المقدمة

6.4K 96 8
                                    


قطعة معجنات بائتة!

ما أغرب الحياة.. حين تجلس متأملاً قطعة طعام يشبهك، لوت شفتيها ثم تراجعت فوق مقعدها وتأملت النادل وهو يمر بنشاط دؤوب على الجالسين.. هذا يختار القهوة وهذا العصير وقطعة المعجنات إلزامية. قانون شبيه بأشياء كثيرة في هذا الوطن. كان موعد القطار ما زال أمامه ساعة تقريباً. الجو غائم يوحي بجلسة صافية ولكن قهوتها السيئة والزحام كانوا من مفسدات اللحظات بجدارة.

فجأة بلا مقدمات شعرت بدقات متتابعة في صدرها، ركض خاص في القلب بلا سبب. حينها أيقنت شعورها.. هناك من ينظر له دون انقطاع.

لم تستطع أن تتبين ملامحه بشكل واضح حيث كانت جريدته تخفي نصف وجهه، يجلس في المائدة المجاورة لها، أمامه نفس قدح القهوة السيء وقطعة المعجنات التي لا يقربها أحد. عيناه الزرقاوتان تصوبان نحوها نظرة قاسية باردة وبعدها أزاح الجريدة لتصطدم بابتسامة كالمقبرة تطل من بين شفتيه. شعرت بتاريخ قاتم يهجم عليها، يركض خلفها رغبة في الفتك بها.

هربت من الفكرة، تجاهلت التشابه، ارتبكت أناملها فأسقطت بضع قطرات من القهوة الباردة فوق ملابسها فانزعجت واستقامت على الفور، لم تتوجه لدورة المياة بل دفعت الحساب وهربت من المطعم كله.

شعرت بيقظة كاملة توازي شعورها بالخوف، تماماً كالفرائس التي تتحرك بشجاعة الحياة ركضاً أمام الضاري. تشبثت براحة مزيفة توهمها بالانتصار. استقرت في مقعدها بالقطار، وراقبت ملامح الناس من النافذة فلم تجده، ارتاحت وفكرت أن تبتلع حبة مهديء تساعدها على النوم حتى يصل القطار إلى الإسكندرية وأقنعت حالها أن كل هذا ربما طاقة خيال مكبوتة داخلها. ولكن فجأة وبلا مقدمات لمحته أمامها مباشرة .. يقترب بثبات.. ببطء تام.. يتحرك كـ وحش غاضب بارد، قمة جبل ثلجي وسينهار فوق رأسها.

تجمدت حين شعرت به يستقر في المقعد المجاور لها وعطر قوي يخصه يخترق حاسة الشم لديها.

لم ينظر لها، بل اضجع ببساطة وأراح عنقه على حافة المقعد ثم وضع قناع نوم فوق عينيه وغاب في سكون.

لحظة.. اثنان.. ساعة!

أنفاسه منتظمة، نائم في هدوء مريب بينما هي لا تعلم لمَ مرتعبة..

التشابه.. التشابه..

ملامحه تتضح أكثر عن قُرْب، تبيح ذكريات مؤلمة لا تودّ أن تقابلها.

ولكن الذكريات الآن طلّت بقوة، خلعت عنها ترددها ومررت الحقيقة بوجه كامل.

هو.. أنه هو!

انكمشت.. تصلبت بين حيرة وخوف ورغبة في الهروب. استطاعت أن تسمع دقات قلبها

تحصيهم دقة دقة

دقة عشق

دقة خوف

دقة عنف

دقة غدر

ودقة يقين

واليقين وازى الإدراك والادراك دفعها لسحب حقيبتها بهدوء قدر استطاعتها كي تتخطاه وتهرب وحينها أيقنت أنه يسد مسار حركتها بقدميه.

وقبل أن تقرر ماذا ستفعل أو كيف شعرت بقسوة قبضته فوق ذراعها النحيل وقد نزع القناع والتمعت عيناه الزرقاوتان ببرود جاور همس ساخر صارم: - هشششششششش

نور *مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن