أردتك منذ وقت طويل!
تريد في هذه اللحظة أن تصرخ من سعادتها، وأن تبكي وأن تركض تريد ان ترقص فهو ليس بلاء جديد.. بل هو العوض بعد شقائها هو الدواء لجراحها هو حقيقتها..
لم تتحمل أكثر فانفجرت باكية تبكي يتمها وهوانها على الناس.. تبكي الظلم.. تبكي وحدتها.. تبكي من الألم وتبكي من السعادة فأن تعلم بأن هناك من اهتم لأمرها حتى لو كان خفية هو أمر ليس بهين بالنسبة لمن مثلها.. ارتبك ساري من رد فعلها فغايته كانت إسعادها وليس أن يراها تبكي..
ليتفاجأ بها تقول من بين شهقاتها و هي تفتح الكيس:
-أتعلم ما داخله؟
-تطلعت فيه تومأ تؤكد له:
داخله سعادتي يا ساري، هذا كيس السعادة خاصتي.. سعادتي التي سرقها موسى ذلك اليوم وهو يفرغ ما فيه من أغراض ليقتلني بعدها..
لم تستطع منع نفسها فارتمت بحضنه تعانقه و كأنها وصلت مرساها بينما هو تجمد بذهول يستمع إليها:
-شكرا لك، لولاك أنت ما عرفت طعما للسعادة حتى بأبسط معانيها..
و هنا شعر بالذنب يتفاقم بداخله فلياله تشكره على أتفه ما فعل و يا ليته كان اسرع و لم يسمح ان تعيش ما عاشته..
انتبهت أخيرا لما فعلت فتركته  تخفض رأسها من الخجل وداخلها أحساس لا يمكن وصفه ينتابها لأول مرة..
اما هو فلم يستطع أن يحيد بعينيه عنها فآه كم تمنى أن يعانقها ولكنه أمسك نفسه عنها وها هي لياليه تمنحه إياه بأروع صورة..
حمرة وجنتيها الخفيفة جعلته يرغب حالا بالعودة لجناحه و أخذها بحضنه على أن لا يتركها إلا و قد ارتوى من نهر عشقها بعد عطش السنوات الماضية و هو يشاهدها تكبر فتصبح حسنائه التي تأسر العين قبل القلب..
استغفر داخله من منحى أفكاره يبتسم على ما استطاعت هذه الصغيرة فعله به بمجرد عناق بريء، بينما زمت هي شفتيها و قد بدأ الندم يتسلل لداخلها فما فعلته مخجل بنظرها و لم تعلم أنها قدمت برها لقلبه فهي ابنته...
التزما الصمت بعدها وعندما ابتعدا عن القبيلة سألها يحاول أن ينسيها ما فعلت فقد شعر بخجلها:
-إلى أين ترغب زوجتي بالذهاب؟
فلم تفكر كثيرا و هي تهتف بحماس و قد تناست حرجها:
-مدينة الألعاب، أرغب كثيرا برؤيتها..
ادعى الضحك والألم يكبر بداخله يهتف بحماس:
-حسنا إذا استعدي لقضاء يوم كاملا بها..
فصرخت بفرح وهي تخرج  راسها و جذعها من النافذة فتتطاير خصلاتها و تبرز ابتسامتها التي بدت له انها تحمل كل بهجة الكون و سحره..
قضى ساري اليوم يستمتع برؤيتها وهي تضحك مرة، لتصرخ بعدها خائفة من سرعة تلك الألعاب..
يتأملها وهي تأكل حلوى الصوف بمتعة طفلة لا يتعدى عمرها الخمسة سنوات..
أخذها بعدها لإحدى المطاعم لتناول الطعام، كان اليوم بالنسبة إليه عاديا ولكن رؤية لمعة الفرحة بعينيها جعلته مميزا..
أما هي فقد كان أسعد أيام حياتها دون مبالغة و لم تعلم أنه سيكون الوحيد لفترة طويلة....
…………..
دخل جناحه فوجدها تجلس وحيدة في الظلمة تمسك هاتفها تقلب به..
ضغط على زر الإنارة و هو يسألها بينما رمى مفاتيح سيارته و بدأ بفتح كمي قميصه:
-لمَ الغرفة مظلمة؟
تطلعت به ببرود ثم أجابته بينما تولي هاتفها انتباهها مرة أخرى و كأنه غير موجود:
-هذا ليس ظلام الغرفة، ما تراه هو ظلام قلبك يا ماهر..
فضحك مستمتعا يسخر من ردها ثم رد يمثل الذهول و هو يقترب منها يجتاز المسافة بثقة لطالما اكتسبها بنفسه فلم يزرعها فيه أحدا فبدت مبالغا فيها :
-لا حبيبتي، إلى الآن لم تشاهدي الظلام بعد، أنت لا زلت في النور ولكن إن استمريت هكذا فسترين ظلامي قريبا..
رفعت عينيها التي عكست ألمها تخبره دون خوف:
-سجنتني أربعة سنوات، ماذا هناك أكثر لتفعله بي؟
نقر بأصبعه على جبهتها و رد بحدة:
-ادعي أنني لم أقتلك أو أسلمك لوالدك و ساري..
ثم رفع سبابته بوجهها يكمل بنبرة لا شك فيها:
-فصدقيني لو فعلتها لن تكوني الآن جالسة أمامي تردين بكل وقاحة..
انحنى بجذعه يمسك بقوة ذراعها و هو يردف بقسوة دون أي رحمة :
-رأيتك في حضنه وقال أنه يحبك، رأيتك تتسللين خفية لرؤيته فلو كانت صديقتك كما تدعين لمَ لم تستقبليها في بيتك؟ وحتى تلك الخادمة أنكرت أنها رأت أي من صديقاتك..
هل تريدين أن أذكرك أكثر يا ابنة الهاشم؟
عندها انفجرت تبكي ليس من ألم قبضته بل لأنها تعبت و هي تطالبه بالمستحيل تعترف بذنب لم ترتكبه فقط كي تتخلص منه:
-حسنا إذا أنا خنتك، أجل خنتك فطلقني وتخلص مني.. ماذا تنتظر؟
فزاد من ضغطه على ذراعها بكل قسوة لدرجة شعرت أنه سيكسره و هو يخبرها من بين اسنانه بغضب مكبوت :
-عندما تكون الأنثى عديمة شرف فلا يحق لها المطالبة بشيء فلا تستفزيني يا سارة كي لا تري ما لا يرضيك..  و لأن قدرتها على تحمل قسوته قد نضبت لم تتراجع و لم تجبن و هي ترد بقوة تصرخ به بجنون فاق جنونه:
-أقتلني إن كان هذا سيريحك، هيا افعلها ماذا تنتظر؟
فترك ذراعها ملقيا إياها تحت قدميه ليطالعها بعلو و هو يخبرها بنبرة مظلمة:
-لا تستعجلي، هناك ألف طريقة لقتلك وأنت تتنفسين فليس كل الموتى يدفنون..
ضحكة هستيرية هي ما كان ردها ثم واجهته بحقيقته ساخرة:
-تدعي أنك تكره ما فعلوه بوالدتك، ولكنك وحش مثلهم.. أنت لا تفرق عن أبي والباقين شيئا يا ابن الهاشم...
وههنا فقد ماهر كل ذرة عقل لديه فسارة قد داست على منطقته الملغمة و وضعت قدمها على احدى الألغام و النتيجة أنها ستتفجر بها..
صفعة تليها الأخرى وهي تترنح من قوتهم و لكنه كان ممسكا بها حاولت تفادي جنونه ولكنه لم يكن يرى أمامه، كان يخرج كل ألمه بها و سؤال واحد يطرح..
-من أنت لتذكري والدتي؟! ماذا رأيت أنت مما رأته هي؟!
إلى أن انهارت فاقدة الوعي بين يديه فانتبه حينها لما فعل و علم انه فقد السيطرة  و أخرج ذلك الوحش الذي بداخله تراجع إلى الخلف بصدمة فسارة أخرجت أسوأ ما به ، ثم غادر الجناح مسرعا فوجد دلال جالسة بالحديقة..
اقترب منها يخبرها باختصار و عيناه قد اشتعل داخلهما بلون الجحيم :
-اصعدي لسارة..
ثم غادر بسيارته بسرعة و صوت الفرامل يصف حالة السائق..
صعدت دلال فوجدت ابنتها ملقية أرضا وعلامات الضرب تشوه وجهها فأسرعت إليها و هي تجهش بالبكاء تحاول إيقاظها :
-حبيبتي انهضي أرجوك نهضت بركب مرتجفة و عادت بقارورة العطر ترش القليل منه قرب أنفها فتبدأ تلك بالسعال واستعادة وعيها، نظرت إلى أمها بعدم استيعاب ثوان قصيرة ثم بدأت بعدها في تذكر ما حدث...
فارتمت بحضن أمها تبكي من قهرها و هي تطلب منها بنبرة مترجية:
-طلقيني منه يا أمي، أنا لم أعد أحتمل..
.....................
تقسو عليّ بلا ذنب أتيت به...
و ما تبرمت لكن خانني النغم...
أعاده شجنا باح الأنين به..
أمشي وأحمل جرحا ليس يلتئم...
أبكي وأضحك والحال واحدا...
أطوي عليها فؤادا شفه الألم...
فإن رأيت دموعي وهي ضاحكة فالدمع من زحمة الآلام يبتسم...
وفي الجوانح خفاق متى عصفت به الشجون تلوى وهو مضطرم...
فأظلم كما شئت لا أرجوك رحمة...
إن إلى الله يوم الحشر نحتكم...
~مقتبس من كلمات الشاعر طاهر زمخشري~
~نهاية الفصل الثامن~
~ دمتم برعاية الله ~
~نادين لطفي~
************************
رواية ميدوسا ابنة الظلام
نادين لطفي
الفصل التاسع
كانت تعلم
ان العشق سيكبر فينا
ثم نموت بداء العشق
يكفننا ضوء الاشواق
يملأنا العشق
فيصبح بين دماء القلب
فروعا تنمو في الاعماق
اشجارا تكبر تصبح ظلا
تغدو قيدا في الاعناق
يملؤنا العشق فنغرق فيه ولا ندري
هل نحمل عشقا .. ام موتا ؟
فبعض العشق يكون الموت
وبعض الموت يكون العشق
وبين الموت وبين العشق
زمان يرحل في استحياء
ونبدو شيئا .. كالأشياء
بطاقة عمر نكتب فيها
لون العين ..
شحوب الوجه
من منكم يدري
كيف يموت ؟
من منكم يعرف
اين يموت ؟
من منكم يملك ان يختار
نهاية عمره ؟
وهل سيموت مع الجبناء
ام سيموت مع الشرفاء
ام سيعيش طريد الحلم
فيبكي العمر
~فاروق جويدة ~
........................
أوقف سيارته البروش الفخمة التي و إن نطقت لا شكت سائقها...
أمام شركة عائلته ثم ترجل منها بخطوات سريعة قوية، الغضب  يعميه والصبر بداخله قد سُكبت آخر قطراته على تلك التي تركها ملقية داخل جناحها بملامح مشوهة كداخله..
و لأنه منذ طفولته لم يزر الشركة لم يعلم مكان وجود مكتب والده فوقف أمام مكتب الاستقبال الكبير الذي يتوسط قاعة كبيرة تعج بالموظفين تطلع بإحداهن التي انتبهت لوجوده و لم يفتها اختلافه و تلك الهالة التي تحيط به و كأنه أحد رؤساء عملهم و ليس مجرد زائر أو موظف.. اقترب منها و سألها بنفاذ صبر و هو يضع كفه على الشباك الصغير الذي يتوسط الزجاج:
-في أي طابق يوجد مكتب السيد راشد..
ولأنها لا تعلم من يكون ردت بسؤال روتيني:
-هل لديك موعد معه..
رمقها بضجر فهو غير قادر على الأخذ و العطاء وفي  داخله نار موقدة تهدد بإحراق من يقترب منه  فأمسك هاتفه أمام عينيها المترقبة ثم دق رقم والده:
-أين أنت أنا بالشركة أبي؟
اتسعت مقلتي تلك التي كانت تجلس بتراخي ثم نهضت بسرعة كي تدعوه للحاق بها و هي تعتذر منه على جهلها:
-آسفة سيدي لم أكن أعلم أنك ابنه..
و لكنه كان قد تركها يسبقها بعد أن علم بأي طابق يوجد المكتب...
اتجه حيث أخبره راشد و فتح الباب على صوت السكرتيرة تهتف به:
-لحظة يا سيد قل لي من تكون وسأقوم بإعلامه و لكن راشد الذي استقبله أوقفها بكفه يومأ لها انه كان بانتظاره...
أغلق الباب ثم استدار لابنه الذي كان يقف ورائه ومن دون أي مقدمات سأله مشددا على الأحرف و بداخل عينيه انعكس اللهب الذي بداخله:
-لمَ قُتلت أمي؟ ولمَ سلمتها لأخويها؟
تفاجأ راشد من حالته فهو و إن لم يعلم الحقيقة كاملة يعلم الأهم فقد كان حريصا على إعلامه بخيانتها على أمل أن يستأصلها من داخله... استفسر بترقب فقلبه أخبره أن ابنه ليس بخير عيناه أخبرتاه إما أنه ارتكب ذنبا عظيم أو انه على وشك ارتكابه:
-لمَ تسأل الآن، ما الذي تغير؟
فاقترب منه يضع أصبعه على صدره و هو يرمقه بحقد دون ان يحاول مداراته وقد برز عرق برقبته الحمراء من الشد على الأحرف التي خرجت تتلظى بنيران غضبه :
-أنا لا أريد أن أكون نسخة عنكم من وراءك فقدت نفسي و سلمتها للشيطان أصبحت مثلكم دون أن أشعر، خنت ثقة من حمى أختي و طعنته بظهره منذ سنوات، ضرب على الباب المقفل حيث يقف والده و هو يكمل بنبرة يخرج بها كل ضعف السنوات الأخيرة أو ربما التي قبلها:
-لم أنجح أن أكن ابنها ابي أنا ابنك انت...
و الانت هنا كانت تهمة و عينيه تنطق بخزيه و عاره انه انسب نفسه له...
-أجبني هل استحق ما فعلته؟!  هل أمي خائنة كما تدعون؟!
قست عيني راشد و هو يشاهدها تنظر له من خلال عيني ابنها فرغم ما قاله ماهر انه ابنه هو... فقد كان ما رآه العكس رأى فيه ابنها هي و الرد كان موجها اليها  و لكنه انغرس بقلب ابنها ينخره دون رحمة فوالده و دون أن يشعر يؤذيه لأنه منها..
-أجل خائنة و كلنا كنا على حق ما عداها هي..
-هي من أجبرتنا...
جنون تملكه و هو يصرخ فيه و قد غشت دموع القهر مقلتيه:
-كيف تأكدت من ذلك كيف؟
تركه راشد و ابتعد من أمامه يعود لمكتبه فهو يعلم انه إن كان شخصا اخر مكانه لكان ماهر أخرج فيه كل قهره و انكساره و شوه وجهه و من الذي يعلم أكثر منه عن عنف ابنه فلطالما هدد بالطرد أثناء مراهقته من الدراسة و لا يستطيع لومه و بيديه زرع فيه الغضب و بيديه سيحصد نتائجه...
جلس ثم تطلع فيه و هو يطرق بقلمه على الطاولة يؤكد له ما كان خائف من سماعه:
-رأيتها بنفسي في سيارته، لا يوجد داعٍ لذكر كيف كان وضعها؟!
-لا يا أبي هناك داعي، أريد أن أعلم الآن كل ما تخفيه..
عارضه بكل تصميم يطالب بالحقيقة يتمسك بخيط الأمل الذي بداخله أن أمه بريئة و رغم وحش الشك الذي ينهشه بلا رحمة و قد شوهه و لكن حوره استطاعت أن تظل راسخة شامخة نقية داخل قلب ابنها...
أخفض راشد رأسه يخفي ذلك الخوف الذي اختلط بقهره ، فطوال سنوات كان يخاف اليوم الذي يكبر فيه ابنه ويطالبه بالحقيقة وها قد أتى ذلك اليوم...
فماذا إن علم ما خفي وهو أشد وأعظم ..
رد بصوت رخيم يدعي قوة هو أجبن من أن يتحلى بها:
-يكفي معرفتك بأنه لم يظلمها أحد، بل هي من ظلمت الكل ونفسها وحتى أنت..
فضرب بكفه سطح المكتب و مرره يلقي بكل ما فوقه و صوته علا بنبرة رغم قوتها إلا أنه اخرج بها جذوة اشتعاله أخرج بها قهرا لم يحتمله قلب والده:
-لماذا فعلت ذلك؟! هل أسأت إليها؟ هل عذبتها؟
فضحك راشد ساخرا يخفي جيدا انكساره من إصرار ابنه على لومه و إلقاء الذنب عليه:
-لا لم أفعل ذلك بل فعلت الأسوأ، لقد أحببتها..
عندها وقف أمامه عاجزا يبتسم بألم يمسك دموعه التي تهدد بالنزول يعطيه ظهره كي يزفر بقوة عل انفاسه تخمد نيرانه و بنبرة مظلمة سأله غير مقتنع دون التطلع عليه و تلك الغصة تشكلت بحلقه :
-هل تريد إقناعي أن المذنب الحقيقي هي أمي؟! هل تريد إقناعي أن كل إيماني ببراءتها مجرد كذبة قد خدعت بها نفسي؟!
-أتريد إقناعي أن كل حقدي على عائلتها ليس له معنى وأن من يجب أن أغضب منها هي من عاديت الكل لأجلها؟!
ابتلع راشد ريقه يحاول الرد وكمية الألم التي سمعها بصوته قد أبكت قلبه قبل عينه ثم رد بنصيحة لم تجد مطرحا بداخل ذاك الثائر الذي يطالب بفتح صفحات الماضي:
-انسى يا ماهر، انسى بني لتقدر على العيش..
نهض ثم اقترب منه و هو يضع كفه على كتفه يكمل و ذاك يعطيه ظهره:
-أنت تزوجت وستكون لديك عائلة فلا تدع الماضي يدمر حاضرك..
- ابتسامة حزينة وهو يغمض جفنيه كان رده على طلب والده بينما كور يديه يحاول التماسك و استدار يتطلع فيه بصمت لثواني ثم ألقى بورقته الأخيرة وهي الضغط على ضميره و الورقة لم تكن غيرها هي تلك الزهرة البرية زهرة الياسمين خاصته...
-إن كنت خدعت بالأولى فلن أنخدع بالثانية كلهن خائنات...
قال ما بجعبته يراقب عيون والده يرى بداخلهما قلقه على سارة...
و فعلا ترجم راشد ذلك القلق بسؤاله و قد شعر بالخوف على تلك الصبية التي أوقعها حظها العاثر في الزواج من ابنه:
-ماذا تقصد بكلامك هذا؟!
-لا شيء، انسى يا أبا ماهر وأعدك أن أتعلم منك و أمشي على خطاك..
أمسكه راشد من أطراف قميصه يهزه بعنف و هو يصرخ فيه بغضب:
-هل أذيتها؟!
فأمسك بكفيه ينزلهما ثم رد و عينيه لا تفارق عيني والده:
-أنت يا أبا ماهر خسرت زوجة...
نكس رأسه كمن يحمل على كتفيه حمل الجبال ثم رفع نظره له و هو يضرب بحرقة على صدره :
-و لكن أنا خسرت أمي و من بعدها شقيقتي بعيني هذه يا أبي رأيت عذاب أمي لأرى بعدها عذاب قطعة منها لا تلمني و لا يستطيع غيرك لومي...
فتح ذراعيه كمن يستعرض:
-قلت أن أمي مذنبة هل تستطيع أن تخبرني ما ذنب ليال شقيقتي يا أبي...
شقيقتي أنا فضلت السجن عن الحرية و كله بفضلكم انتم شقيقتي اغتصبت و أهينت و بيدي هذه زوجتها دون ارادتها فقط كي احميها...
أنعم برأسه موافقا و هو يعترف بذنبه:
سارة بريئة أتفهم ذلك و لكن هل هي أكثر براءة من ليال
التي ألقيت للوحش و لا زالت طفلة...
حتى ساري شاهد ذلك و انتظر لأنه كان طفلا بريء ثم ماذا فعل قرر أن يحميهم و يحميها ليسكت صوت ضميره الذي قضى سنوات يستمع لصريخه...
ضحكة ساخرة عبرت عن ما بداخله و هو يصفق ثم صرخ بحقد أعمى :
- الكل بريء الكل أبي ما عدا أمي و أختي...
رفع اصبعه أمام والده يخبره كمن يقرر أمرا مهم:
- من ظلم ليال لا أتعجب ان يكون ظالما لأمي...
- فلا تطلبوا الرحمة من قلوب انتم نزعتم منها الرحمة... 
انهى كلامه يهز برأسه و كانه يحذره من القادم و نظرة الاشمئزاز لا تفارقه فوصل المغزى لراشد الذي كان يرمقه بغضب منه و عليه و قبل أن يحاول معه رآه يغادر منهزم الخطى عكس دخوله..
فجلس أرضا أمام مكتبه يضع رأسه بين كفيه من هول ما سمع...
لقد حول ابنه لوحش يشبهه بكل شيء و لم يعلم انهما تشابها حتى بالقدر...
.................
حاولت التركيز على الطريق كي لا تتوه فهذه المرة الأولى التي تعود فيها لقبيلة أجدادها ولسوء حظها كان يوم وفاة جدها... و ليكتمل سوء يومها توقفت بها سيارتها فجأة فتأففت بضجر و حاولت إعادة تشغيلها ولكن لا فائدة أعادت الكرة أكثر من مرة و النتيجة واحدة ، فترجلت منها تفتح الغطاء الأمامي علها تفهم السبب، لحظات و أغلقته بيأس فلا أمل من محاولتها و المشكلة أنها لم تخبر اباها عن قدومها فأضاعت طريقها لقلة وجود اللافتات...
راقبت المكان من حولها،  طريق خالي من أي كان و اراض زراعية شاسعة بينما غروب الشمس أعلن عن اكتماله ليدع الظلام يعلن عن حلوله فعادت لسيارتها تحاول الاتصال بوالدها ولكنه لم يجب...
أغلقت النافذة تنتظر أن يرى اتصالها فهي قد صارت بعيدة عن المدينة ولا تستطيع الاتصال بأحد أصدقائها لأن الطريق طويل والليل قد حل ، سيطر عليها  التعب فأغلقت جفنيها من شدة نعاسها ..
بعد مرور أكثر من ساعتين لم تشعر خلالهما بهاتفها الذي يضيء إثر اتصالات والدها فقد تعودت على وضعه صامتا أتاها طرقات قوية بحثت عن مصدره في احلامها ولكن الطرق يعلو فابتدأت تستفيق ، فتحت جفنيها تعتقد أنها في غرفتها ظلت لثواني دون استيعاب، لتنتبه أنها لازلت في سيارتها وشخص مظلم الملامح يقف جانب النافذة بعتمة الليل يطرق الزجاج..
شعرت بالرعب يغزو أطرافها، و عقلها بدأ في لعب دوره..
ماذا لو كان خطيرا وهي الآن وحيدة صور لها خيالها أبشع الصور..
وهو يكسر النافذة..
وهو يحاول قتلها أو ربما اغتصابها؟! او ربما يقوم باختطافها و تعذيبها ليطلب نقودا من والدها ؟!
أغمضت جفنيها بكيفيها و هي تصرخ برعب فلا منجي لها بهذا المكان...
و لكن صوته الرجولي العميق طمئنها و هو يهتف بها يرفع كفيه كمن يستسلم لدورية شرطة:
-لا تخافي أنا هنا لمساعدتك، فهلا أخبرتني ما المشكلة؟
تطلعت فيه تتأكد أن ما سمعته صحيح فوجدته قد ابتعد عنها بضع خطوات كي تطمئن...
ردت بارتباك من وراء زجاج النافذة :
-شكرا لك، لا أريد شيئا أنتظر أبي وهو قادم فهلا سمحت لي لا أريد أن يراك قرب سيارتي..
أنعم لها و رد بهدوء يبعث فيها الراحة :
-حسنا إذا سأنتظر والدك في سيارتي لأن المنطقة غير آمنة...
أومأت له و هي لا زالت ترتجف وقد استشعرت النبل في أخلاقه فتمتمت بخجل تحاول تمييز ملامحه:
"شكرا لك"
انصرف أمامها كما قال عائدا لسيارته ينتظر قدوم ذلك الشخص الذي كانت أميرة تعيد الاتصال به فرد بقلق:
-أين أنت حبيبتي؟ لماذا لا تجبيني؟!
أجابت تطمئنه فهي أكثر من تعلم رعبه فما يخصها:
-اطمئن أبي كل ما هناك أن السيارة تعطلت بي وأنا قادمة إليك و عندما لم ترد على اتصالي نمت دون أن أشعر..
رد دون أن تستشعر في صوته الهدوء:
ماذا؟!
لما لم تخبريني أنك قادمة كنت أمرت بأن يوصلك السائق...
و لأنه لم يتخيل قدومها رغم معرفته لتهورها شعر بالرعب فهو لا يريدها أن تدخل قبيلته و لا أن يعرف بوجودها أعدائه..
-حسنا هل هناك علامة تدل على مكانك.. هل يوجد لديك تغطية إنترنت... صفي لي المكان بسرعة....
سؤال يتبعه آخر فهو أبدا لن يطمئن إلى أن تكون أميرته داخل حضنه و الرد منها أثار جنونه أكثر:
-لا طريق فارغ وأراضٍ زراعية على الجانبين و لا يوجد تغطية أبي..
فتأفف بغضب فهو يكره العجز و أن لا يكون ممسكا بجميع الخيوط كما تعود:
-حسنا لا تغادري السيارة أنا بالطريق أبحث عنك..
نظرت أميرة إلى سيارة ذاك الرجل التي لم تغادر لتحسم أمرها و تخبر والدها عل هذا يطمئن قلبه:
-لحظة أبي هناك شخص في سيارته يحميني، ما رأيك أن آخذ الهاتف له ويخبرك عن مكاني..
شعور بالقلق أكبر سيطر عليه و هو يرد:
-لا، لا تنزلي شاوري له ليأتيك وأعطيه الهاتف ثم أغلقي النافذة...
ضغطت على زمور السيارة فانتبه لها و ترجل من سيارته يجتاز المسافة بينهما بدا لها أنه طويل بجسد متناسق و لكن الظلام  أعطاه هالة من الغموض أثارت فضولها نحوه ، أنزلت زجاج نافذتها وأعطته هاتفها بصمت ثم اعادت إغلاقها ليأتيه صوت والدها يقول بنبرة باردة و حذرة:
-مرحبا هل يمكنك أن تدلني..
نعته على المكان الذي عرفه أحمد فورا فشكره و انهى اتصاله معه..
طرق ثانية الزجاج و أرجع الهاتف لتلك الخائفة التي تنظر له بتوجس و هو يعدها و كأنه يرغب بمنحها ما لم يمنحه لتلك التي يوما ما كانت تصرخ تطلب منه الأمان:
-لا تقلقي، لن يحدث لك شيئا..
فابتسمت له بامتنان على موقفه الشهم معها، مرت ربع ساعة وكل منهما جالسا بسيارته ينتظران قدوم والدها..
انتبه بعد قليل على سيارة تقترب ثم توقفت جانبه ، و قد ترجل منها شخص ما فترجل من سيارته و اقترب منه ليكون ذاك آخر من يرغب برؤيته...
فرغم العتمة استطاع صقر التعرف عليه و كيف لا و هو سبب كل دماره كيف لا و هو السبب في قتل توأمه كيف لا و هو السبب في   أن يقسم أن لا يتزوج كي لا تفقده عائلته إن يوما قابله فالقتل سيكون جزاءه كما كان جزائها و ها قد أتى إليه بنفسه في الوقت الذي ابتعد فيه هو عن قبيلته يمنع نفسه من الذهاب اليه و جنازة والده لا زالت تقام ..
بينما وقف الآخر أمام سيارته يتحداه يعصر كفيه  و يكز على اسنانه بقوة فها هو صديق الأمس صار عدوا صقر الهاشم من كان بالأمس أخا صار اليوم جرحا بقلب أحمد لا يندمل لأنه و ببساطة لم يصدقه يذمر ذلك اليوم الذي اتصل به و هو يبكي يقسم له بأنه لم يفعل شيء يطلب منه المساعدة و ماذا فعل صقر لم يستمع له بل شتمه و هدده بأن هدر دمه سيكون على يديه...
الظلام المحيط عبر عن ظلمة داخلهما و لعنة ميدوسا طالتهما كما ستطال غيرهما ليُلغى صوت العقل ويتملك منهم الجنون..
صرخ صقر بغضب و هو يشتمه بألفاظ نابية...  
لكمات سددت من الاثنين في نفس الثانية و ثورة وجعهما أفقدتهما كل سلطان على أنفسهما فالآلام والماضي سيطرا و بقوة..
أما أميرة فكانت لا تصدق
عيناها تحاول أن تفهم ما يجري هل والدها ظنه يتحرش بها...
تركت سيارتها مسرعة تجتاز تلك المسافة برعب ثم اندست بينهما تفرقهما بيديها...
فامسك أحمد بذراعها يخفيها وراء ظهره بينما تهتف فيه بهلع:
-ماذا يحدث أبي؟! هو لم يفعل لي شيء هو حماني فقط...
و لم تفهم أن ما بينهما نار و دمار ما بينهما طيف لم و لن يغادر الا بمغادرة روحهما ما بينهما حور الهاشم...
ولأول مرت يعلو عليها صوت والدها الغاضب:
-عودي إلى السيارة فورا، ولا تخرجي منها حتى لو رأيتني ميتا...
إضاءة السيارة جعلتها ترى شكل ذلك الذي بقي كي لا يحدث لها مكروه...
تراه الآن يطالع والدها بنظرة تعني شيئا واحد أنه قاتله...
و قد أنبأها حدسها الذي لا يخطئ بأن هناك كارثة ستحدث وهي لن تسمح بهذا حتى لو عصت والدها..
فصاحت بهما تترجاهما و قد اختنق صوتها بعبرتها فخرج مرتجفا:
-كفى أرجوكما..
تطلعت بصقر و هي تترك مكانها خلف أباها تقترب منه تناجيه بنبرة مترجية كي يتراجع :
-قبل قليل كنت شاهدة على شهامتك و نبل أخلاقك فأكملهما أرجوك ولا تجعلني أعيش هذا الوضع..
فصاح أحمد بها بقهر أن تعود لسيارتها و لكن هذا لم يمنعها من مواصلة حديثها مع صقر لتسترسل وكأنه ليس بموجود بينما هو يقبض على ذراعها بقوة يكاد يكسره من شدة غيضه:
-الغضب لن يحل ما بينكما فهلا غادرت أرجوك..
تأملها صقر للحظات يشفق عليها فليس عدلا أن ترى هذه الفتاة ما سيحدث ابعد عينيه عنها و رمق والدها و قد تقصد ان تكون كلماته في مقتل لذاك العائد من الماضي:
-لو علمت أنها ابنتك لا جعلتك الآن تقتلها و تقتل نفسك من بعدها فأشكر الله أني لا أعرفها، ابتسم بلؤم انقبض له قلب تلك الواقفة و هو يكمل:
-ابنتك جميلة يا أحمد فحاول الحفاض عليها..
  ثم استدار مغادرا تاركا الآخر مثل الحيوان الجريح يصرخ يفرغ ما به من غضبا على التي تقف أمامه تعض شفتها ألما من قبضة والدها و من ما قاله ذلك الغريب ....
طالعه و هو يصعد بسيارته يلقي عليه ما جعل ذلك يجن أكثر:
-تشكر ابنتك على انك لا زلت حيا يا قليل الشرف و لنا لقاء...
..................
دخلت القصر متبخترة تحمل بيدها مجموعة من الأكياس بها كل ما تمنت الحصول عليه يوما، يتبعها الآخر حاملا في يده دب أبيض اللون يفوق صاحبته طولا..
و ملامحه لا تفسر و قد عقد حاجبيه بانزعاج يستغفر بداخله كي لا يرميه عليها...  و أمامهم هروب جماعي للعاملات من طريقه يمسكن ضحكاتهن خوفا من غضبه فهن لم يتعودن بعد على رؤيته هكذا و لم يعلموا أنه قبل أن يكون زوجا فهو أب تعود من صغره على منح صغيرته ما يسعدها...
وصلا جناحهما أخيرا فألقاه فورا فوق السرير و ألقى معه ارتباكه يستعيد نفسه وهيبته...
بينما وضعت ليال الاكياس و هي تختلس النظر له تمسك ابتسامتها فهي تعلم أنه لن يتحمل سخريتها الآن..
سعلت قليلا فنظر اليها ببرود يضع يديه بخصره فاقتربت منه بابتسامة بريئة أو تقصدت أن تكون كذلك تحادثه بنبرة يغلب عليها الدلال:
-كان يوما جميلا، شكرا لك..
أكملت شكره بقبلة سريعة على وجنته لا تسمن و لا تغني من جوعه...
فتأملها بملامح من سينقض على فريسته و هو يحذرها:
-على الرحب والسعة، ولكن لن أحمل مثل هذه الأشياء مرة ثانية ثم لم أفهم كان يجب أن أحمل أنا الأكياس و انت الدب الذي يتخطاك بطوله فلماذا الاصرار على حملي أنا للدب ...
فردت بنبرة جادة بينما تفرغ المحتويات تقيمهم و هي تمسك كل قطعة بيدها:
-بلى، ستحمل مثل هذه الأشياء كثيرا في المستقبل فمؤكد أنك ستكون أبا رائعا...
لتصمت فجأة و هي تنتبه إلى ما قالت، فابتسم يستغل اندفاعها وخجلها يرد بمكر و هو يجتاز ما بينهما بخطوات متمهلة ينزع الفستان الذي تمسكه ثم اقترب من أذنها يهمس لها بنبرة جعلتها تتمنى أن تنشق الأرض و تبتلعها فقد تعمد أن يخجلها و من اشطر من ساري في قلب الطاولة على من أمامه ينتقم منها لحمله لذلك الدب البشع كما انتقمت هي من قبله فهو يعلم ان اصرارها كان انتقاما على عقابه لها ليلة البارحة و يا الله كم أحب تلك السجادة البشعة لأنها فقط صنع يديها و أصر على فرشها بينما هي تتذمر من ذلك فالغاية كانت السخرية منها كلما نظر لها :
-سأكون أبا وقريب أهذا يعني أنك راضية بأن تكوني أما يا زوجتي؟
شعرت انها تكاد من فرط خجلها أن تذوب، فتحت شفتيها تنوي الرد ولكنه ترك همسه لها و قد انحنى برأسه وعينيه على شفتيها فلم تتمكن من التفوه بشيء تحاول الهروب بينما يلف هو ذراعه خلف رقبتها يتقدم بخطواته فتتراجع دون ارادة منها إلى أن احتجزها بالحائط و عينيه لا تغادر ثغرها لينقلب السحر على الساحر و يشعر أنه يريد حالا أن يرتوي من شهد رحيقها قبلة واحدة ما كان ينشد يريد أخذ قبلته الأولى التي يمني نفسه أن يكون فيها نجاته يريد تقبيلها على مهلا و كأنه طبيبا يخيط جراحها و لكنه و لأنه ساري لا يسمح لا لقلبه و لا لغريزته بالسيطرة عليه فدفن وجهه بخصلات شعرها الذي اذابته رائحته التي تفوح بعبق الكرز الاسود و قد تداخلت به رائحة أخرى لم يعلم ما هي  لف ذراعه الأخرى يقربها منه بعناق ردا على ذاك الذي أهدته له بالسيارة فشعرت كأنها أخيرا و بعد عذاب كافأها الله بجنته على الأرض...
و جنتها لم تكن سوى حضن نقيبها رفعت ذراعيها... شاركته عناقه ليكتملا أخيرا بعد أن كان ناقصان لسنوات منذ تلك الليلة و كانت قبلته الأولى و لكنها لم تكن على ثغرها بل كانت في المكان الذي سجن فيه ليلة ظلامهما كانت لعينها و بينهما حيث أسر تطلع بها بعد ذلك فرأى  ظلام عينيها يحاكيه يخبره أنه كان نور عينها وسط ظلام تلك الليلة...
تركها فجأة يهمس من بين أنفاسه الثقيلة و هو يضع كفه و جبينه على الحائط خلفها اذهبي الآن تعجبت طلبه و لكنها نفذت تسرع الخطى نحو الحمام تغلق الباب هربا من ذاك الذي احتل روحها قبل جسدها، تضع كلتا يديها على وجنتيها اللتان توهجتا بفعل الحرارة لتصبحا ورديتان، هدأت قليلا لتبتسم بعدها كما لم تبتسم يوما بقلب يرفرف داخلها يريد الطيران...
- تتساءل أهذا هو العشق؟!
- هل يكون بهذه السرعة؟!
و لم تعلم أن ما تشعره ليس وليد يوما و ليلة بل هو شعور تغذت عليه و هي ترى تلك السيارة تبتعد يوميا تاركة لها الكيس فأحبته بمشاعرها الطفولية البريئة كغريب...
-ثم أعجبت به كمراهقة و هو ينقذها من سجنها و يؤمن لها مستقبلها رغم رفضها لهذه المشاعر وها هي اليوم بدأت تشعر بأولى دقات العشق كزوجة وجدت فيه عوضها...
فالقدر قال كلمته تلك الليلة عندما شاركته سرها و جمع بينهما دون أن تعلم...
أنفاسها الثائرة بفعل ما تشعره بداخلها جعلت دموعها تسقط مثل لآلئ لا تتبخر ولا تنكسر، لآلئ صنعت من السعادة تبكي لأول مرة من فرط سعادتها و ثورة مشاعرها فهي لم تتعود بعد و كل هذه الأحاسيس بداخلها لا زالت غير قادرة على التعامل معها فمن تعود على مر المشاعر يتعجب حلوها ...
تأثير ما عايشته جعلها تنسى أو تتناسى أن تتساءل لما كان يحضر لها ذاك الكيس...
جعلها تتناسى فضولها و لا ترغب بالاتصال بذاك الرقم...
تريد فقط الامان و ليس هناك أفضل من نقيبها الأسمر الوسيم بمنحها ذلك..
صوت خالتها دلال قطع خلوتها مع ذاتها و هي تستمع لها تلقي السلام فخرجت من مخبئها بعد أن غسلت يديها و وجهها بالماء البارد عله ينعشها قليلا... وجدتها تجلس جانب ابنها عابسة الملامح فاقتربت منها تسألها بعد أن ألقت التحية تتجنب التطلع به بينما هو يرمقها مبتسما من خجلها غير مصدقا ان ابنة قلبه كانت قبل قليلا في حضنه و بادلته اياه دون تمنع لا يصدق أن عيناها حبيبتاه صارتا ملكه و وضع عليهما و بينهما أول قبلاته :
-هل أنت بخير؟!
سؤالا من ليال كانت دلال تنتظره أجل تنتظر ان  يسألوها عن حالها كي تنفجر في بكاء مرير، تبكي بحرقة وألم حال ابنتها و قد تحققت مخاوفها من ان تكون ضحية أخرى، تمالكت نفسها تهمس بيأس و هي تجفف دمعها تلتفت لابنها تخبره رغم رعبها من ردة فعله:
-أختك ليست بخير يا ساري..
قطب جبينه يستفهم عما تقصده...
فأكملت دلال و هي تضع كفيها على ذراعيه تترجاه بنظراتها أن يهدأ:
-ماهر ضربها وهي تريد الطلاق منه...
تجمدت ملامحه للحظات يحاول أن يستوعب ما قالته و قد اختفت بشاشته...
سألها يخفي غضبه وهو ينهض من جانبها:
-ضربها! لماذا؟ أين هو الآن؟
فردت دلال تقول بحزم تحاول تهدئته:
-جئت إليك لكي نجد حلا، فاهدأ ودعنا نعالج ما حدث بتروي..
و الرد كان خارجا من عمق جحيمه يستنكر طلبها:
-تطلبين مني الهدوء بعد أن تجرأ على ضربها؟!
فناظرته بقوة و هي تضرب بكفها على صدره تمارس أمومتها على سندها و سند ابنتها الوحيد:
-أجل يا ساري، أطلب منك الهدوء فالطلاق وغضبك ليس حلا عليك أن تفكر بتروي..
ولكن كلامها ذهب أدراج الرياح وهي تشاهده يغادر بخطوات غاضبة يجزم من يرها أنه لو وجد ماهر فلن يخلصه من يده أحد..
طرق الباب ثم دخل ليجدها متخذة وضع الجنين فوق فراشها، فاقترب منها و قد اعترته الصدمة من علامات الضرب التي لونت بشرة وجهها اللبنية بألوان مختلفة بين أزرق وبنفسجي وأحمر و انتفاخ جفنيها من شدة بكائها..
أغمض جفنيه بألم على حال أخته، أهذه صغيرته التي حافظ عليها حتى من بطش والده؟! 
أما هي فنهضت ترتمي بحضنه باكية... فعانقها بلهفة يقبل أعلى رأسها و هو يهمس بخفوت :
-هس لا تخافي يا قطعة السكر، لن أدع أحد يؤذيك مرة أخرى..
فترجته من بين شهقاتها و هي تطلع فيه بوجع كسره قبل كسرها:
-طلقني منه يا أخي أرجوك، لا أريده..
شدد من عناقه لها يعدها و هي التي تعلم إنه ان وعد لا يخلف:
-اهدئي الآن ولن يحدث إلا ما يرضيك..
سألها و هو يحاول السيطرة على غضبه كي لا يرعبها أكثر:
-أين هو أريد الحديث معه...
فرفعت يديها بمعنى لا تعلم..
انتبها لوالدته وقد لحقت به صحبة زوجته التي كانت تتطلع به فرأت داخل عينيه الألم والانكسار  وكأن أحدهم قام للتو بطعنه فلم تشعر بنفسها وهي تقترب منه تمسد بكفها على وجنته بمواساة ولم يرفض ذاك القوي تلك اليد بل تطلع بها بشرود يحسب حساب كل ما سيحدث و هو يجلس على السرير يعانق سارة بذراعه..
مشهد كان بعين دلال موجع بنفس قدر جماله، رجل يعطي القوة لإحداهما ويأخذ من الأخرى بقدر ما يعطي..
رجل ليس ككل الرجال اجتمعت به كل التناقضات الحنية والقسوة، القوة واللين، توسطهما بهيبته رغم ما أظهره من ضعف، سند هو وأمان لكل واحدة منهن لتذرف الدموع من ثلاثتهن تنعي خذلناه وانكساره..
عاد أخيرا يفتح باب جناحه ليتفاجأ بذاك المشهد فتقدم منهم مطأطأ الرأس، تطلع فيه ساري ثم نهض يترك شقيقته و يقترب منه بتمهل يطالعه بخذلان فهما معا حاولا أن يصلحا الماضي معا بكيا ليال معا خططا...
لماذا إذا خذله؟!
سدد لكمته لفك ماهر يخرج فيها كل قهره منه فالتزم الهدوء ولم يردها بأخرى.. و عندما حاولت دلال فصل ابنها عنه وهي تترجاه ابعدها ماهر برفق و هو يتقدم منه يطالبه بوجع...
اضرب يا ساري فلك كل الحق بهذا أخي...
أكمل بقهر يصرخ به و يقترب منه كمن يرنو لهلاكه :
-لم أستطع أن أكون مثالي مثلك لقد هزمت منذ زمن يا ابن خالي...
فسدد ساري لكمته الثانية التي أسالت دمائه فترنح قليلا ثم وقف ثانية يقترب منه و كانه يعاقب نفسه على ما فعله...
فأسرعت دلال مرة أخرى تقف بينهما بينما سارة و ليال يصرخان برعب كانت  تولي ظهرها لماهر تترجى ساري :
-بني أرجوك هذا ليس الحل، دعنا نفهم ما حدث..
فتحول بكاء سارة لنحيب من شدة  رعبها مما يحدث خائفة من أن يخبر ماهر ما حدث لأخيها فهي تعلم أن حتى ساري لن يغفر لها غباءها...
تطلع فيها ماهر ببرود يمسح خيط الدم الذي سال من شفته ثم قال ببرود يحاول تهدئة زوجته و هو يبعد دلال ليكمل ساري عقابه:
-لن أبرر شيئا يا زوجة خالي، ما حدث قد حدث..
وهنا فقد ساري ما تبقى لديه من ثبات يصدر حكمه و هو يسدد عدة لكمات له بينما يصرخ به:
-إذا ستطلقها يا ماهر لن أسمح لك بأذيتها أكثر...
ابتعد عنه أخيرا فنهض ماهر ينكس رأسه ثم ذهب للجلوس بتعب على الكنبة التي كانت شاهدة على أول لقاء له معها يرفع راسه لفوق فأنفه ينزف تحت نظرات ساري الذي يتطلع به غير راض على ما فعله به فهو أكثر من يعلم بتلك النيران التي تحرقه هو من شاهد كيف كان يتخبط مثل الطير المذبوح ليلة زفافه يعلم أن جرح والدته و ليال لا يزلان ينزفان كما يعلم انه سلمه نفسه لأنه يريد العقاب و لكنه لن يسمح له لا أن يؤذي شقيقته و لا أن ينهزم و يتحول لنسخة من الذين يكرههم...
اقترب منه و ثم جلس أمامه يهمس بقسوة:
-ما الذي تفرقه عنهم الان تكلم...
ضربه بكفه على صدره و هو يضغط عليه:
-ألم أوصيك بها أين الأمانة يا ماهر؟!
-ستطلقها!!!!
سأله:
هل تكسر قلمي يا ساري؟!
فأشاح بوجهه عنه غير قادر على النظر اليه فغضبه منه فاق قهره عليه...
حاول أن يثنيه عن قراره يسأله كمن يغرق و يحاول التمسك بأي غصن:
-هل أنت واع لما تطلب؟ أتعتقد أن الطلاق حل في هذه القبيلة و عائلتنا تحديدا؟!
أذيتي يا ساري لن تكون شيئا أمام أذية والدك لها إن طلقتها..
و الرد كان حاسما من ذلك الذي يقف بشموخ و قوة رغم انكساره و خذلانه:
-أقسم يا ماهر أني إن اضطررت هذه المرة فالسجن سيكون مصير من يشارك في أذيتها.. 
أنعم له بقهر يوافقه و هو يقارن بين هذا الأخ و أخواله الذين جرو أمه أمامه من شعرها...
اقترب منه ساري بغضب يسأله و نظرتهما قد تلاحمت تحكي أوجاعا لا قدرة لماهر على تحملها بينما يسأله بعتب:
-هل ترضى لأختك ما ترتضيه لسارة؟
و النظرة كانت شاردة حائرة تترجى العفو منه فهو لن يقدر على التحمل تطلع بعدها في ليال بألم و قد حسم أمره فلن يسمح بأن يضرها ساري و الرعب من ذلك الواقف نهشه هل سيرد له أذية سارة بأذيته ليال...  لا لن يسمح فيكفي ما عانتاه هي و والدتها من قبلها إن كان مقابل حمايتها أن يضحي بسارة فلن يتردد فمن لديها أخا مثل ابن خاله لا تحتاجه:
-لو كانت أختي فعلت ما فعلت زوجتي فأنا راضٍ...
رده ذلك جعل تلك التي تبكي تشهق شهقة قوية كمن نحرها...
بينما رفعت ليال التي كانت تعانق سارة حاجبيها بحيرة فهي تعلم أن ماهر لا يمتلك أخت تستنكر سؤال زوجها فكيف سيشعر إن لم يمر بنفس الموقف و لم تعلم أنها الآن بوجودها جعلت ذلك الغريب بالنسبة لها يرتعب من أن يصيبها مكروه..
أما هو فنظر لزوجته نظرة بها من التهديد والوعيد ما يلجم الأخرى يكمل:
-اسألها إن كانت تريد الطلاق وإن طلبته الآن سأنفذ رغبتها دون تردد..
ارتجاف، بل انتفاضة، ما أصابتها فها هو يقيدها بذنب لم ترتكبه ولكن من سيصدق؟
رغبتها بالخلاص تكبر و لكنها تشعر بالجمود تنظر إليه دون أن ترد، فالبقاء معه سينهيها والبعد عنه رأت بعينيه أنه سيكون كسرة لحاميها..
مشتتة، حائرة، غاضبة وما من خلاص لها تتمنى بداخلها أن يأخذ الله روحها و لا أن تكون سببا في قهر شقيقها..
و الرد منها كان متوقعا له فهي تعلم أنه يريد حماية أخته و لا حرية لها ما دامت ليال زوجة لساري فردت بخجل تتهرب بعينيها من عيني ساري:
-لا أريد الطلاق يا أخي...
حدق بها ساري يضيق عينيه غير مصدق لما يسمعه و يراه فهذه التي أمامه ليست اخته التي قبل قليل كانت ترجوه الخلاص لا يخفى عليه ذاك الخوف الذي يلجمها و لا تهربها منه و هي لا تجرأ على النظر اليه كي لا يرى ذنبها ولكن عين الأخ قبل عين النقيب رأته..
فاقترب منها رافعا حاجبه والشك واضح على ملامحه يمسك ذراعها يسألها بحدة:
-ما الذي تخفينه يا سارة؟
-ما الذي قصده زوجك برده؟!
صاح فيها بغضب لا تراه منه إلا نادرا:
لا تسكتي تكلمي ما الذي تخفينه لا تسمحي له بأن يخيفك تطلعي جيدا حبيبتي أنا شقيقك مهما كان خطأك و ان غضبت منك لن أسمح بأذيتك !!!
أجهشت مرة أخرى بالبكاء ترجوه بعينيها ألا يظلمها، فاقترب ماهر يمسكه من ذاعه يبعده عنها و هو يبرر بهدوء:
-ليس من حقك السؤال، إنه أمر بين زوج وزوجته فأرجوك ألا تتدخل، ثم الامر ليس كما تتخيل...
صرخ بهما ساري وقد تمكن الغضب من احتلاله بالكامل يستنكر ما قاله له:
-لا أتدخل! أتطلب مني ألا أتدخل وأنت تضرب أختي بهذه القسوة؟
أشار إليها بينما أحمرت بشرته و هو يحاول السيطرة على يده كي لا يعود لضربه..
-أنظر إلى وجهها يا زوجها
أهذه أفعال يفعلها رجل بزوجته؟!
اقترب منه يضرب بظهر كفه على صدره و هو يردف:
-اسمعني جيدا يا ابن عمتي إن كانت أختي مخطئة فوجب علي معرفة خطأها لأنني أنا من ربيتها وصدقني إن كان معك حق فبنفسي سأعيد تأديبها ولكن لن أسمح لأحد بأن يضربها ويرعبها بهذا الشكل، أتعلم أنها طلبت مني تطليقها منك قبل قليل وبنظرة واحدة منك تراجعت فأخبرني الآن ما الذي تخفيانه؟!
ابتعد ماهر يتجاهل هجوم ساري ثم جلس يضع رأسه بين كفيه و الحيرة تمكنت منه فكيف سيقنع الواقف أمامه الآن؟!
التفت إليها يلومها:
-ألم تطلبي الطلاق؟ أخبريه السبب إذا...
النفس يختنق بداخلها من شدة الرعب والرعشة اجتاحت كامل جسدها ، انتبه ماهر على احمرار وجهها وفتحها لفمها تحاول أخذ النفس ليسرع إليها و هو يصرخ بينما يرفع راسها...
-استدعي الطبيب يا ساري أختك تختنق...
انتبه  لما يحصل فاخرج هاتفه يلعن نفسه بينما كان هو يهمس لها بأذنها:
-اهدئي لن يحصل شيء، لا تخافي وحاولي التنفس..
تنظر إليه بعينين متسعتين تحاول تنفيذ ما يقول بينما هو يحاول طمأنتها لأنه يعلم عن خوفها وسببه إلى أن غابت عن وعيها..
بعد أكثر من نصف ساعة
كانا ينتظرون الطبيب بينما يحاول إيجاد حل لما حصل فالأمر يعلم جيدا خرج عن سيطرته و ساري لن يتركهما قبل أن يعلم مقصده...
اقترب منه يرمقه بنظرة فهمها الآخر يطلب منه أن يتفهمه فأشاح بوجهه عنه لا يتقبل اعتذاره الصامت فلم يجد لحظتها بدا إلا التبرير له و إن كان كذبا فساري لن يقتنع الا ان كان السبب يستحق ما حصل...
تحدث و هو يتطلع به بأسف يخبره بالشيء الوحيد الذي يعلم أن ساري يسانده به:
-لقد شككت في والدتي رحمة الله عليها و قالت أن والدك محق ففقدت أعصابي،  أنت تعلم اني أفقد السيطرة عن نفسي عند هذه النقطة بالذات أعذرني أخي لم أشعر بنفسي ...
عندها فقط رد عليه بنبرة قاسية رغم تفهمه و هو يتطلع به:
-أعلم يا ماهر و لا أستطيع لومك بهذا..
رفع إصبعه يهدده مردفا:
- و لكن هناك ألف وسيلة لعقابها غير ضربها و إن لم تستطع تعال لي و أبلغني  و إن لم أضع لها حدا لمني ...
خرج الطبيب من جناحها فسألته دلال التي كانت بأسوأ حالاتها و قدميها غير قادرتين على حملها و هي تراقب حوارهما:
-طمئني يا دكتور..
فرد عليها يبتسم برسمية:
-لا تقلقي كانت نوبة هلع الواضح أنها تعرضت لضغط قوي..
ولكن أريد أن أسأل ما كل تلك الكدمات بوجهها؟
فردت دلال تداري ما حدث:
-لقد سقطت في الحمام..
أومأ لها غير مقتنع ثم رد:
-أنا لن أتكلم هذه المرة لأجل خاطر النقيب ساري، ولكن في المرة القادمة إن شهدت على شيء كهذا لن أصمت سيدتي و أريد تحذيركم أن الضرب بتلك الطريقة يمكن أن يؤدي لعماء مؤقت ..
فأومأت له شاكرة بينما رافقه ساري إلى الباب يودعه و ترك ماهر الذي استند للحائط يشعر بالندم على ما أقدم عليه يلوم نفسه و يسألها..
-هل أبعدتها اربعة سنوات عنك كي لا تؤذيها لتفعل هذا؟!
فلقد كاد بلحظة غضب أن يقلب حياتها و هو يعلم حتى ان حماها ساري فوالدها سيفتح بوجهها أبواب الجحيم..
و لم يهتم بما فعله هو فمن مثل ماهر لا يسمح لمن يخصه بأن يبكيه و يؤذيه غيره...
وكيف نقنع رجلا لديه قناعة انه شخص نرجسي أناني...
فهو فقط الذي يمتلك حق محاسبتها...
هو فقط الذي يمتلك حق ايذائها...
و هو فقط من يمتلك حق إسعادها إن أراد...
و بنظره من يلومه بعد ما فعلوه بنساء عائلته أمه و أخته... 
تقابل ساري مع والده بالباب بعد أن غادر الطبيب فسأله الحارث بقلق:
-ماذا يحدث؟ من المريض لدينا؟!
ابتسم بهدوء فهو يعلم رد فعله و أجاب ببرود:
-إنها سارة يا زعيم، لديها بعض الحرارة..
وكعادته عندما يتعلق الأمر بها يتباعد لا يهتم و لا يقترب يضع ألف حاجزا:
-حسنا، اهتموا بها...
فلم يكلف نفسه عناء الرد عليه و غادر لا يريد و هو بهذه الحالة أن يجرح والده....
يجلس بقربها يحني رأسه كي يخفي ما يرتسم على وجهه من ندم يسألها:
-هل أنت أفضل الآن؟
والرد كان صمتها و هي تلتفت تعطيه ظهرها كي لا تراه ، تنهد بعمق و هو يفضي لها لأول مرة على نبذة بسيطة من صراعه الداخلي الذي يعيشه مع نفسه:
-أتعلمين أن أول مرة رأيتك بها قد غيرت كل ما كنت أتوعد به قبلا! أجبرت نفسي على نسيان ما كنت أعده لخالي كي أنتقم لأمي..
كنت أريد إيلامه بك فأنا أعلم أني إن قتلته فسيكون الموت راحة لمن مثله ولكن نظرتك البريئة تلك أحيت قلبي وانتشلتني من بئر الانتقام الذي كنت أغرق به...
سكت قليلا يبتلع خيبة أمله من نفسه قبلها هي فهو غير متأكد لا من براءتها و لا من ذنبها ثم أكمل يلومها كي يبرر لضميره ظلمه لها و قسوته عليها:
- وماذا فعلتِ أنت يا سارة أمسكتني بيد لتلقيني بأخرى إلى نفس البئر ولكن بحالة أسوأ.. الوجع أصبح وجعين والخيانة تجسدت بجسدين، أطلقتِ سراح الوحش الذي بداخلي بعد أن روضته بنفسي..
لا تلوميني الآن بنظراتك هذه فأنت من أيقضه يا زوجتي و قد سبق و حذرتك...
ألقى برأسه لمسند السرير يحاول أن يكون صادقا و لو لمرة معها و مع نفسه : 
-رغم عدم قناعتي بخيانتها أو خيانتك إلا أن هناك مكان ما بداخلي لا يصدق براءتكما...
فخرج صوتها ذابلا دون أن تتطلع فيه تصر و تكرر :
-طلقني أو أقتلني أنا لم أعد أتحمل جحيمك ماهر..
و الجواب كان متعبا من شخص منهزم لا يشبه ذلك الذي تعرفه هيا :
-ولا أنا أتحمل، لكن طلاقك ليس حلا..
فسألت تضغط عليه تريد منه أن يخلصها بينما تمسح آخر دمعاتها:
-ما الحل إذا قل لي، وأنت جعلت من نفسك فريسة للشك..
فصرخ يبرر لنفسه انهزامه:
-ليس شك، لقد رأيتك تتسللين ورأيتك بحضنه وأنت زوجتي هل أكذب عيناي وأصدق كذبك؟
ابتسمت بأسى و قد عادت للتطلع به بنظرات تخبره أنه الآن يكذب فهو يصدقها و هي تسأله:
-لمَ لمْ تبلغ ساري، فصدقني لن يجعلك تتعب نفسك بمحاسبتي فسيتكفل هو بذلك..
هذا إن استثنينا أن الأمر لن يصل لأبي ووقتها سألقى مصير والدتك، وهكذا تكون انتقمت من خالك بابنته كما خططت ولكن الفارق أنك ستكون بريء في نظر الجميع و ستكون انت الضحية التي خانتك زوجتك...
ضيق عينيه يتأملها و هو يجيبها يتمسك بحقه بها غير راغبا بالسماح لغيره بالتدخل أو ربما أخذها منه:
- و أعيد ما فعله والدي اسلمك إليهم؟!
-تكفي العائلة ضحية واحدة، أما أنت فعقابك أن تظلي زوجة لشخص مثلي يخرج فيك كل ألمه...
أكمل بعدها و هو يتجه للحمام ليغتسل من أثار الدماء بوجهه و لم يكلف نفسه عناء الاعتذار أو الاعتراف كما فعل مع ساري فذاك بالنسبة له حامي عرضه:
-والآن نامي وارتاحي....
...............
يقف أمام قبرها كما كل مرة يشعر فيها بانه لديه رغبة بالبكاء لديه رغبة أن يشكي همه و من غيرها توأمه تستقبله... كم تمنى النوم جانبها... كم تمنى أن يحميها من غضبها ذاك... لو علم فقط ما تنويه لكان منعها...
فأعز أحبائه نائمة هنا وحيدة
يحيطها الظلام كما تلك الليلة التي دفنت بها...
هوى يجلس على التراب بجانبها يمسد بكفه على تلك الكومة و كأنه يمرره على شعرها الليلي الحريري و هو يهمس و قد خنقت صوته العبرة التي يكتمها عن غيره :
-عادت ليال يا حوري فتاتك المتمردة جميلة تشبهك تمتلك عينيك و قوتك حتى ابتسامتها تشبهك ...
شهقة حاول منعها خرجت منه و هو يخبرها: 
-لم أستطع الاقتراب منها يا حور لم استطع النظر بعينيها...
ماذا سأخبرها هل أقول نحن قتلة أمك نحن من شرّدناك و كنا سببا بسجنك...
ضم قدميه يتابع إخبارها بالجديد و هو يبتسم ساخرا من نفسه قبل شركائه:
-أتعلمين وأدوك ليحافظوا على شرفهم و لم يعلموا أنهم منحوا شرفهم لمن سينتهكه و لكن ابنتك يا حور كانت اشجع من الجميع قتلت من تحرش بها...
صوت الطيور انبثق يكسر صمت الليل يشاركه شكواه...
فتطلع لأمامه بنظرات حاقدة و هو يردف:
-رأيته يا حور ذلك الذي كنت أحسبه أخا رأيته يا أختي و ليتني قتلته و لكن ابنته تلك الصبية البريئة كانت موجودة منعت ما كان يجب أن يحدث...
فأنا عند وعدي لم أتزوج و لم أكون عائلة فلا حياة لي من بعد أن ظلمتك يا روح أخوك...
يكفيني أن أرى عائلتك أمامي ماهر الذي اصبح رجلا و لكن...
أغمض جفنيه بقهر و هو يعلمها الحقيقة:
-و لكنه رجل يملأه الحقد علينا لم ينساك و لم يصدق
أعلم ذلك كل ما نظرت إليه أراك هناك داخله طاهرة نقية يحارب الجميع و هو يخبرنا بكرهه لنا أنه ابنك....
و ليال التي لم تعلم بعد لا أتوقع منها أن تكون أقل حقدا من شقيقها...
...............................
وصلا أخيرا لبيت جدها فنزلت قبله من سيارتها تغلق بابها بقوة بينما هو يتبعها و قد فعل نفس الشيء
نداها بغضب مستعر لم تشاهده عليه سابقا و كأن من يدخل هذه القبيلة تصيبه اللعنة الكامنة بداخل ترابها:
-قفي مكانك علينا الحديث...
استدارت اليه بينما خصلاتها الشقراء تطايرت تتمرد معها تجيبه بغضب:
-إما تبريرا صادقا لما حدث أو لا أريد الإنصات ابي فأنا هذه الليلة اكتفيت مما شاهدته...
اقتربت منه تسأله كمن تشاهد غريبا:
سؤالا واحدا هل هذا انت و هذه حقيقتك التي تخفيها عني أم ان أبي الحنون هو الحقيقة أخبرني أبي لأني أريد أن أعرف أي منهما سأخاطب الآن؟!
نظراته التي راتها لم تكن لأحمد الحنون بل كان كمن تلبسه شبح الانتقام..
فتراجعت تبتسم بألم و هي تردف بنبرة تحمل حسرتها تومأ برأسها كمن رأت حقيقته لتوها حقيقته التي لم تكن تريدها:
-و أنا ظننت ذلك أنت من شاهدته قبل قليلا يدعوه أحدهم بعديم الشرف...
انت من أردت قبل قليل قتل أحدهم أو جعله يقتلك...
يقف أمامها لا يخفي كرهه و لا حقده و قد تحول فجأة لصخر قاسي دمائه تفور بداخله يريد إما سيلانها أو أن يسيل دم أحدهم فحتى ابنته التي لا يملك غيرها و لا طالما حافظ على صورته الحسنة بنظرها طالتها أياديهم و جعلوها ترى نسخته الأخرى التي لا تعرفها...
اقترب منها يخبرها يشدد على كلامه بقسوة:
-لا دخل لك بما يحصل و لا أريد منك التجول بالقبيلة إلى أن أقرر ما سنفعل...
تركها تنظر اليه لا تصدق ما تسمعه فهي ابنة المدينة التي تعودت على الخروج متى أرادت يريد منها ان لا تغادر البيت...
تتساءل مما يخاف؟!
-هل من ذلك الرجل؟!
بينما غادرها هو يأمرها منهيا النقاش و غضبه منها لترجيها لصقر لا يزول:
-أدخلي إلى الداخل و تعرفي على عمتك... 
...............................  يقود سيارته بقلب مجروح رغم مرور السنوات باتجاه ذلك البيت..
حديثه مع ابنه لا يغادر تفكيره، يتذكر ذلك اليوم الذي عرف فيه بحكم عمه الهاشم، يتذكر ذلك الألم الذي عصف به شعوره وهو يختنق لمعرفته بأن تلك ستغادرها أنفاسها...
ذلك اليوم لا يغادره يعيشه مرارا و تكرارا...
توقف بعيدا عن وجهته ببضعة أمتار يتذكر ذلك الظلم و الحقد الذي رآهما بعيني ابنه...
-هل ستطول لعنة عشقه تلك الصبية البريئة؟!
تمتم بقهر يلقي بلومه عليها و كأنها تستمع له:
-أبنائك يا حور أرى طيفك بعيونهم أراك بداخلهم...
صاح بعدها بألم و هو يضرب مقود السيارة:
-ماذا أفعل كي أتخلص؟! ماذا؟!
يريد أن ينساها و كيف ينساها و هي التي سكنت القلب و العقل و الروح كيف ينساها و هو فقط يعيش على ذكراها كيف ينساها و هو يرنو اليها كمن يرنو لهلاكه دون إدراك... أثرها لا يمحى فخير أن يغلب طبعه الصمت مخافة أن يبوح باسمها سهوا من شدة الاشتياق...
مرارة الفراق لا تغادره فما يحياه أبشع من الموت فهو ينام و يستفيق على الوجع يسكب آهاته كل صباح من دون ان يظهر لأحد...
يوم ودعته حوره ودع معها فجره و نوره وحشة فقط ما تركتها خلفها و جثة تكابد ما ليس باحتمالها...
إن سألوه يوما أين راشد فسيرد راشد ظل حبيس لحظة الوداع و لحظة الوداع لن تعود و لا حتى  ما قبلها...
يا من خنتني يكفي انك لازلت في قلبي و خيالي نارا تصلى داخله...
فروحه ودعته أقسى وداع فجأة و دون لقاء...
و ها هو اليوم يقف حيث النسمات تحمل له دفأ أنفاسها
- فهل هو بقادر على اللقاء؟!
- هل سيقذف بركانه الخامد نيرانه؟!
-هل سيطفئ شوقه و ينتهي الفراق؟! 
................
أنا راشد، عاشق أنا منذ كنت طفلا...
أنا راشد، عاشق أنا لحور...
وعشقي أنا كان لعنة لن تزول....
عشقي أنا تحول لبحر أسود قد أغرق كل من كان له علاقة بحور...
بريء كان أم مذنب
فلعنتي أصابت كل القلوب...
أصابت طفلة بالمهد قد نفيت...
أصابت قلوب وانتزعت منهم داخلهم الرحمة...
أصابت أطفالا قد كبروا من دون حنان...
أصابت شيوخ قد كانوا يوما ما أشرافا...
أنا راشد مذنب أنا، وذنبي كان عشقا لم يكن له مكان عشقا قد تحول للعنة لا يوجد منها خلاص...
~نهاية الفصل التاسع~
~دمتم برعاية الله~
~نادين لطفي~


لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Jul 14 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

ميدوسا ابنة الظلام حيث تعيش القصص. اكتشف الآن