مجموعة اقتباسات مختارة [3]

69 4 1
                                    

وفي القرآن عدة آيات أخرى تؤدي إلى مايشبه هذا المعنى, إذا هي تشير إلى أن المترفين يقاومون الدعوات الجديدة دائماً وهم ميالون للمحافظة على ما وجدوا آباءهم عليه من قيم وعادات وآراء.
وهنالك آية ذات مغزى اجتماعي هام من هذه الناحية ففيها يقول القرآن: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا), وقد حار بعض المفسرين في تفسير هذه الآية, فلم يستطيعوا أن يفهموا كيف يهلك الله أهل القرية كلهم بجزيرة المترفين منهم.
والواقع أن هذه الآية واضحة في دلالتها الاجتماعية, ولا داعي للحيرة في تفسيرها فالناس إذا سكتوا عن جرائم المترفين وخضعوا لأمرهم واتحدوا على طاعتهم أصبحوا مستحقين للعقاب مثلهم.
وهنا نجد القرآن يخالف وعاظ السلاطين فيما ذهبوا إليه من وجوب الطاعة للسلطان ولو كان ظالما فطاعة الظالم هي بذاتها ظلم وهي تستحق العقاب مثله.
.
قتل بنو أمية عثمان لكي لا يموت على فراشه فيتولى الخلافة من بعده علي بن أبي طالب عدوّهم اللدود . ولما تولى علي الخلافة رغم آنافهم أثاروا عليه السيدة عائشة وطلحة والزبير . وعندما انتصر عليّ على هؤلاء أثاروها عليه من جديد . ولم يستقروا حتى حصلوا على الخلافة وخلا لهم الجو يلعبون فيه كما يشاءون.
.
ليس في هذه الدُّنيا شيء يمكن أن يتلذَّذ الإنسان به تلذذًا مستمرًا.
.
يبدوا أن معاوية يريد أن تشيع الخصومة المصطنعة بين علي و الشيخين، ولا يبالي على من تقع الضربة. فهو تارة يزعم أن عليا خاصم الشيخين و حسدهما، و تارة أخرى يزعم أنهما أبغضاه و ابتزّاه حقه. ومهما يكن الحال فمعاوية هو الرابح، إذا يجد يجانبه الشيخين يحميانه. فسواء أكان الشيخان على حق أم باطل فهو يشتهي أن يكون من حزبهما. و كل فضيلة تنشر لهما هي فضيلة له بصورة غير مباشرة. إنها مكيدة بارعة من غير شك. ولا بد أن تنطلي على كثير من المسلمين عاجلا أو آجلاً.
.
أهل السنة يشتهون أن يروا معاوية صالحاً في حياة عمر و بعد وفاته. و الشيعة يشتهون أن يروا معاوية طالحاً في كلتا الحالتين و أن عمر كان مثله. إنهم جميعا يفهمون الشخصية البشرية كما يفهم المحاسب رقما من الأرقام ، فالرقم إذا كان (ثلاثة) لا يمكن أن يصبح (أربعة) أبداً.
.
ولنا أن نقول أن العلم نوعان: علم الدين الذي يمثل تعاليم الأنبياء ، وعلم الدنيا الذي يمثل ترف السلاطين. يقول النبي محمد: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) ومعنى هذا أن حملة علوم الدين هم أنبياء ثائرون. ولكن الكهان يحوِّلون علوم الدين إلى علوم ترفيه يتلذذ بها السلاطين. ولهذا نجد النزاع بين الأنبياء و المترفين يتمثل أحيانا في صورة فكرية تكون العقائد فيها بمثابة السيوف التي يتصارع بها الخصوم.
.
إن من الظلم حقاً أن نعاقب الناس على عقائدهم التي لُقنّوا بها في نشأتهم الاجتماعية.
والمنطق القديم مبني على أساس أن الإنسان يعتنق عقيدته بإرادته، وأنه يصل إليها عن طريق التفكير والرؤية، وهذا خطأ يؤدي إلى الظلم في كثير من الأحيان.
الواقع أن الإنسان يؤمن بعقيدته التي ورثها عن آبائه أولاً ثم يبدأ التفكير فيها أخيراً، وتفكيره يدور غالباً حول تأييد تلك العقيدة، ومن النادر أن نجد شخصاً يدل على عقيدته من جراء تفكيره المجرد وحده، فلا بد أن تكون هناك عوامل أخرى، نفسية واجتماعية، تدفعه إلى ذلك من حيث يدري أو لا يدري.
يصف القرآن عقول الناس بأنها مغلّفة وأنها عمياء ويؤكد على ذلك في كثير من آياته وهو يقول: ( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ويقصد القرآن بالقلوب العقول كما يعرف ذلك كل متتبع لأساليب اللغة العربية.
وكان القرآن يهيب بالناس ويهتف بهم المرة بعد المرة قائلاً لهم: ألا تفكرون.. ألا تعقلون.. ألا تبصرون، والناس يسمعون هذا ولا يفهمون.
وهؤلاء الناس أنفسهم لم يكادوا يرون النبي منتصراً تحف به هالة المجد والقوة حتى انثالوا عليه من كل جانب يعلنون دخولهم في الدين الجديد ويهتفون بملء أفواههم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وكلما ازداد الإسلام انتصاراً ازدادوا به إيماناً، حتى رأيناهم أخيراً يضطهدون من يخرج عنه بمثل ما كانوا يضطهدون من كان يدخل فيه أول الأمر.
نرى المسلمين اليوم يذوبون حباً بالنبي ويتغنون في مديحه في كل حين، وهم إنما فعلوا ذلك لأنهم ولدوا في بيئة تقدس النبي محمداً وتبجله، ولو أنه ظهر بينهم اليوم بمبادئه التي قاومه عليها أسلافهم لما قصروا عن أسلافهم في ذلك فالناس كالناس والأيام واحدة كما قال الشاعر العربي.
.
يقول أينشتاين: إنّ مشكلة العقل البشري هي أنّه يريد أن يخضع الكون كله للمقاييس التي اعتاد عليها في دُنياه هذه. والمصيبة أن الإنسان مؤمن بأنّ هذه المقاييس النسبية مطلقة وخالدة ويعدها من البديهيات التي لا يجوز الشك فيها. فهو قد اعتاد على رؤيتها تتكرر يومًا بعد يوم فدفعه ذلك الاعتقاد بأنها قوانين عامة تنطبق على كل جزء من أجزاء الكون. جاء هذا الاعتقاد من العادة التي اعتادها وهو يظن أنه جاء من الحقيقة ذاتها.
.
الإنسان مجبور أن يرى في نفسه الفضل أو الامتياز على أقرانه في أمر من الأمور. فهو إذا وجد الناس يحترمون أحد أقرانه لصفة ممتازة فيه، حاول أن ينافسه فيها. فإذا عجز عن ذلك ابتكر لنفسه المعاذير وأخذ يقول بأن تلك الصفة لا أهمية لها، وأن هناك صفة أخرى أهم منها وأنفع للمجتمع. ثم يحاول أن ينسب هذه الصفة الأخرى لنفسه لكي يشعر من جراءها بالامتياز على وجه من الوجوه.
والناس لا يحبون الشخص الذي يمدح نفسه. وهم مؤمنون بالمثل القائل "مادح نفسه كذاب". فكثيراً ما يمدح شخص نفسه وهو صادق فيما يقول، ولكن الناس ميالون إلى كراهيته والحط من قيمته ولو كان صادقاً. وسبب هذا أن كل واحد من الناس يحب نفسه ويعجب بها. فإذا رأى غيره معجبا بنفسه أيضا حنق منه كأنه وجد فيه منافسا أو غريما.
لا يروق في عين الإنسان ان يرى قريناً له متفوقا عليه في شيء. إنه يعد نفسه مركز الدنيا ومطمح الأنظار. فإذا وجد غيره صار مطمح الأنظار بدلا منه شعر بالحسد له وود أن يحتقره وينزل من عليائه. وهو قد يكره كل من يحترم ذلك القرين أو يشيد بفضله.
وأرجو أن يفهم القارئ بأن هذه هي طبيعة الإنسان في كل مكان شرقاً وغرباً. وقد يحلو لبعض المتفرنجين أن يقول: بأن التحاسد غير موجود في بلاد الغرب. وهذا خطأ فالغربيون بشر مثلنا. ولكن الحسد عندهم يقل لا سيما في المدن الكبيرة. ومنشأ ذلك أن المنافسة في المدينة الكبيرة تجري على نمط غير شخصي. فالناس هناك يتنافسون من غير أن يعرف بعضهم بعضها معرفة شخصية. ومعنى هذا أن المتنافسين ليسوا أقرانا ناشئين منذ صغرهم في محلة واحدة. ولذا نجدهم يتنافسون دون يشعروا بشيء من الحسد.
أما في المدينة الصغيرة أو القرية، فالناس يعرف بعضهم بعضا، وهم في طفولتهم كانوا يلعبون معا. ولهذا يصعب على أحدهم ان يرى قرينا متفوقا عليه في كبره بينما كان يلعب معه في صغره.
من هنا جاء المثل القائل: "مغنية الحي لا تطرب" فمغنية الحي تكون ذات صوت بشع عند قريناتها. وبنات الحي يطربن لمغنية أجنبية ولو كان صوتها أقل جودة من قرينتهن. فالحسد هو السبب في هذا ولا مناص من الحسد بين الأقران.
وهناك مثل آخر يشير إلى ما يشبه هذا المعنى، إذ يقول: "عدو المرء من يعمل عمله". وهذا المقال يصدق على أولي المهنة الواحدة إذا كانوا متجاورين يعملون في مكان واحد او كانوا من منشأ واحد. أما إذا كانوا متباعدين غير متعارفين فالحسد بينهم يكون قليلاً أو نادراً.
وإذا نظرنا إلى أساتذة جامعة كبيرة من جامعات الغرب وجدنا التحاسد بينهم أقل مما هو موجود في كلية صغيرة في بلد محدود. فالأساتذة هناك قد جاءوا من أماكن شتى، حيث لا يشعر أحدهم أن زملاءه ينافسونه في نظر أقربائه أو أبناء محلته. أما في الكلية الصغيرة فالأساتذة قد يعرف بعضهم بعضا منذ أيام الدراسة الأولى. وهم إذن في منافسة حادة أمام أهل البلد. ويريد كل منهم أن يبز أقرانه في محاضراته أو مؤلفاته أو ما أشبه وتعال انظر حينئذ إلى الحسد المتغلغل في أعماق قلوبهم. ولا يكاد أحدهم يتفوق في شيء حتى يمط أقرانه شفاههم استهجانا به ويصفونه: "أنه مشعوذ" ثم يأخذون بابتكار البراهين في سبيل أن يجعلوا لأنفسهم ميزة عليه.
وهذا يحدث بين رجال الدين أيضاً لا سيما إذا كانوا يعيشون في بلد واحد يتنافسون على نيل إعجاب أهل البلد أو نيل زكاة أموالهم!
وقد صار التحاسد بين رجال الدين مضرب المثل. فأحدهم قد يقتل الأنبياء والأولياء في سبيل أن يغالب قرينا متفوقا عليه.
.
ومشكلة العقل البشري أنه إذا ركّز انتباهه على مناقب شخص أو على مثالبه، استطاع أن يأتي منها بشيءٍ كثير. فهو إذا أحبّ شخصًا استطاع أن يجعل كل أعماله مناقب، وإذا أبغضه حوّلها إلى مثالب. وهذا أمر نلاحظه في حياتنا اليومية. فالمحبوب هو فاضل في جميع أعماله وأقواله. وإذا رأينا منه شيئًا يستوجب المذمة أو اللؤم لجأنا إلى منطق التبرير والتسويغ وقلبناه إلى حق لا مراء فيه. وإلى هذا أشار الشاعر العربي حين قال:
وعينُ الرضا عن كلّ عيبٍ كليلةٍ ** ولكنّ عينَ السخط تُبدي المساويا.
.
إن العدل لا يتأتى إلا إذا توازنت قوى الخصوم المتضادة. وكلما تعادلت هذه القوى كان هذا أدعى إلى العدل و أكثر قرباً منه. ومعنى هذا أن العدل صيرورة إجتماعية أكثر مما هو فكرة مطلقة.
.
نال بنو أمية الخلافة فتولى بنو علي قيادة الثورة عليها. ولو كانت الخلافة وراثية في بني علي لكان بنو أمية يقودون الثورة عليهم في أرجح الظن. وكان من مصلحة الإسلام أن يتولى بنو علي قيادة الثورة فيه. فلهم من تقاليدهم البيتية وتراثهم الديني ما يجعلهم أقرب إلى المبادئ الإسلامية من غيرهم.
.
إن من الصعب على الإنسان أو المستحيل أحياناً، أن ينظر في الأمور بحرية تامة. وقد يتراءى لبعض المغفلين بأنهم أحرار في تفكيرهم وسبب ذلك أن الإطار الفكري قيدٌ لا شعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحسون به. فهو بهذا الاعتبار كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على أجسامنا دون أن نحس به. وقد نحس به بعض الإحساس إذا تحولنا إلى مكان آخر يتغير فيه مقدار الضغط. عندئذٍ نشعر بأنّنا كنّا واهمين.
كذلك هو العقل البشري فهو لا يحس بوطأة الاطار الموضوع عليه إلّا إذا انتقل إلى مجتمع جديد، ولاحظ هنالك أفكاراً ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة. إنه يشعر عندئذ بأنه كان مثقلًا بالقيود الفكرية وأن فكره بدأ ينفتح.
لعلّنا لا نخطئ إذا قلنا: إن الإنسان كلما ازداد تجوالًا في الآفاق واطلاعًا على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود قليلًا أو كثيرًا.
وكلما كان الإنسان أكثر انعزالًا كان أكثر تعصبًا وأضيق ذهنًا.
فالذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة لا ننتظر منه أن يكون محايدًا في الحكم على الأمور. إن معتقداته تلوّن تفكيره حتمًا وتعيقه عن جادة البحث الصحيح.
.
الديمقراطية لا تؤمن بالحق المطلق و هي كذلك لا تقنع بالحجج المنطقية التي يدلي بها أحد الأحزاب في تأييد رأيه. إنها لا تؤمن إلا بكثرة الأصوات.
.
ويصعب على الإنسان أن يتخلص من قوقعته الذاتية مهما حاول . فهي تكتنفه من حيث لا يشعر بها ، وهي تجعله يضخم محاسنه الخاصة في الوقت الذي يضخم فيه مساويء منافسيه وخصومه .
فهو اذا ألقى خطبة ورأى الافواه مفتوحة نحوه ظن أنه يأتي بالوحي المنزل. أما إذا ألقى زميل له خطبة مط شفتيه وقال عنها: إنها تافهة، إنه لايدري ماذا يقول الناس عنه وعن زميله في مجالسهم الخاصة .
وقد يصح أن نقول ان هناك غربالاً لا شعورياً يغربل الاقوال التي تقال عن شخص فلا يدعها تصل إليه على حقيقتها. فالشخص إذا سمع مدحاً له من فم أحد ظن أن المادح منصف يقول الحق . أما إذا سمع ذماً عده ناتجاً عن حسد أو نحوه.
.
وحب الانسان نفسه قد يدفعه أحيانا إلى الاعتقاد بانه يجب ان يستلم زمام الامور بيده. فهو وحده الذي يستطيع أن يصلح المجتمع. وهو يدلي برأيه في الإصلاح ويظن أنه جاء بخير الآراء الممكنة وأدعاها للنجاح.
.
إنك محق إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة. الحقيقة حقيقتك أو هي بالأحرى أنت إذا جردت نفسك من مشاعرك البشرية.
.
أبطال التاريخ لا أهمية لهم إلّا من حيث مبادؤهم الاجتماعية التي كانوا يسعون وراءها.
.
حين يدافع الإنسان عن عقيدة من عقائده المذهبية يظن أنه إنما يريد بذلك وجه الله أو حب الحق والحقيقة، وما دري أنه بهذا يخدع نفسه، إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها، وهو ولو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردد، ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة.
لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة، ولست أجد إنساناً في هذه الدنيا لا يدعي حب الحق والحقيقة، حتى أولئك الظلمة الذين ملأوا صفحات التاريخ بمظالمهم التي تقشعر منها الأبدان، لا تكاد تستمع إلى أقوالهم حتى تجدها مفعمة بحب الحق والحقيقة، والويل عندئذ لذلك البائس الذي يقع تحت وطأتهم، فهو يتلوى من شدة الظلم الواقع عليه منهم بينما هم يرفعون عقيدتهم هاتفين بأنشودة الحق والحقيقة.
.
الإنسان يشتهي أموراً لو تأمل فيها لوجدها تافهة لا تستحق العناء والتكالب. ولكنه مدفوع نحوها بدافع الإيحاء الاجتماعي الذي يشبه التنويم المغناطيسي من بعض الوجوه. فتراه يسعى مثلا وراء الرئاسة أو الشهرة وهو يدري أنها لا تجديه نفعا. إنه يود أن يمشي في الشارع فيتهامس الناس عنه ويشيرون إليه بالبنان. وتراه آنذاك قد شمخ بأنفه مختالا. يكفيه أنه أصبح حديث المجالس ولا يبالي أن يبذل في هذا السبيل جهودا طائلة ويحتمل من أجله اعباء ثقالا.
انظر إلى ذلك الأنيق الذي يلبس الملابس الثقيلة في وقدة الحر. إنه يضيق بها على نفسه ويتحمل من جرائها المشقات. وهو لا يبتغي من وراء ذلك إلا إعجاب الناظرين إليه. إنه يدري أن هذا الإعجاب لا يفيده وقد يضره ولكنه رغم ذلك مصر على تحمل الآلام تحت تأثير الإيحاء الاجتماعي الذي يقسو عليه.
والمرأة قد تلبس الملابس الخفيفة في الشتاء القارص. فهي ترتجف من البرد ثم تبتسم كأنها تفعل ذلك من ذوقها السليم. ونراها تخيط لنفسها ثوباً قصيرا حتى إذا جلست أخذت تمط فيه مطاً لكي تستر أفخاذها، ثم لا تسأل نفسها عن السبب الذي جعلها تخيط لنفسها ثوبا قصيرا وتمط فيه. وتنظر إليها ذات يوم فإذا بها تضع شيئا يشبه الحذاء على رأسها وتسميه قبعة. وهي لا تبالي أن تشتري هذه القبعة الحذائية بأغلى الأثمان فتنهب أموال أبيها أو زوجها في سبيل أن تتخذ لنفسها أحدث الأزياء. وإذا تحدثت إليها أمطرتك بوابل من المصطلحات الجديدة تريد أن تبرهن بها أنها صارت من المفكرات النابغات.
.
لاشك أن هذا الوضع المدهش الذي وصلت إليه المرأة الحديثة في خلاعتها وهيامها وحريتها المفرطة سيؤدي الى عواقب اجتماعية وخيمة. ولكن هذا لايجيز
لنا ان نقف في وجهها صارخين. ارجعي إلى البيت.
ولو فرضنا أننا قدرنا على إرجاعها إلى البيت لأصيب المجتمع من جراء ذلك بعواقب وخيمة من طراز آخر.
.
ذكرنا في الفصل الأول أن المجتمع البشري يحتاج إلى قدمين ليمشي عليهما. وهاتان القدمان هما عبارة عن جبهتين متضادتين ومن الصعب على المجتمع أن يتحرك بقدم واحدة. ولو درسنا أي مجتمع متحرك لوجدنا فيه جماعتين تتنازعان على السيطرة فيه. فهناك جماعة المحافظين الذين يريدون إبقاء كل قديم على قدمه وهم يؤمنون أن ليس في الإمكان أبدع مما كان. ونجد إزاء هذه الجماعة جماعة أخرى معاكسة لها هي تلك التي تدعو إلى التغيير والتجديد وتؤمن أنها تستطيع أن تأتي بما لم يأت به الأوائل.
من الضروري وجود هاتين الجماعتين في كل مجتمع. فالمجددون يسبقون الزمن ويهيئون المجتمع له. وخلو المجتمع منهم قد يؤدي إلى انهياره تحت وطأة الظروف المستجدة. أما المحافظون فدأبهم تجميد المجتمع وهم بذلك يؤدون للمجتمع خدمة كبرى من حيث لايشعرون. إنهم حماة الأمن والنظام العام, ولولاهم لانهار المجتمع تحت وطأة الضربات التي يكيلها له المجددون الثائرون.
قدم تثبت المجتمع وأخرى تدفعه. والسير لايتم إلا إذا تفاعلت فيه قوى السكون والحركة معاً.
والمجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الراكد. أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطوفان حيث يجتاز الحدود والسدود ويهلك الحرث والنسل.
والمجتمع الصالح ذلك الذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولايطغى, إذ تتوازن فيه قوى المحافظة والتجديد فلا تطغى إحداهما على الأخرى.
إن المحافظين يدعون دوماً إلى صيانة التماسك الاجتماعي. وهم يقدّسون وحدة الجماعة ويكفّرون من يشق عصا الطاعة عليها، أما المجددون فيدعون من جانبهم إلى التطور أو الثورة ولا يبالون بوحدة الجماعة بمقدار ما يبالون بالتكيف أو التقدم.
هما رأيان متناقضان. والحق في جانب كل منها في آن واحد.. إنهما يمثلان الوجهتين المتلازمتين للحقيقة الاجتماعية أو بعبارة أخرى: إنهما يمثلان القدمين اللتين يسير بهما المجتمع إلى الأمام جيلاً بعد جيل.
.
نعود فنقول: إن التنازع والتعاون متلازمان في الإنسان لاينفك أحدهما عن الآخر فلا يستطيع الإنسان أن يتنازع مع جميع الناس إلا إذا كان مصاباً بعلة نفسية إنه حين يتنازع مع فريق يجد نفسه مضطراً إلى التعاون مع فريق آخر.. وهكذا تنشأ الجماعات والأحزاب والكتل السياسية والفرق الدينية ولكما لاحظت نزاعاً في جانب فإعلم أن هنالك تعاوناً في جانب آخر وكذلك تجد تنازعاً كلما لاحظت تعاوناً وإذا ضعف التنازع في جماعة ما ضعف التعاون فيها أيضاً.
على هذا المنوال يتم التصيّر الاجتماعي وبه تسير الحضارة البشرية إلى الغاية التي لانعرف كنهها.
.
إن المبدأ الذي يدعو إليه رجال الدين دوما حيث يقولون للناس به: "تآخوا وإتحدوا وأتركو الخلاف والنزاع بينكم" هو مبدأ سلطاني جاؤا به لإرضاء أوليا نعمتهم من المترفين الذين تلذذو بنعم الله ويريدون منها مزيداً على حساب الكادحين المحرومين من رعاياهم.
والغريب أن رجال الدين يغفرون للسلاطين حين يرونهم يتنافسون على الامارة ويتكالبون ويتنازعون، ويطلب كل منهم زيادة في نصيبة على حساب الآخرين. فهم يغفرون لهم ذلك ولكنهم لا يغفرون لعامة الناس أن يطالبوا وأن يحتجوا وأن يسعوا في سبيل المزيد من كل شيء.
.
عندما احتك المسلمون بالحضارة الغربية انجرفوا بتيارها وصاروا مجبرين على اقتباس ما جاءت به حسناً كان أم سيئاً.
ومن غرائب ما ارتآه الواعظون في هذا الأمر أن قالوا: خذوا من الغرب محاسنه واتركوا مساوئه. كأن المسألة أصبحت انتقاءً طوع الإرادة
كمن يشتري البطيخ.
إن الحضارة جهاز مترابط لا يمكن تجزئته أو فصل أعضائه بعضها عن بعض. فالحضارة حين ترد تأتي بحسناتها وسيئاتها.
وقد حاول الامام يحيى رحمه الله ، أن يصمد في وجه هذا التيار فمنعه من اختراق حدود اليمن بأي ثمن.
إنه منع كل شيء يأني له من الغرب، حيث أدرك بأن دخول شيء يسير يؤدي إلى لحاق الشيء الكثير وراءه عاجلا أم آجلا. ولكن تلك كانت فترة مؤقتة، لا يمكن أن تستمر زمنا طويلاً. فالتيار أقوى من أن يصده صاد ولو طال به الزمان.
ثم جاء وقت احتاج به الامام الى دواء من الغرب يعالج مرضه أو سيارة تحمله في تنقلاته أو تليفون يتصل به بمن يحب، أو سلاح يحارب به خصومه. وهذه الحاجة تزداد على مر الزمان.
واليمن واقعة تحت وطأة الحضارة الجديدة لامحالة، سواء أرادت ذلك أم كرهت. وعند هذا تأتيها الحضارة بجميع ما فيها من وسائل نافعة وآفات ضارة ولا مناص من ذلك.
وإذ ذاك ستهب المرأة هنالك كما هبت هنا، تطالب بحقوقها وتنشد المساواة. والمرأة ستدخل المدرسة أول الأمر حيث تبقى محتفظة بالحجاب، فإذا تعلمت طلبت الوظيفة. وإذا توظفت أسفرت عن وجهها. وإذا أسفرت تبرجت، كل طور يجر وراءه الطور الذي يليه.
ما حدث هنا يحدث هناك، والتطور الاجتماعي يسير في كل بلد على منوال ما سار عليه في بلد آخر. تلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا.
.
إن أي إنسان لا ينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له.
.
و الشر في الافراط و التفريط.
.
أن العدل لا يأتي إلا إذا توازنت قوى الخصوم المتضادة، وكلما تعادلت هذه القوى كان ذلك أدعى إلى العدل وأكثر قربا منه.
.
أن من الخطأ الفادح أن يظن أحدنا أن ما يشعر به من أحاسيس نفسية متنوعة خاص به وحده. وهذا الخطأ ناشئ من ميل الناس الى كتمان ما يجول في خواطرهم, ومن محاولاتهم التظاهر بخلافه.
.
يقول المؤرخون الغربيون إنّ حكومة الإغريق كانت أول ديمقراطية وآخر ديمقراطية في التاريخ القديم ونسي هؤلاء حكومة الإسلام الأولى التي تمثلت في محمد وخلفائه الراشدين. ولو درسنا سيرة هؤلاء في أيام حكمهم لوجدناهم ديمقراطيين إلى درجة لا يُستهان بها.
.
الغلو في العقيدة يصاحب النزعة الثورية غالباً. ذلك لأن الأفكار الرصينة و العقائد المعتدلة باردة بطبيعتها فهي لا تدفع الناس إلى الحركة و لا تشجعهم على المجازفة و ركوب الخطر في سبيل مبدأ من المبادئ.
.
إن هذا هو الذي أدى إلى تفكك نظام الزواج في المجتمع الغربي. فالفتى هناك لايكاد يلمح فتاة تعجبه حتى يشرع بمغازلتها ويقول لها: "أحبك إلى الأبد"
ثم يسرع بتقبيلها. ولا يأتي الغد عليهما إلا وهما زوجان يأكلان الحلوى في شهر العسل. وعندما ينتهي شهر العسل يبدأ شهر الزفت إذ ينشب الخصام بينهما وكل
منهما يضع اللوم على عاتق صاحبه. والحبل بعدئذ على الجرار! أطلق بعض العلماء على هذه الظاهرة اسم "العقدة الرومانتيكية" ، وعزوا إليها هذا التفكك، الهائل الذي يسود حياة العائلة الحديثة.
.
سأل بيري، المستكشف المعروف، رجلاً من الأسكيمو: بماذا تفكر ؟ فأجابه الرجل: ليس هنالك داع للتفكير. فعندي كمية وافرة من الطعام.

مهزلة العقل البشريحيث تعيش القصص. اكتشف الآن