وتتكرر الأسطوانة.. والدي يوبخ مصطفى على تضييع وقته في لعب الألعاب الإلكترونية وإهمال دراسته.. لتكون ردود مصطفى مازحةً كالعادة.. فيزداد الآخر غضباً ظناً منه أنَّ مصطفى يستهزئ بنصائحه.. أحاول أن أبقيَ تعابيري جديةً لكيلا أزيدَ من انفعال والدي.. لكن الأمر في غاية الصعوبة.. فردودُ مصطفى الفكاهية ترغمني على عض شفتي لأقاوم ضحكتي.. أما والدتي فلم تستطع مقاومة ضحكتها.. رمقَها والدي بنظرة معاتبة.. لكنّ ذلك لم ينفع لإخماد ضحكاتها.. استسلمتُ للأمر وانخرطتُ في الضحك معها.. فلانت تعابير والدي رغماً عنه.. نهض مصطفى من مكانه وقصد والدي، انحنى وقبّل رأسه ليقول:ـ لا تنزعج، ما رأيك أن نلعب سوياً؟ إن فزتُ عليك فلا داعي لأن أدرسَ اليوم، وإذا خسرت فسَوف أدرسُ لساعةٍ كاملة.
حذّره والدي بنظرة حازمة، فضحك مصطفى ورفع كفّيه إلى الأعلى:
ـ حسناً، حسناً، يبدو أنّكَ واثقٌ من خسارتك.
مصطفى، الذي دخل في عامه السادس عشر قبل فترة قصيرة، يتحلى بحسٍّ فكاهيٍّ يجعله يواجه المصاعب بشكل مختلف.. فهو يتعامل مع غضب الآخرين ببشاشته.. وكذلك مع حزنهم وقلقهم.. لديه قدرةٌ على تبديل كل تلك المشاعر السلبية بأخرى إيجابية.. أذكر حين أضاع والدي محفظته ودخل إلى المنزل بوجهٍ متجهم.. لم نجرؤ أنا وندى على محادثته.. أما مصطفى فجلس بجانبه وَوضع ذراعه على كتفيه ليقولَ إنّه سمع عن وجود أثريّات تحت الأرض في ساحة كرة القدم.. وعرض عليه أن يذهبا ليحفراها ثم يبيعان ما يجدانه من أثرياتٍ ويعوّضان المال الذي أضاعه والدي.. لديه أسلوبٌ عفويٌّ وظريف يساعده على إخراج نفسه من المصائب بسهولة كما أنّهُ يهوّن من مصائب غيره.. وهذا ما يجعله قريباً لقلوب الجميع..
تبعتُه إلى غرفته حيث كان يستعد لبدءِ لعبة جديدة على هاتفه، فهِمَ أنّني أتيتُ لأجبره على الدراسة فتلحّفَ بالغطاء ليخفي رأسه وقال إنّه لن يدرس الآن.. تجاهلتُه وحملتُ حقيبته المدرسية لأضعها على سريره.. ثم جلستُ على طرف الفراش وأخرجتُ الكتب لأبحث عن واجباته الأخيرة..
ـ هيا، سأساعدك، وتعرف كم أنّني سخيةٌ بالمساعدة، لديّ ساعة واحدة، هل تستغلها أم تضيع الفرصة؟
رفع الغطاء عن وجهه ليقول:
ـ دعيني أقوم بتحدٍّ واحد مع مهند.
ـ تحدياتك لا نهاية لها، إما ندرسُ الآن أو تدرسُ بمفردك لاحقاً.
زفر بانزعاج واستقام في جلوسه.. ثم أخذ الكتاب منّي وانتقل بين الصفحات إلى أن وصل إلى الصفحة المطلوبة فوضعه بين يدَيّ وقال:
ـ اِشرحي، فلم أفهم شيئاً من هذا الهراء حين حاولتُ قبل يومين.
لم أعترف بالأمر يوماً.. لكن هذه اللحظات التي أقضيها في مساعدته لفهم الدروس هي من أحبّ الأوقات إلى قلبي.. ليس فقط لأنه يجعل الوقت ممتعاً بظرافته.. بل لأنني أقدم شيئاً لوالدي الذي يهلك نفسه بالعمل من أجل دراستنا ومستقبلنا.. هذا أقل ما أستطيع تقديمه كتقدير لتعبه.. أن أساعده على تأمين مستقبل لأخي الذي لا يفهم أهمية الشهادة في الوقت الحالي..