🔹️دخول الطاغية للكوفة
سار الخبيث الدنس من البصرة متجَّها إلى الكوفة، ليقترف أعظم موبقة لم يقترفها شقيٌّ غيره، وقد صحبه من أهل البصرة خمسمائة رجل.
نزل الطاغية فلبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وتلثمَّ، ليوهم مَن رآه أنهَّ الحسين )عليه السلام(، وسار وحده فدخل الكوفة, وأوهم الناس أنَّه الحسين )عليه السلام(، وقد تذرَّع الجبانُ بهذه الوسائل لحماية نفسه. وتنصُُّ بعض المصادر أنهَّ حبس نفسه عن الكلام، خوفاً من أن يعرفه الناس فتأخذه سيوفهم.
في قصر الإمار ة
أسرع الخبيثُ نحو قصر الإمارة وقد علاه الفزع, وساءَه كأشد ما يكون الاستياء من تباشير الناس وفرحهم بقدوم الإمام الحسين )عليه السلام(. ولمَّا انتهى إلى باب القصر وجده مغلقاً، والنعمان بن بشير مشرفٌ من أعلا القصر، وكان قد توهَّم أنّ القادم هو الحسين )عليه السلام(، لأنّ أصوات الناس قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته، فانبرى يخاطبه: ما أنا بمؤدٍّ إليك أمانتي يا بن رسول الله، ومالي في قتالك من إرْب.
ولمََس ابن مرجانة في كلام النعمان الضعف والانهيار، فصاح به بنبرات تقطر غيظاً: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك )14(. ولمَّا تكلَّم عرفه بعض مَن كان خلفه، فصاح بالناس: إنهّ ابن مرجانة وربِّّ الكعبة.
ومن الغريب أنّ ذلك المجتمع لم يمُيِّّز بين الإمام الحسين )عليه السلام( وبين ابنمرجانة، مع أنّ كلاًَّ منهما قد عاش فترةً في ديارهم، ولعل الذي أوقعهم في ذلك تغيير ابن زياد لبِّزَّته، ولبسه للعمامة السوداء, فإنّ الناس حينما علموا أنهّ ابن زياد، جفلوا وخفُّوا مسرعين إلى دورهم.
خطبة الطاغية في الكوفة
بادر ابن زياد في ليلته، فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الأموي، فأخذوا يحدُّثونه عن الثورة ويعرِّّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون معه المخطَّطات للقضاء عليها.
عندما انبثق نور الصبح، أمر ابنُ مرجانة بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير، وقد خيَّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلِّّداً سيفه ومعتماً بعمامة، فاعتلى أعواد المنبر، وخطب الناس فقال:
أمَّا بعد، فإنّ أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ ولاَّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشَّدَّة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البر الشفيق، وسيفي وسوطي على مَن ترك أمري وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد . ...
وحفل هذا الخطاب بما يلي:
1 ـ إعلام أهل الكوفة بولايته على مصرهم، وعزل النعمان بن بشير عنه .
2 ـ تعريفهم أنَّ حكومة دمشق قد عهدت له بالإحسان على مَن يتبع السلطة ولم يتمرَّد عليها، واستعمال الشدة والقسوة على الخارجين عليها.
لم يتعرض ابن مرجانة في خطابه للإمام الحسين )عليه السلام( وسفيره مسلم، خوفاً من انتفاضة الجماهير عليه وهو بعد لم يحُْكِّم أمره.
نشر الإرهاب
عمد ابن زياد إلى نشر الإرهاب وإذاعة الخوف.. يقول بعض المؤرِّّخين: إنهّ لمَّا أصبح ابن زياد بعد قدومه إلى الكوفة، صال وجال، وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة . وقد عمد إلى ذلك لإماتة الأعصاب، وصرف الناس عن الثورة .
وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس في المسجد, وخرج إليهم بزيٍّ غير ما كان يخرج به، فخطب فيهم خطاباً عنيفاً، تهدَّد فيه وتوعَّد، فقد قال بعد حمد الله والثناء عليه:
أمَّا بعد، فإنهّ لا يَصلح هذا الأمر إلاَّ في شدَّة من غير عنف، ولينٍ من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي
انتقال مسلم إلى دار هاني
تحوَّل مسلم إلى دار هاني, واضطر مسلم إلى تغيير مقرِّّه، وإحاطة نشاطه السياسي بكثير من السر والكتمان، فقد شعر بالخطر الذي داهمه حينما قَدِّم الطاغية إلى الكوفة، فهو يعلم بخبث هذا الوغد، وأنهّ لا يرجو لله وقاراً، ولا يتحرَّج من اقتراف الإثم، وقد أجمع أمره على مغادرة دار المختار، لأنهّ لم تكن عنده قوة تحميه، ولم يكن يأوي إلى ركن شديد، فالتجأ إلى دار هاني بن عروة، فهو سيد المصر وزعيمٌ مرادٌ ،وعنده من القوة ما يضمن حماية الثورة والتغلبُّ على الأحداث.
بثُّ الخوف بين أهل الكوفة
أوعز الطاغية إلى جماعة من وجوه أهل الكوفة أن يبادروا ببثِّّ الذعر ونشر الخوف بين الناس، وبين صفوف جيش مسلم، فأخذوا يشيعون الخوف، ويبثوُّن الأراجيف فيهم، ويظُهرون لهم الإخلاص والولاء، خوفاً عليهم من جيوش أهل الشام، فكان ممَّا قالوا:
أيُّها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين ـ يعني يزيد ـ قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير ـ يعني ابن زياد ـ العهد لئن أقمتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيتكم، أن حَرَمَ ذرُِّّيتَّكم العطاء، ويفُرِّّق مَقاَتِّلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلاَّ ذاقها وبال ما جرت أيديها) 18(.
وكان هذا التهديد كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة، فقد كان يحمل ألوانا قاسية من الإرهاب، وهي:
أ ـ التهديد بجيوش أهل الشام، فقد زحفت إليهم، وهي ستشيع فيهم القتل والتنكيل إنْ بقوا مصرِّّين على المعصية والعناد.
ب ـ حرمانهم من العطاء، وقد كانت الكوفة حامية عسكرية، تتلقَّى جميع مواردها الاقتصادية من الدولة .
ج ـ تجميرهم في مغازي أهل الشام، وزجهم في ساحات الحروب .
د ـ إنَّهم إذا أصرُّوا على التمرُّد، فإنّ ابن زياد سيعلن الأحكام العرفية، ويسوسهم بسياسة أبيه التي تحمل شارات الموت والدمار، حتى يقضي على جميع ألوان الشَّغبَ والعصيان.
وقام بقية عملاء السلطة بنشر الإرهاب وإذاعة الذعُّر، وكان من جملة ما أذاعوه بين الناس:
يا أهل الكوفة، اتقوا الله، ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقُّوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموها، وجربتم شوكتها .
وسَرَت أوبئة الخوف والفزع في نفوس الكوفيين، وانهارت أعصابهم، وكان الموت قد خيَّم عليهم، فجعل بعضهم يقول لبعض:
ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام؟ ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم) 19(!
هزيمة جيش مسلم
مُني جيش مسلم بهزيمة مُخزية، لم يحدث لها نظير في جميع فترات التاريخ، فقد هزمته الدعايات المضلِّّلة، من دون أن تكون في قباله أيَّة قوة عسكرية. ويقول المؤرِّّخون:
إنَّ مسلماً كلَّما انتهى إلى زقاق، انسلَّ جماعة من أصحابه، وفرُّوا منهزمين وهم يقولون: ما لنا والدخول بين السلاطين) 20(.
ولم يمضِّ قليل من الوقت حتى انهزم معظمهم، وقد صلَّى بجماعة منهم صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكانوا يفرُّون في أثناء الصلاة، وما أنهى ابنُ عقيل صلاته حتى انهزموا بأجمعهم، بما فيهم قادة جيشه، ولم يجد أحداً يدلهَّ على الطريق، وبقى حيراناً لا يدري إلى أين مسراه.
خطبة ابن زياد
ولمَّا أيقن الطاغيةُ بفشل ثورة مسلم، وتفلُّل قواته المسلَّحة، أمر بجمع الناس في الجامع، فتوافدت الجماهير وقد خيَّم عليها الذعر والخوف، فجاء الطاغية، وهو يرعد ويبرق، ويتهَّدَّد ويتوَّعَّد، فصعد المنبر وخطب .
وحفل هذا الخطاب) 21( بالقسوة والصرامة، وفيه هذه النقاط التالية:
أ ـ الحكم بالإعدام على كل مَن آوى مسلماً، مهما كانت لذلك الشخص من مكانة اجتماعية في المصر .
ب ـ إنّ ديةَّ مسلم تكون لمَن جاء به.
ج ـ إنّ مَن ظفر بمسلم تمنحه السلطة عشرة آلاف درهم.
د ـ إنّ مَن يأتي به يكون من المقرَّبين عند يزيد، وينال ثقته .
هـ ـ تكافئ السلطة مَن جاء به بقضاء حاجة له في كل يوم.
وتمنَّى أكثر أولئك الأوغاد الظفر بمسلم، لينالوا المكافأة من ابن مرجانة، والتقرُّب إلى يزيد بن معاوية )عليهم لعائن الله( .
شهادة مسلم )عليه السلام(
طوى مسلم ليلته حزيناً، قد ساورته الهموم، وتوسَّد الأرق، وكان ـ فيما يقول المؤرِّّخون ـ قد قضى شطراً من الليل في عبادة الله، ما بين الصلاة وقراءة القرآن، وقد خَفقََ في بعض الليل، فرأى عمَّه أمير المؤمنين )عليه السلام(، فأخبره بسرعة اللحاق به، فأيقن عند ذلك بدنو الأجل المحتوم منه .
وبعد أن جرت معركة غير متكافئة بين مسلم وبين أزلام ابن زياد، جُرح فيها مسلم وسقط على الأرض، فوقع في أسر أعدائه، وسلَّموه إلى الطاغية ابن زياد، فأمر بإلقائه من أعلى القصر .
استقبل مسلمُ )عليه السلام( الموتَ بثغرٍ باسم، فصعد به إلى أعلى القصر وهو يسبحّ الله ويستغفره بكل طمأنينة ورضا، و هو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا وأشرف به الجلادَّ على موضع الحذاَّئيين، فضَرَبَ عنقه، ورمى برأسه وجسده إلى الأرض
وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم، الذي يحمل نزعات عمِّّه أمير المؤمنين )عليه السلام(، ومُثلُ ابن عمِّّه الحسين )عليه السلام(، وقد استشهد دفاعاً عن الحق، ودفاعاً عن حقوق المظلومين والمضطَهدين.
و نترك الكوفة قليلا يعيث بها ابن مرجانة و يتتبع شيعة الحسين و يطاردهم و نعود الي مكة لنتابع السير مع ركب الحسين حتي الطف حيث المأساة الكبري بأقصي ما يمكن من الاختصار، لأن تلك المأساة قد كتب فيها المحبون و غيرهم عشرات الكتب، و ما زالت حية و أمثولة رائعة من اروع ما قدمه الإنسان حتي اليوم في ذهن القريب و البعيد .
لقد ذكرنا في الصفحات السابقة ان الحسين )ع( قد دخل مكة في الايام الاولي من شهر شعبان سنة ستين من الهجرة، و كان قد سبقه اليها بأيام قلائل عبد اللَّّ بن الزبير الذي كان كما يدعي المؤرخون ساخطا علي ولاية يزيد، و كان وجود الحسين في مكة ثقيلا عليه، لأن الناس لا يرونه شيئا و لا يحسون بوجوده ما دام الحسين موجودا، و كان هو يعرف ذلك، و يعلم بأن المسلمين لا يعدلون بالحسين احدا، و خلال المدة التي اقامها الحسين في مكة كان لا يفارق مجلسه يحدثه و يستمع منه، و لما بلغه موقف اهل الكوفة و رسائلهم نصحه بالشخوص اليهم و اجابة طلبهم، و قال له: لو كان لي مثل انصارك ما ترددت لحظة واحدة في اجابتهم و حتي لا يكون متهما عند الحسين في قوله هذا كان بعد ما يشير عليه بالذهاب الي الكوفة و يرجحها له و يتمني ان يكون له مثل انصاره فيها و حتي لا يكون متهما يقول له: و إن شئت فأقم هنا
و نحن نبايعك و نقف الي جانبك حتي الموت .
و لم تكن لتخفي علي الحسين )ع( دخيلته و ما ينطوي عليه من غدر و دجل و نفاق، كما لم تخف عليه المصلحة فيما عزم عليه ليستمدها من ابن الزبير و أمثاله، بل كان علي ثقة من امره في كل ما عزم عليه و تحرك من اجله محيطا بكل جوانب الموقف و نتائجه .
لقد رأي ان اقراره لبيعة يزيد يشكل خطرا علي الاسلام لا يمكن تلافيه و رأي الانظار تتجه اليه من كل جانب و تنتظر موقفه الاخير منها، و كان يعرف عن أهل العراق اكثر مما يعرفه غيره من الناس، لقد حمل هو و أبوه و أخوه مرارة غدرهم و تخاذلهم، و لم يكن يحتمل ان ينتصر بهم عسكريا علي يزيد و أنصار يزيد، و لكنه كان يري ان عليه ان يسجل موقفا كريما من ولاية الظالمين كيزيد و غيره و لو بقتله و قتل اطفاله، و سبي نسائه حتي لا يتسرب الي الاذهان إن الإسلام الذي يجسده الحسين )ع( يسمح بمثل هذه الولاية .
لقد عزم علي الخروج الي العراق مهما كانت النتائج و كان مسلم بن عقيل رضوان اللَّّ عليه قد كتب اليه يستعجله القدوم و يخبره بما رأي و سمع من اقبال الناس عليه و إلحاحهم في طلبه. و قد علم يزيد و أعوانه بكل ما يجري في الكوفة فاستغلوا موسم الحج و دسوا عددا كبيرا من اجهزتهم لقتله و لو كان متعلقا بأستار الكعبة و لما احس بذلك أحل من احرامه و خرج من مكة في اليوم الثامن من ذي الحجة قبل ان يتم حجه مخافة ان يقتل في الحرم فيضيع دمه و لا يعطي ما اعطاه قتله بالنحو الذي تم عليه من النتائج التي أقضت مضاجع الطغاة و الظالمين .
و لو تمكنت اجهزة يزيد من اغتياله في الحرم كما امرهم بذلك،و هو يصلي في بيت اللَّّ لقالوا و أشاعوا انه اغتيل بسيف خارجي، و تبرأوا من دمه كما تبرأوا من دم ابيه و راجت مقالتهم حتي اصبحت و كأنها من حقائق التاريخ .
و جاء في المرويات التي وصفت خروجه من مكة و وداعه لاخيه محمد ابن الحنفية انه قال لاخيه محمد في الليلة التي اراد الخروج في صبيحتها: يا اخي لقد خفت ان يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت .
و في اليوم الثامن من ذي الحجة كما ذكرنا كان الحسين قد احرم للحج فطاف بالبيت سبعا و سعي بين الصفا و المروة و قصر من شعره و أحل من احرامه و خرج بمن معه من اخوته و أبناء اخوته و بني عمومته و أصحابه و نسائه، فكان الناس يخرجون الي عرفات و الحسين خارج من مكة في طريقه الي العراق. و جاءه ابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فنهاه عن الخروج و حذره من غدر أهل الكوفة و تخاذلهم، و أشار عليه ان يتجنبهم فأبي الا المضي في طريقه، كما جاءه عبد اللَّّ بن العباس و حذره من غدر اهل العراق، و ذكره بماضيهم الاسود مع ابيه و أخيه، فأصر علي رأيه، فقال له ابن عباس: اما و اللَّّ لو اعلم اني ان اخذت بشعرك و تلابيبك و صحت حتي يجتمع الناس علينا، انك
تطيعني و تنصرف عن رأيك لفعلت، فرد عليه الحسين بقوله: ذاك امر قد قضاه اللَّّ و لا بد من تنفيذه.
و لما يئس ابن عباس من تراجعه ودعه و بكي، و في طريقه رأي ابن الزبير فقال:
يا لك من قبرة بمعمر*خلا لك الجو فبيضي و اصفري و نقري ما شئت ان تنقري*هذا حسين خارج فأبشري
و لم يكن ابن عباس وحده الذي نصح الحسين بالعدول عن الكوفة و حذره من غدرهم و نفاقهم فقد نصحه ايضا ابن جعفر و محمد بن الحنفية و عبد اللَّّ بن مطيع، و كان عبد الله قد التقي به خارج مكة، فقال له: اذكرك اللَّّ في حرمة الإسلام ان تنهتك، انشدك اللَّّ في حرمة قريش و ذمة العرب، و اللَّّ لئن طلبت ما في ايدي بني امية ليقتلنك و لئن قتلوك لا يهابون
بعدك احدا فلا تأت الكوفة و لا تعرض نفسك لبني امية .
و ممن اشار عليه ان لا يأتي الكوفة عبد اللَّّ بن عمر و كان قد سمع بخروجه من مكة فركب راحلته و خرج يطلبه مسرعا فأدركه في بعض المنازل، فقال له: اين تريد يا ابن رسول اللَّّ؟قال : العراق، فقال: ارجع الي حرم جدك، فأبي عليه، فلما رأي اصراره قال: يا ابا عبد اللَّّ اكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللَّّ يقبله منك، فكشف له الحسين عن سرته فقبلها عبد اللَّّ بن عمر ثلاثا و بكي، ثم قال:
استودعك اللَّّه يا ابا عبد اللَّّه.
و كان آخر ما اجاب به المشيرين عليه بالبقاء في مكة: ان وجوده في مكة و غيرها لن ينجيه من بطش الأمويين، و انهم لا يزالون به حتي يبايع يزيد او يقتل حتي انه لو دخل في جحر ضب لدخلوا وراءه علي حد تعبير الراوي .
و مضت قافلة الحسين )ع( في طريقها الي العراق تاركة وراءها اولئك المشيرين عليه بالبقاء في الحجاز يتلوون ألما لحاله و ينتظرون له المصير المحتوم علي ايدي اولئك الطغاة، و فيما هو يسير و اذا به يلتقي بالفرزدق الشاعر فيسأله عن أهل الكوفة، فيقول له: يا ابن رسول اللَّّه عد الي مكة فإن ألسنة القوم و قلوبهم معك، اما سيوفهم فمع بني امية عليك و القضاء ينزل من السماء و اللَّّ يفعل ما يشاء، فقال له الحسين )ع( : ما قضي كائن لا محالة، و تركه و مضي، و استمرت قافلته في طريقها و كلما رأي رجلا في الطريق سأله عن أهل العراق حتي احيط علما بكل ما جري و بقتل مسلم بن عقيل و هاني ء بن عروة و ما سبق ذلك و تلاه من أحداث كما جاء في ص 216 و 217 من المجلد السادس تاريخ الطبري.
و جاء في أكثر المرويات التي تحدثت عن رحلة الحسين إلي كربلاء أنه لما نزل الثعلبية عند المساء لحقه اثنان من بني أسد فسلما عليه و أخبراه بما جري لمسلم و هاني ء فاسترجع مرارا، ثم قالا له: ننشدك اللَّّ في نفسك و أهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا فانه ليس لك في الكوفة ناصر و لا شيعة
عقيل و قالوا و اللَّّ نبرح حتي ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم، فنظر إليهم الحسين )ع( و قال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، قالا فعلمنا أنه قد عزم و لن يتراجع .
و قال له بعض اصحابه: و اللَّّ ما أنت كمسلم بن عقيل و لو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع، و في زبالة بلغه مقتل عبد اللَّّ بن يقطر، و كان قد كتب معه كتابا لمسلم بن عقيل و جماعة من أهل الكوفة، و ذلك قبل أن يبلغه مقتل مسلم بن عقيل، فقبض عليه الصحين بن نمير في القادسية و أرسله الي عبيد اللَّّ بن زياد، فقال له:
اصعد المنبر و العن الحسين و أباه ثم انزل لأري رأيي فيك، فصعد عبد اللَّّه المنبر فلما اشرف على الناس لعن معاوية و يزيد بن معاوية و عبيد اللَّّه بن زياد ثم قال:
أيها الناس إني رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللَّّه )ص( إليكم لتنصروه و تؤازروه علي ابن مرجانة و ابن سمية الدعي، فأمر به عبيد اللَّّه و ألقي من فوق القصر فتكسرت عظامه، فجاءه رجل و ذبحه فعاب الناس عليه ذلك .
و جاء في تاريخ الطبري ان الحسين )ع( لما بلغه مقتل مسلم و هاني ء و عبد اللَّّه بن يقطر و توالت عليه أخبار الكوفة و تحيزها لصالح بني أمية وقف خطيبا فيمن كان معه من أهله و أصحابه و من انضم إليه في الطريق من الأعراب و أصحاب المطامع و أخبرهم بواقع أهل الكوفة و خذلانهم إياه، ثم قال: فمن أحب منكم الانصراف فليس عليه منا ذمام، فتفرق الناس عنه يمينا و شمالا حتي بقي في أصحابه الذين خرجوا معه من المدينة. و إنما فعل ذلك لعلمه بأن من انضم إليه في الطريق من الأعراب و سكان البادية قد انضموا إليه لظنهم أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهلها، فكره أن يسيروا معه بهذا الواقع، لأنه مقبل علي خطر لا تثبت له غير النفوس التي تؤثر الآخرة علي الدنيا و لا تري الحياة مع الطغاة و الظالمين الا شقاء و برما .
و فيما هو يسير بمن بقي معه من خلص اصحابه و أهل بيته و بني عمومته و إذا بالحسين و صحبه يرون أشباحا مقبلة من مسافات بعيدة، و ظنها بعضهم أشباح نخيل الكوفة و أشجارها، ثم حدق الحسين )ع( في تلك الأشباح التي تقترب من قافلته، فقال: ليست الكوفة و لا نخيلها كما تظنون بل هي هوادي الخيل و أسنة الرماح و أشباح الجنود، و خلال لحظات قليلة تبين للركب أن تلك الأشباح المطلة عليهم هي ألف فارس من جند ابن زياد بقيادة الحر بن يزيد الرياحي أرسلها ابن زياد لتقطع الطريق علي الحسين )ع( و تسيره كما تريد، و لما اقتربوا من ركب الحسين )ع( سألهم عن المهمة التي جا ؤوا من أجلها، فقال لهم الحر: لقد أمرنا أن نلازمكم و نجعجع بكم حتي ننزلكم علي غير ماء و لا حصن، أو تدخلوا في حكم
يزيد و عبيد اللَّّه بن زياد، و جري حوار طويل بين الطرفين و جدال لم يتوصلا فيه لنتيجة حاسمة ترضي الطرفين، فلقد أبي الحر أن يمكن الحسين من الرجوع إلي الحجاز أو سلوك الطريق المؤدية إلي الكوفة، و أبي الحسين )ع( أن يستسلم ليزيد و ابن زياد، و كان مما قاله الحسين و قد وقف بينهم خطيبا بعد أن قدمه الحر ليصلي بعامة الناس، قال: إني لم آتكم حتي أتتني كتبكم و توالت علي رسلكم و رسائلكم، أما إذا كرهتموني فاني مستعد لأن أرجع إلي الحجاز أو أذهب في بلاد اللَّّ العريضة، و أمر عقبة بن سمعان بأن يخرج له كتب القوم، فقال له الحر: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا لك يا أبا عبد اللَّّه
و تابعت القافلة سيرها و الحر يحاول منعها من دخول الكوفة، و حاول أنصار الحسين )ع( احراجه و جره إلي معركة في قلب الصحراء و كان زهير بن القين متحمسا لذلك فقال للحسين )ع( : إن قتالهم الآن أيسر علينا من قتال غيرهم، و رفض الحسين هذه الفكرة لأن القوم لم يعلنوا حربا عليه، و قال: ما كنت لأبدأهم بالقتال، و ما هي إلا أيام قلائل سار فيها الطرفان في تلك الصحراء الفسيحة و الحر يساير الحسين و يحذره من قتال بني أمية و يذكره بغدر أهل الكوفة و مواقفهم مع أبيه و أخيه، و إذا بعمر بن سعد قد خرج من
الكوفة في جيش تقدره بعض المرويات بثلاثين ألفا و بعضها بأكثر من ذلك، و في رواية ثالثة أن ابن زياد قد استنفر الكوفة و ضواحيها لحرب الحسين و توعد كل من يقدر علي حمل السلاح بالقتل و الحبس إن هو لم يخرج لحرب الحسين، و كان من نتائج ذلك أن امتلأت السجون بالشيعة و اختفي منهم جماعة، و خرج من خرج لحرب الحسين من أنصار الأمويين و أهل الأطماع و المصالح و كانوا يشكلون أكبر عدد في الكوفة، أما رواي ة الخمسة آلاف مقاتل التي تبناها بعض المؤرخين، فمع أنها من المراسيل لا تؤيدها الظروف و الملابسات التي تحيط بحادث من هذا النوع الذي لا يمكن لأحد أن يقدم عليه إلا بعد أن يعد العدة لكل الاحتمالات و يتخذ جميع الاحتياطات و بخاصة اذا كان خبيرا بأهل الكوفة و تقلباتهم و عدم ثباتهم علي أمر من الأمور .
و مهما كان الحال فلقد قطعت الجيوش الزاحفة من الكوفة الطريق علي الحسين )ع( و اضطرته إلي النزول في كربلاء في مكان لا يصلح للحرب و بعيد عن الماء و أخذوا يشددون عليه الحصار و حالوا بينه و بين الماء حسب الأوامر التي صدرت إليهم من عبيد اللَّّ بن زياد، و لما رأي الحسين )ع( كثرتهم و تصميمهم علي قتاله إذا لم يستسلم ليزيد بن معاوية تعمم بعمامة رسول اللَّّ )ص( و ركب ناقته و أخذ سلاحه ثم دنا من معسكرهم بحيث يسمعون صوته و راح يسألهم بعد أن حمد اللَّّ و أثني عليه بما هو أهله عن كتبهم التي أرسلوها إليه و عهودهم التي قطعوها علي أنفسهم، و لما أنكروا قوله أمر بإحضارها و كانت في خرجين كبيرين فنثرها بينهم و هم يرون و يسمعون و نادي كل من كتب إليه باسمه و كان بينهم عدد كبير ممن كتبوا له و عاهدوا اللَّّ علي نصرته بكل ما لديهم من حول و طول فصمتوا عند ذلك و لم يجيبوه، ثم سألهم لماذا يريدون قتله هل لثأر لهم عنده، أم لمال اغتصبه منهم، أم لبدعة أدخلها في دين الإسلام، وراح ينادي رجالا بأسمائهم يسألهم: هل يعرفون علي ظهر الأرض كلها ابن بنت نبي غيره، و هل سمعوا جده نبيهم يقول: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و مضي يقول لهم: إذا كنتم لم
تسمعوا ذلك من الرسول )ص( ففي المسلمين اليوم من اذا سألتموهم اخبروكم بأن النبي )ص( قد قال ذلك مرارا كجابر بن عبد اللَّّ الأنصاري و زيد بن أرقم وعد لهم جماعة من أتقياء الصحابة، ثم قال في ختام حديثه: فإن كنتم تنكرون كتبكم و تنقضون عهودكم فدعوني أرجع إلي المكان الذي خرجت منه أو أذهب في أرض اللَّّ الواسعة، أو التجي ء الي ثغر من الثغور اجاهد فيه الكفار و المشركين حتي أموت، قال ذلك لالقاء الحجة عليهم .
و لكن القوم مع ذلك كله ابوا إلا الاصرار في غيهم و التمادي في باطلهم، و أجابوه بمثل ما أجاب به أهل مدين نبيهم كما حكي اللَّّ عنهم في كتابه: ما نفقه كثيرا مما تقول، و أنا لنراك فينا ضعيفا، فإما أن تستسلم لابن زياد يري فيك رأيه أو نقاتلك قتالا ادناه قطف الرؤوس و قطع الأيدي و الأرجل.
و عاد الحسين )ع( إلي مضاربه حزينا يقول لأصحابه: ان القوم قد اصروا علي القتال و لا يريدون غيري فان ظفروا بي لا حاجة لهم بكم، فإذا جن الليل فليذهب كل منكم إلي حيث يأمن و دعوني و هؤلاء القوم .
و أبي أصحابه الأوفياء و أهل بيته البررة أن يفارقوه أو يبخلوا بأرواحهم عليه مع أنه قد تجسد لهم المصير و أصبحوا واثقين به، و الجود بالنفس أقصي غاية الجود، و قالوا له بلسان واحد: و اللَّّ لا نفارقك و لا نرضي بالعيش بعدك و لا بالدنيا بكل ما فيها بدلا عن الشهادة بين يديك. و قال له بعضهم: و اللَّّ يا ابا عبد اللَّّ لو أني أعلم بأني أقتل ثم أحيا ثم أقتل و أحيا يفعل ذلك بي سبعين مرة لت سلم أنت و من معك من هؤلاء الفتية ما ترددت في ذلك، و تكلم أصحابه و أهل بيته بكلام يشبه بعضه بعضا أكدوا فيه تصميمهم علي القتال و استبشارهم بالموت بين يديه، و تأثر الحر بن يزيد الرياحي بكلمات الحسين )ع( و ندم علي ما سبق منه معه، و راح يدنو بفرسه من معسكر الحسين تارة و يعود الي موقفه أخري و بدا عليه القلق و الاضطراب حتي قال له
أحد رفاقه: و اللَّّه ما رأيت منك مثل هذا الموقف أبدا و لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فعندها كشف له الحر عما يدور بنفسه، و قال: و اللَّّ إني أخير نفسي بين الجنة و النار و بين الدنيا و الآخرة، و لا ينبغي لعاقل أن يختار علي الآخرة و الجنة شيئا، ثم ضرب فرسه و التحق بالحسين و وقف علي باب فسطاطه فخرج إليه الحسين فانكب عليه الحر يقبل يديه و يسأله العفو و الصفح، ثم قال: أنا الذي جعجعت بك و حبستك عن الرجوع، و لو كنت أعلم أن القوم يصلون معك إلي هذا الحد ما فعلت، فهل تري لي من توبة؟فقال له الحسين : نعم يتوب اللَّّه عليك و هو التواب الرحيم، فقال له الحر: و اللَّّه لا أري لنفسي توبة إلا بالقتال بين يديك حتي أموت دونك، و مضي الي الحرب فتحاماه الناس، ثم تكاثروا عليه و قتلوه .
أنت تقرأ
الشهيد الحي
Ficción históricaتدور أحداث الراوية عن شخصية عظيمة قتلت قبل 1444سنة ولا زالت حاضرة وموجودة إلى يومنا الحسين بن علي بن أبي طالب ....