كانت عائلة نوح آخر من زارني في نهاية الأسبوع.. وأظن أن نوح السبب في تأخرهم إلى الآن.. فلقد لاحظ عدم ارتياحي لزيارات الأقرباء وتدهور حالتي النفسية كلما تطرق أحدهم للمواضيع الحساسة.. وحدها زيارات خالتي رؤى من كنتُ أتقبلها.. فرؤيتها كانت كافية لأن تخفف من تعبي النفسي.. جلست والدة نوح على الكرسي بعد أن قبلت وجنتَيّ وظلّ والده واقفاً مع ابنته الكبرى نهى التي كانت تحمل طفلاً رضيعاً بين ذراعيها.. يبدو أنها أنجبت أثناء غيبوبتي.. لقد أخبرني نوح عن نيتهم في الزيارة ليلة البارحة.. وتمنيتُ لو كان باستطاعته التواجد أثناء زيارتهم.. لكنه اضطر للذهاب إلى عمله.. عبّرت والدته عن سعادتها بتحسن حالتي قائلة:ـ لقد كنتُ قد يئستُ من رؤية الفرحة على وجه نوح من جديد، لكنها عادت مع استعادتكِ لوعيك، الحمد لله الذي لطف بحالكما وحالي.
أكملت نهى عنها:
ـ فرحته باستيقاظكِ أبكتنا جميعاً، لم يكن أحدنا يعرف حجم حبه لكِ إلا بعد تعرض حياتكِ للخطر، الحمد لله الذي ردّكِ إليه.
تقدم والدهم إليّ وقال بنبرة حنونة:
ـ البقية في حياتكِ بنيتي، أسأل الله أن يلهمكِ الصبر على فقدهم، أعرف أننا لن نستطيع سدّ الفراغ الذي تركوه لكننا أهلكِ الآن، ولن تقلّ منزلتكِ بيننا عن منزلة بناتنا، فلا تفكري للحظة أنكِ بلا سند أو أهل.
حاولتُ ابتلاع ريقي، بلا جدوى.. إنها كبيرة للغاية، غصتي..
قالت والدة نوح وهي تربت على يدي:
ـ استعيدي عافيتكِ بسرعة بنيتي لتزوري قبورهم، لا بد أنهم ينتظرون زيارتك.
هنا أنقطع سمعي.. وفقدت رئتاي هواءها.. وشعرتُ بوخزات في صدري كأنها إبر قد غرزتني في أماكن عديدة.. كما غرزت قطع الزجاج ظهر مصطفى الذي يرقد تحت التراب الآن.. بجانب أمي.. وأبي.. وندى التي كانت تنتظر نتيجة قبولها في قسم الصيدلة.. لكنها لم ترَ نتيجتها.. ولن تراها.. لأنها تحت التراب.. تحت.. التراب.. بجسدٍ يرتعش بانتفاضات مؤلمة حاولتُ تحريك ساقَيّ إلى حافة السرير.. شعرتُ بيدٍ تحاول الإمساك بي.. لكني أبعدتها ودفعتُ بجسدي إلى الحافة ففقدتُ توازني وسقطتُ إلى الأرض الصلبة ليشلّ جسدي من صفعة الألم التي تلقاها.. شهقتُ بصوتٍ عالي.. لكن ليس بسبب فقداني للهواء.. بل شهقة بكاءٍ خرجت من أعماقي التي تلوج وجعاً.. وكأن صفعة الأرض كانت صفعة من عقلي ليجعلني أستوعب الحقيقة التي تهربتُ منها طوال هذه الأيام.. حقيقة فقدي.. حقيقة موت جميع أفراد عائلتي.. شعرتُ بأيادٍ تحملني عن الأرض لكني لم أعد أرى أو أسمع.. كل ما أسمعه هو نشيجي وشهقاتي التي تغطي على كل الأصوات من حولي.. ثم شعرتُ بوخزة في ذراعي وبدأت الدنيا تدور بي.. هل سيرحمونني ويعيدوني إلى ذلك العالم؟..
*****
أنه يجلس على الكرسي.. رأسه يتدلى إلى الأسفل وعينيه مغمضتين.. شعره حليق ومرتب.. كذلك لحيته.. يبدو أنه لبّى طلبي.. كانت الغرفة شبه مظلمة.. وحده المصباح الصغير على الطاولة مشتعل.. لو أطفأته فسيكون المكان أشبه بتلك الأحلام.. مع الاختلاف أنني أصبحتُ أعرف من هو الزائر.. إنه ذلك الذي تكاد رقبته تنكسر من طريقة نومه غير المريحة.. لكن لمَ ينام هنا الليلة؟.. ثم تذكرت ما حصل قبل أن يتمّ تنويمي.. لقد زارتني عائلته و...
ضاق بي النفس بشكل مفاجئ ففتحتُ فاهي أشهق الهواء بصعوبة.. وضعتُ يدي المرتعشة على صدري الذي أخذ يرتفع ويهبط بسرعة.. بلا جدوى.. فالاختناق لم يزل.. همستُ بصوتٍ مبحوح:
ـ نوح..
الهواء.. إنه لا يدخل رئتَيّ.. وكأنه ظلّ الطريق..
ـ نوح..
سمعتُ حركة من مكانه ثم خطوتان سريعتان باتجاهي، ظهر وجهه القلِق أمامي وهتف:
ـ براءة، هل أنتِ بخير؟
تقطع صوتي وأنا أقول:
ـ أهلي.. إنهم تحت.. التراب..
مسح دموعي التي سالت دون شعور مني وحوط رأسي بكفيّه قائلاً:
ـ هوني على نفسكِ حبيبتي، لا تفكري بهذا الأمر الآن.
ـ إنهم تحت.. التراب.. هل هو بارد.. هل هو قاسي؟ هل..
اشتدت نوبة بكائي وفقدتُ القدرة على الحديث فجذبني نوح إليه يضمني ويهدئني.. لكن لا شيء يستطيع تهدئتي.. فرأسي ممتلئ بصور يشيب لها الرأس.. هل تم تغسيل مصطفى برفق أم آذوا جروحه الكثيرة؟.. كيف كانت حال أجساد والدَيّ وندى؟.. أي آلامٍ ذاقوها قبل أن تفارق أرواحهم أجسادهم؟.. هل تشبه آلامي الآن أم أنها أعظم؟.. كنتُ في حالة هستيرية لم يستطع أحد إيقافها.. سوى إبرة المهدئ التي أدخلتني الظلام من جديد..