لقد اندهشت حين وجدت نزاعاً عنيفاً ينشب بين المسلمين حول علي و عمر -رضي الله عنهما- و كانت الأعصاب متوترة والضغائن منبوشة. وكنت أتحدث مع أحد الأمريكيين حول هذا النزاع الرقيع. فسألني الأمريكي عن علي وعمر: هل هما يتنافسان الآن على رئاسة الحكومة عندكم كما تنافس «ترومين وديوي» عندنا؟
فقلت له: إن علياً وعمرَ كانا يعيشان في الحجاز قبل ألف وأربعمائة سنة، وهذا النزاع الحالي يدور حول أيهما كان أحق بالخلافة !
فضحك الأمريكي من هذا الجواب حتى كاد أن يستلقي على قفاه, وضحكت معه ضحكاً فيه معنى البكاء. وشر البلية ما يضحك !"
.
ليس في هذه الدنيا شيء يمكن أن يتلذذ به الإنسان تلذذا مستمرا. فكل لذة،مهما كانت عظيمة تتناقص تدريجيا عند تعاطيها. وهذا هو ما يعرف في علم الاقتصاد الحديث بقانون"المنفعة المتناقصة.
.
التاريخ في القرآن عبارة عن صراع مرير بين رجال من طراز فرعون و رجال من طراز موسى. وفي كل زمان موسى وفرعون. فالتاريخ إذن لا يهدأ ولا يفتر. فهو يطلع علينا في كل يوم بطور جديد ينسينا الماضي و يحركنا نحو المستقبل.
.
أشار بعض المفكرين إلى أن الجنة التي وعد بها المتقون لا بد أن تكون أشقى مكان في الكون. إذ ليس فيه إلا إخوان على سرر متقابلين، يأكلون ويشربون ويتناكحون ولا يفعلون سوى ذلك شيئاً.
إنهم سوف يسأمون من هذه الحياة الرتيبة إذا مضت عليهم سنة واحدة فكيف بهم إذا استمروا فيها إلى الأبد خالدين؟.
.
بني أميّة كانوا أكثر الناس عداءً للإسلام في بدء أمره على مدى ٢٠ سنة، ومن عجائب الدهر أن يحكموا الاسلام بعد ٢٠ سنة من وفاة النبي.
.
ولكن الإنسان لا يكتفي بهذا إذا وصل إليه. فهو سيبقى راكضاً وراء حاجات أخرى. وحين يشبع الإنسان يفقد أهم عناصر الحركة الضرورية لحياته الاجتماعية كما أسلفنا. (...) إن الإنسان في حركةٍ دائبة وتطور متواصل. وهذا هو سر حضارته. فإذا رأيته اليوم يمسك رغيف الخبز ويضعه على جبهته قائلاً: "الحمد لله على نعمته"، فاعلم أنه سوف لن يفعل ذلك في يومٍ مقبل. ولعلّه سيقبّل وجنة الحسناء بدلاً من الرغيف. وربّما قبّل بعد ذلك وجنة "رزمة الدنانير" بلا حمد ولا شكر.
.
إن التماسك الاجتماعي والجمود توأمان يولدان معاً. ومن النادر أن نجد مجتمعاً متماسكاً ومتطوراً في آن واحد.
.
الفكر البشري حين يتحرر ويخرج على التقاليد لا يستطيع أن يحتفظ بطابع اليقين على أية صورة. إنه حين يشك في أمر واحد من أمور حياته لا يستطيع أن يقف في شكه عند هذا الحد. فالشك كالمرض المعدي لا يكاد يبدأ في ناحية حتى يعم جميع النواحي. والإنسان إذ يكسر تقليداً واحداً لابد أن يأتيه يوم يكسر فيه جميع التقاليد. وهو بذلك قد استفاد من جهة وتضرر من جهات أخرى.
.
لو أن أبا بكراً وعلياً ظهرا الآن ثم قيل للمسلمين: إختاروا أحدهما، لرأينا المسلمين يتركونهما جميعاً ويفرون إلى صاحبهم معاوية حيث ينعمون عنده بالطبيخ الدسم والترف الوثير. إن معاوية بقصوره الباذخة وموائده العامرة وأمواله الفائضة أقرب إلى قلوبهم من علي أو من أبي بكر أو من أي حاكم آخر يريد أن يحكم بين الناس بالعدل.
.
كلنا ننادي بالحق و الحقيقة عندما نخطب او نتجادل أو نتلو القصائد الرنانة . و لكننا نفعل ذلك لاننا نشعر في قرارة انفسنا بأن هذه الاقوال التي نتشدق بها سليمة لا ضرر منها و لا مسؤلية عليها . حتى إذا جد الجد و صار الحق معارضا لما نحن فيه أسرعنا إلى جعبتنا المملوءة بالأدلة العقلية و النقلية فأخترنا منها ما يلائم موقفنا و صورنا الحق بالصورة التي ترضينا. ثم لا ننسى بعد ذلك أن نواصل تلاوة القصائد الرنانة من جديد.
.
والغريب ان وعاظ السلاطين يذمون كل فتنة تقوم في وجه السلطان فاذا نجحت واستتب الامر لها اذ هم يطلبون من الناس اطاعة السلطان الجديد وينسون بذلك طاعة ولي امرهم السابق.
.
لقد بعث محمد (ص) في العالم تدافعاَ اجتماعياً حرك الاذهان و أنمى الحضارة. و كان المجتمع الإسلامي في أول أمره كالمرجل يغلي فتنبعث منه الأفكار الجديدة و الحركة الدافقة. و لكن السلاطين أخمدوا أنفاسه و خدروا عقول الناس بالمواعظ الرنانة التي من شأنها تبرير عمل الحاكم و وضع اللوم على المحكوم.
.
و ينتشر اللواط أيضا بين الرهبان الذين ينقطعون لعبادة ربهم في الأديرة المنعزلة. وهو ينتشر كذلك بين رجال الدين الذين يعيشون في مراكز دينية تتحجب المرأة فيها أو يقُّل وجودها. وقد نجت بعض المراكز الدينية في إيران من هذه العادة لشيوع زواج المتعة فيها، فرجل الدين هناك يشبع شهوته عن طريق المتعة، وبذلك يقل تطلعه نحو الغلمان.
.
رضي علي بخلافة الشيخين. ولكن إخوان الشيعة لا يرضون لما رضي به إمامهم. وكأنهم يريدون من إمامهم أن يغضب على الشيخين و أن يلعنهما لأنهما فوتا عليه الخلافة. ومما يفت النظر أن معاوية صور علياً بهذه الصورة المغلوطة لكي يصطاد بها ما يشاء من غنيمة باردة، ثم جاء الشيعة أخيرا فأخذوا برأي معاوية و أهملوا رأي علي مع الأسف الشديد.
.
إذا انشغل الناس في المفاضلة بين رجال أحياء كان ذلك دليلا على حيوية المجتمع. وهذا هو ما يجري الآن في البلاد الراقية حيث يدور الجدل في أوقات الانتخاب حول فضائل رجال السياسة أو أمثالهم ليعرف الناس ما لهم وما عليهم. أما إذا اختلف الناس في فضائل رجال أموات كان ذلك دليلا على مرض المجتمع و اقترابه من الموت. ولا يهتم بالموتى إلا الذي يريد أن يموت و يذهب إلى حيث يعيش الموتى عليهم رحمة الله.
.
أما الفرد الذي يعيش في مجتمع راكد فمن لذائذه الخاصة أن يمتاز على أقرانه بشيء من الفهم, وعند ذلك يضع ساقًا على ساق فيتباهى بعلمه الغزير, ثم يطلق الحسرات لينبئ بها عن شقائه ( السعيد).
.
وإذا ضعف التنازع في جماعة ما ، ضعف التعاون فيها أيضاً.
.
يقول شيلر في وصف المنطق القديم: (إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة, والآراء يجب أن تكون متفقة. فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها. فإذا كنت ضدها فأنت هالك. أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك. إنك محق إذا غضبت على اولئك الذين يجادلون في الحقيقة. الحقيقة حقيقتك أو هي بالأحرى أنت إذا جردّت نفسك من مشاعرك البشرية).
.
الواقع أن البشر لن يصلوا إلى الأهداف الإجتماعية التي ينشدونها. فهم سيظلون دائبين في حركتهم نحو تلك الأهداف. و سر الحياة الإجتماعية كامن في هذه الحركة الدائبة. فلو أن البشر وصلوا إلى ما ينشدون لوقفت الحياة بهم و لفنيت الحضارة.
.
ان الشيء لا يمكن معرفته إلا بواسطة نقيضه.
.
انه بشر وسيظل بشر -الحكام- لهذا فهو يحتاج دائماً اثناء حكمه الى من ينتقده ويتحرى عيوبه لكي يكون صالحاً فى الحكم الى حد ما اما اذا اعتمد ع حسن نيته قضى ع كل من يعارضه فمصيره لن يختلف عن مصير ما سبقوه يحذو حذوهم كما يحذو احدهما حذو الاخر.
.
بدأ الإسلام في أول أمره ديمقراطياً لكن الديمقراطية اختفت منه بعدما رفع معاوية المصاحف وقال للمسلمين: تعالوا نحتكم إلى كتاب الله. وكانت نتيجة الاحتكام إلى كتاب الله أن تولى يزيد أمر المسلمين وقال:
لعبت هاشم بالملك فــلا ... خبر جاء ولا وحي نزل.
.
إنها مسألة عدل اجتماعي ينعم به سواد الناس. وليست هي مسألة خاصة. وهنا يتبين منشأ التطرف في عقيدة الشيعة وأهل السنة. أولئك يبغضون عمر وينسون عدله وهؤلاء يحبون معاوية وينسون ظلمه. وبين هؤلاء وأولئك ضاعت النمرقة الوسطى.
.
لم يخلق الله مهزلة تستوجب الضحك كالعقل البشري.
.
و الظاهر ان الانسان مجبور على التنازع في صميم تكوينه فاذا قل التنازع الفعلي في محيطه لجأ الى اصطناع تنازع وهمي ليروح به عن نفسه.
.
شاء الله أن يظهر في الإسلام رجلان مختلفان هما معاوية و علي. أحدهما أسس الدولة المترفة في الإسلام و الآخر بذر بذور الثورة عليها.
.
هناك فرق كبير بين المشعوذ و المصلح . فالمشعوذ ينشد الجاه بين قومه ، وهو لا يبالي أن يكونوا على حق أو باطل. إنه يتظاهر بحب الإصلاح، ولكنه يحب مع ذلك أن يتصدر في المجالس و أن يقوم الناس له إجلالاً. ومعنى هذا أنه طالب جاه وليس طالب إصلاح.
.
كان الفقهاء قديما يقولون : لا اجتهاد في معرض النص ، ويمكن أن يقال حديثا : لا اجتهاد فيما تقرره أكثرية الأمة.
.
إن موكب التاريخ سائر، دائب في سيره. وهو لا يعرف التفاضل على أساس المقاييس الاعتباطية التي يتخيلها الفلاسفة من أصحاب البرج العاجي. ومن لا يساير الزمن داسه السائرون بأقدامهم، إذ هو يستغيث فلا يسمع استغاثته أحد.
.
يخيل الى بعض المغفًّلين من المفكرين أن المجتمع البشري قادر على ان يكون مطمئناً مؤمناً متمسكاً بالتقاليد القديمة من جهة, وان يكون متطوراً يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الاخرى. وهذا خيال غريب لا ينبعث إلا في أذهان اصحاب البرج العاجي الذين يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه.
.
إنَّ المجتمع البشري لا يستطع أن يعيش بالاتفاق وحده, فلا بدَّ أن يكون فيه شيء من التنازع أيضًا لكي يتحرك إلى الأمام.
.
إن كل شيء يحتوي على نقيضه في تصميم تكوينه وأنه لا يمكن أن يوجد إلا حيث يوجد نقيضه معه/ هيجل.
.
الشك وحده لا يكفي للإصلاح،ولابد للمصلح الذي يشكك في نظام قديم، أن يأتي للناس بنظام أصح منه.
.
إن التفكير والقلق صنفان لا يفترقان.
.
ميزة الفلاسفة أنهم يتكلمون فلا يردّ عليهم أحد مخافة أن يتهمه الناس بالغباوة.
.
إن كل داعية من دعاة الإصلاح لابد أن يفرق بدعوته الجديدة جماعة الأمة ويمزّق شملها؛ إنه يفرقها لكي يجمعها من جديد على قاعدة جديدة، ولهذا وجدنا كل حركة اجتماعية في التاريخ بانية وهادمة في آن واحد، فهي تهدم النظام القديم لكي تحل محله نظامًا جديدًا أقرب إلى روح العدل مما مضى.
.
النزاع بين علي ومعاوية عميق جداً، إنه نزاع جذري على تعبير أهل هذا العصر، فهو لا يدور حول أخطاء بسيطة، إنما هو يدور حول مصير الأمة: هل تجري في طريق العدالة الاجتماعية أم تجري في طريق الحكم الطاغي الذي لا يعرف عدلاً ولا مساواة.
.
كان الرجل في الزمان القديم بطلآ يحمل السيف. وكانت المرأة ضعيفة محتاجة الى الرجل في أمر معاشها، فهي مضطرة أن تخدمه وأن تغريه وأن تدلك أعطافه لكي تحصل على ماتريد.
أما اليوم فقد بطل فعل السيف، وذهب زمن العظلات المفتولة و الانف الشامخ، أذ حل محله زمن الذكاء والدأب وبراعة اليد واللسان. وبهذا خرجت المرأة تنافس الرجل في عمله، وشعرت بأنها قادرة على منافسته، فلا سيف هناك ولا مصارعة.
وأذا أراد الرجل أستغلالها من جديد أستطاعت أن تكيل له الصاع صاعين.فهي تستطيع أن تعمل كما يعمل وأن تدرس كما يدرس وأن تتحذلق كمل يتحذلق، وهي فوق كل ذلك تملك من سلاح العيون والنهود ما يجعله راكعآ بين يديها ينشد قصائد الحب والغرام.
.
أوجب الإسلام على أتباعه أن يتحققوا من صحة التهمة قبل أن يحكموا فيها. والظاهر أن بعض رجال الدين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. وهذا كان من الأسباب التي جعلت أبناء الجيل الجديد ينفرون من الدين وينفرون من رجاله.
إن رجال الدين يمثلون الدين في نظر الناس. وكل عمل سيء يقترفونه إنما يهدمون به الدين من حيث لا يشعرون. فالإنسان مجبور على تقدير الأمور بمظاهرها. ومظهر الدين أصبح منوطاً برجال الدين، فإذا ساء مظهرهم ساء مظهر الدين معهم. وقد كبر مقتاً عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون!
.
لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة.
.
الذين يؤلفون الكتب في فضائل هذا الرجل أو ذاك لا يختلفون في حقيقة أمرهم عن أولئك المداحين الذين أرادوا اصطياد دراهم الناس في الأسواق.
.
ان الانسان مخدوع في ركضه وراء غاية لا فائدة منها. و لكن الحضارة البشرية تكسب من هذا الركض المتواصل.
.
ظن القدماء: أن التنازع شر محض لاينتج عنه أي خير مطلقاً وهم في هذا مخطئون وخطأهم ناشئ من كونهم لم يعرفوا مجتمعاً خالياً من تنازع ولو فرضنا أن الله استجاب لدعائهم فخلق لهم مجتمعاً تعاونياً لاتنازع فيه لملوا منه ولهربوا منه كما يفر السليمن الأجرب.
لاشك أن التنازع مضر بالإنسان ولكنه نافع له أيضاً فهو الذي يحفز الإنسان نحو العمل المثمر والابداع وبه يشعر الإنسان بأنه حي ينمو فلو كان الناس متآخين إخاءً تاماً يبتسم بعضهم لبعض ويعانق بعضهم بعضاً ثم يذهب كل منهم في طريقه من غير منافسة أو تكالب وتحاقد لشعروا بأن الموت خير لهم من هذه الحياة الرتيبة.
حاول بعض الطوبائيين في أمريكا أن يؤلفوا من أنفسهم مجتمعاً هادئاً بعيداً عن تكالب الحياة وقد نجحوا في ذلك أول الأمر ولكنهم سئموا منه أخيراً وهربوا منه يقول وليم جيمس بعدما عاش بينهم بضعة أيام: أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر إلى وجه شيطان وعندما خرج وليم جيمس من هذا المجتمع الطوبائي قال: أنا سعيد حين أخرج إلى عالم فيه شيء من الشر.
.
نستنتج من هذا أنّ محمدًا لم يتبع طريق الحرب حبًّا بالحرب والغلبة كما زعم المستشرقون من أعداء الإسلام. إنما هو لجأ إلى الحرب اضطرارًا. ولولا ذلك لما قامت للإسلام قائمة في جزيرة العرب.
والواقع أن الحروب المحمّدية لم تكن سوى مظهر من مظاهر الثورة الاجتماعية التي قام بها. والثوار في جميع الأزمان يتبعون في بدء دعوتهم طريق السلم. فإذا اجتمع لديهم من الأنصار عددًا كافيًا عبأوهم تعبئة القتال وأخذوا يشنّون على خصومهم حربًا شعواء قد تقضي على ما كان لهم من مكانة اجتماعية وترف باذخ.
.
إن الثورة في مفهومها العلمي، كما قال هيربري، لا تعنى العنف بالضرورة. فالجالس في بيته قد يعد ثائرًا إذا كان مؤمنًا بحقوق الإنسان كمان جاءت بها الثورة الفرنسية أو غيرها من الحركات الاجتماعية الكبرى.
.
الحضارة التي يقتنع أفرادها جميعًا بما هم فيه ويقولون: "القناعة كنزٌ لا يفنى" لا يمكن أن نطلق عليها اسم "الحضارة". إنها تصبح عند ذلك مجتمعًا راكدًا لا حركة فيه، ولعلّها تخسر من جراء ذلك دينها ودُنياها معًا.
يقول القرآن: ( وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ).
فلا بدّ في كل حضارة من وجود أناس غير راضين. وهؤلاء هم وقود الحضارة إذ يدفعونها دفعًا إلى الأمام على توالي الأجيال.
.
الفكر البشري حين يتحرر و يخرج عن التقاليد لا يستطيع أن يحتفظ بطابع اليقين على أيه صورة.
.
نريد أن نعرف ما هي حدود الثقافة الصحيحة؟ فكثير من الناس يدعون أنهم هم المثقفون وحدهم من بين الناس.
ويجب ألا ننسى أنّ كل طائفة من الناس تعتقد أنّ ثقافتها هي الصحيحة وأنّ قيمها الاجتماعية هي المعيار الثابت الذي يمتاز به الحق عن الباطل، والإنسان الذي نشأ في مجتمع معين لا بدَّ أن يتأثر بمقاييس ذلك المجتمع من حيث يشعر أو لا يشعر.
فالطفل الذي ينشأ في محيط يُقدّر العنتريات وفتل الشوارب واستعمال الخنجر، حاول إذا كبر أن يكون عنتريًا، وهو يظنّ أنه أحق من غيره بالفضل والمكانة الاجتماعية، فإذا قلت له: إنّ فلانًا أكثر عنتريةً منك وأعظم شجاعة وشهامة، غضب عليك وعدَّ هذا القول منك حسدًا ولؤمًا، وربما صفعك على خدك الأيمن ثم ثنى الصفعة بأُخرى على خدك الأيسر.
وإذا كان المجتمع يقدّر البحث العلمي والاختراع وابتكار النظريات الجديدة وجدت كل فرد فيه يسعى في سبيل ذلك ثم يظن أنه قد نبغ فيه وتفوق على الأقران.
لا يختلف المثقف عن غير المثقف من هذه الناحية إلا من حيث الدرجة. أما من حيث النوع فالجميع فيه سواء.
.
فالمدنية معناها التكالب والتزاحم واستغلال الناس بعضهم لبعض فظهر من بين الناس اذن طبقة مترفة تملك عدة قمصان، بينما يبقى كثير من الناس لا قمصان لهم والناس قلقون عند ذاك إذا جاعوا وإذا شبعوا.
قيل: إن المتمدن إذا جاع سرق وإذا شبع فسق، وهو في كلتا الحالتين شقي لا يقف شقاؤه عند حد. إنه يركض وراء هدف، فإذا وصل إليه نسيه وابتكر له هدفاً اخر يركض وراءه. فهو يركض ويركض وراء سراب، إنه يجدد ويبدع في كل يوم ولكن الجديد يصبح عنده قديماً في اليوم التالي.
اما البدائيون الذين يعيشون على الفطرة فهم اذا شبعوا حمدوا ربهم واذا جاعوا حمدوا ربهم كذلك. ومزيتهم انهم يشبعون جميعا ويجوعون جميعا. فليس بينهم متخوم ومحروم فالتنافس ممنوع عندهم إلا فيما يجلب منفعة للجميع. اما التكالب الفردي فهم يعدونه عيبا لا يجوز لانسان ان يتصف به.
وجدنا هذا واضحاً عند البدو الواغلين في الصحراء الذين لم يتأثروا بعد برذائل المدنية. ويحدثنا ويل دورانت أنه موجود كذلك عند البدائيين الذين يعيشون في الغابات.
فلا يوجد بينهم جائع في الوقت الذي يوجد طعام في مكان ما من القرية. وإذا حصل أحدهم على غنيمة وزعها حالا على من كان بقربه يقال أن أحد السواح أعطى بدلة كاملة من الملابس لأحد البدائيين، ثم وجد بعد وقت قصير أن القبعة صارت حصة رجل منهم, والسراويل ذهبت لآخر, والمعطف عند ثالث...
وسمع أحد البدائيين في جزيرة ساموا عن حالة الفقراء في لندن من فم سائح مر به، فتعجب البدائي عجباً شديداً وقال: كيف يمكن أن يجوع هؤلاء الفقراء؟ أليس لهم أقرباء أو عشيرة؟ إنه لايستطيع أن يتصور إنساناً يجوع وحوله أناس قد شبعوا.
أما في المدنية فهذا أمر مألوف لا يعجب منه أحد. وهذا يؤدي إلى التنازع طبعاً، فتنشأ عنه الحركة الاجتماعية التي تدفع بالمجتمع إلى الأمام.
.
إن البطل لا شأن له بحد ذاته، ومنزلته الاجتماعية تُقاس بما حمل من مبادئ، وبمقدار سعيه نحو تحقيقها، وبمبلغ تضحيته في سبيلها.
.
يعزو كارفر التنازع البشري، كما ذكرنا من قبل، إلى سببين لا ثالث لهما. اولهما استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها، وثانيهما هو حب الإنسان نفسه وتقديره لها أكثر مما تستحق. والظاهر ان هذين السببين متلاحمان. أو بعبارة أخرى، وجهان لحقيقة واحدة.
فالإنسان يتكالب على الأشياء لأنه يرى نفسه أحق بها من غيره. فهو قد لا يريد الشيء بحد ذاته، ولكنه يتهافت عليه حين يرى بأن أقرانه يتهافتون عليه. فالتكالب وتقدير الذات صارا بهذا الاعتبار متكاملين يدعم أحدهما الآخر. أي أن كل منهما سبب ونتيجة للآخر في آن واحد.
ولو فرضنا جدلا اننا استطعنا أن نشبع جميع الحاجات البشرية، فإن البشر يظلون في تكالب وتنازع، لأن كل واحد منهم يظن انه أولى من أقرانه بالتقدير أو الفضل أو المكانة.
ويظل الإنسان يصرخ "لماذا أعطيتني أقل من رفاقي؟ فهل هم خير مني؟".
فإذا أعطيت الجميع عطاءا متساويا، قام الوجهاء والكبراء واحتجوا عليك قائلين: "كيف تساوينا بمن هو دوننا؟" اما إذا أعطيت الناس عطاءا متفاوتا حسب فضائلهم أو مراتبهم الاجتماعية، قام الواطئون واحتجوا صارخين: "الناس سواسية كأسنان المشط".
حدث هذا في خلافة عمر وخلافة علي بن أبي طالب. فقد اعطى الناس عمر عطاءا متفاوتا حسب منزلتهم في الدين وجهادهم السابق في سبيله. فغضبت عليه قريش لأنها كانت آخر الناس إسلاما وأقلهم سابقة فيه. وبقيت قريش تكره عمر وتكره خلافته حتى قتل. ويقال أنها هي التي حرضت على قتله أو تآمرت عليه.
أما علي بن أبي طالب فقد أعطى الناس جميعا على حد سواء لا فرق فيه بين سيد ومسود أو بين مسلم قديم ومسلم حديث. فكرهه الرؤساء والوجهاء وانفضوا من حوله ثم جروا وراءهم أتباعهم كما ذكرنا ذلك في فصل سابق.
وجاء معاوية فلم يعط الناس على أساس المساواة كما فعل علي، او على أساس المفاضلة كما فعل عمر. إنما أخذ يداور ويراوغ. يغمز لهذا بعين ويحملق لذاك بعين أخرى. ونظر إلى أولئك الذين يأمل منهم منفعة أو يخشى مضرة فأرضاهم وترك بقية الناس في حرمان.
إنها سياسة ظالمة ولكنها تسكت الناس فلا يحتجون ولا يصرخون. فالاحتجاج والصراخ لا يجيدهما إلا أولوا السيوف الصقيلة والألسن البليغة. ومعاوية قد أرضى هؤلاء وأولئك وأغدق عليهم من الأموال ما أسكتهم. أما بقية الناس فهم كالأغنام لا يحتجون ولا يصرخون، وهم ينعقون مع كل ناعق. ولذا تركهم معاوية يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
ومما يجدر ذكره أن هذه السياسة لا تسكت الناس زمنا طويلا. فلا بد لهؤلاء الأغنام من يقظة يدركون بها حقوقهم وهنا تبدأ المشكلة في شكل جديد.
لقد أسكت الناس معاوية في زمانه لأنه كان من الدهاة الماكرين الذين يستطيعون اكتشاف منابع الضرر والنفع من كل إنسان. فلما مات معاوية وحل محله ابنه الرقيع أخذ الصراخ والاحتجاج يرتفعان مرة اخرى.
ليس من الممكن إقناع البشر أن يصبروا على حالهم زمنا طويلا.
فالحضارة البشرية لا بد أن تستمر في سيرها الدائب، ولا بد لها من وقود تحترق به نفوس البشر.
.
الجدل الديني مشكلته أنه يطول ويتراكم على مر الأيام من غير أن يكون هناك قاض محايد يستطيع أن يحسم النزاع فيه . إنه بعبارة أخرى : محاكمة لا حاكم فيها.
.
يقول الاستاذ سهيل العاني صاحب كتاب " حكم المقسطين على كتاب وعاظ السلاطين " : إن الاعتراض على الظَلَمة غير واجب إذا كان فيه تحرّك فتنة تؤدي إلى تفرّق الكلمة ، وذلك لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
إن الخوف من تفرّق الكلمة وتحريك الفتنة نلاحظه في جميع ما يكتبه وعاظ السلاطين أو يخطبون به . وقد نسي هؤلاء أن جميع السلاطين الذين يدعون إلى طاعتهم وصلوا إلى الحكم عن طريق تحريك الفتنة وتفريق الكلمة .. فسلاطين بني أمية ورثوا الحكم من معاوية الذي شق عصا الطاعة على علي بن أبي طالب وفرّق كلمة المسلمين . وسلاطين بني العباس ورثوا الملك عن السفّاح الذي تمرّد على الأمويين وفرّق كلمة المسلمين .. وكذلك فعل الفاطميون والأيوبيون والعثمانيون .
والغريب أن وعاظ السلاطين يذمّون كل فتنة تقوم في وجه السلطان ، فإذا نجحت تلك الفتنة واستتب لها الأمر أخيرا أخذ الواعظون يطلبون من الناس إطاعة السلطان الجديد وينسون بذلك طاعة وليّ أمرهم السابق الذي ذهب مع الريح.
ويقول الاستاذ سهيل العاني أيضا: إن ليس على الرعية مع السلطان إلا النصح والتذكير والتعريف ، أما ما يؤدي إلى خرق هيبته ككسر آنية الخمور في بيته ، فتسقط حشمته ، فذلك أمر محظور منهي عنه.
.
إنه يخشى على السلطان أن تسقط حشمته وتُخرق هيبته. ومادام الأمر صار مَنوطا بحفظ الهيبة والحشمة ، فإن احترام السلطان قد أصبح واجباً على كل مؤمن ومؤمنة بغض النظر عما يقوم به من مظالم وفضائح. ولا بأس إذّاك أن ينحني المؤمنون لأميرهم تبجيلا ويرتلون في مديحه القصائد الطوال . فكل ذلك يؤدي إلى هيبة السلطان عزّ نصره .
إن وعاظ السلاطين كانوا يجمعون على أن النهي عن المنكر واجب عند القدرة عليه . إما إذا أدى إلى الضرر بالمال أو البدن أو السمعة وغيرها فهو محظور منهي عنه .
يقولون هذا في عين الوقت الذي يقولون فيه بوجوب الجهاد في سبيل الله . فهم لا يبالون أن يتضرر المسلم في ماله وبدنه مادام يحارب بجانب السلطان ضد أعداء الدين وأعدائه . هذا ولكن الضرر الذي يجنيه المسلم من محاربة السلطان الظالم يعتبر في نظرهم تهلكة ينهى الله عنها . ومعنى هذا أن الدين أصبح عندهم بمثابة طاعة السلطان في سلمه وحربه ، ولا يهمهم بعد ذلك أن يكون السلطان ظالما أو عادلا . فهذا في نظرهم أمر بسيط لا أهمية له والله يحب المحسنين.
.
ومن الجدير بالذكر ان الحركة الاجتماعية لا تخلو من مساوىء رغم محاسنها الظاهرة. فليس هنالك في الكون شيء خير كله أو شر كله.
فالحركة الاجتماعية تساعد الانسان على التكيف من غير شك. ولكنها في عين الوقت تكلف المجتمع ثمناً باهضاً.
اذ هي مجازفة وتقدم نحو المجهول. انها تؤدي الى القلق والتدافع والاسراف في أمور كثيرة.
والانسان الذي يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع ان يحصل على الطمأنينة وراحة البال التي يحصل عليها الانسان في المجتمع الراكد. انه يجابه في كل يوم مشكلة. ولا يكاد ينتهي منها حتى تبغته مشكلة أخرى. وهو في دأب متواصل لا يستريح إلا عند الموت. ولا يدري ماذا يجابه بعد الموت من عذاب الجحيم!
إن النفس البشرية تحترق لكي تنير باحتراقها سبيل التطور الصاخب.
إذا ذهبت إلى نيويورك أو باريس أو غيرهما من المدن العالمية الكبرى، وجدت الناس هنالك في ركض متواصل وحركة لاتفتر ليلاً ونهاراً كلهم يسيرون على عجل فإذا سألتهم إلى أين؟ همهموا بكلمات غامضة واستمروا في سيرهم مسرعين.
أما في المجتمع الراكد فشعار الناس "العجلة من الشيطان" أنهم يسيرون الهويني ويشعرون بأن الأيام طويلة فلا داعي للهلع فيها همُّ أحدهم أن يصغي إلى قصص الأولين وأساطيرهم مرة بعد مرة وهو سعيد بها يشعر أنه سائر في سبيل الخلود الذي لاعناء فيه.
ابتلى الانسان بهذه المشكلة ذات الحدين. فامامه طريقان متعاكسان، وهو لابد أن يسير في أحدهما: طريق الطمأنينة والركود، أو طريق القلق والتطور.
ومن المستحيل عليه ان يسير في الطريقين في آن واحد.
يخيل الى بعض المغفلين من المفكرين ان المجتمع البشري قادر على ان يكون مطمئنا مؤمنا متمسكا بالتقاليد القديمة من جهة وان يكون متطورا يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الاخرى. وهذا خيال غريب لا ينبعث إلا في أذهان اصحاب البرج العاجي الذين يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه.
.
إنَّ "المثل العليا" التي تدعو إليها أحزاب المعارضة لا يمكن تحقيقها على هذه الأرض. فائدتها أنَّها تستخدم سلاحاً ضد من تُسوِّل له نفسه العبث بمصالح الأُمَّة. فليس من المعقول أن يأتي يوم على هذه الأرض يستطيع الناس فيه أن يحققوا تلك المثل تحقيقاً كاملاً.
.
إن من شرائط البحث العلمي الدقيق أن يكون صاحبه مشككاً حائراً قبل أن يبدأ البحث. أما أن يدّعي النظرة الموضوعية وهو منغمس في إيمانه إلى قمة رأسه فمعنى ذلك أنه مُغفّل أو مخادع.
.
العقل البشري لا يحس بوطأة الإطار الموضوع عليه إلا إذا انتقل إلى مجتمع جديد، ولاحظ هناك أفكاراً ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة. إنه يشعر عندئذ بأنه كان مثقلاً بالقيود الفكرية وأن فكره بدأ يتفتح.
.
الذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة لا ننتظر منه أن يكون محايداً في الحكم على الأمور. إن معتقداته تُلون تفكيره حتماً وتبعده عن جادة البحث الصحيح.
.
إن المبادئ "المثالية" تصلح لإثارة الناس ولا تصلح لإخضاعهم.