الزهاد المتوحدون

305 17 4
                                    


ربما اعتقد بعض القراء ان الشاب الذى اتكلم عنه مريض ، ذهولى الطبع وذو شخصية ضعيفة ،حالم، شاحب اللون،نحيف الجسم ضعيف يفتقد النشاط .على العكس،كان اليوشيا ،فى تلك الفترة،مراهقا فى التاسعة عشرة،طويل القامة مورد الخدين،ساطع النظر،يشع عافية،وكان جميل الوجه مستقيما،له قامة اكثر من متوسطة ،وشعره بنى غامق وجهه مستطيل ،عيناه براقتان متباعدتان قليلا ذواتا لون رمادى داكن .انه مفرط فى التفكير وهو،ظاهريا ،هادى جدا،ربما يقال ان الخدين المتوردين لا ينفيان لا التعصب ولا التصوف .اما انا فاعتقد ان اليوشا كان واقعيا اكثر من اى رجل اخر.طبعا،فى الدير،كان يومن كليا بالمعجزات ،ولكن المعجزات،فى رايي،لا تزعزع ،اطلاقا ،انسانا واقعيا .فليست المعجزات هى التى تدفع رجلا واقعيا الي الايمان .فالواقعى الحقيقي ،ان كان غير مومن ، سيجد دائما فى ذاته القوة والقدرة على عدم الايمان بالمعجزة .واذا ماوجهته معجزة كواقع لا يمكن دحضه ،يرفض تصديق حواسه ولا يقبل  هذا الواقع .واذا قرر ،اخيرا ، ان يقبل هذا الواقع ، يقبله لكونه حدثا طبيعيا كان يجهله من قبل .فالمعجزة ،لدى الواقعى ، ليست هى التى تولد الايمان ، انما تولد من الايمان .قال توما الرسول انه لايومن قبل ان يرى .وعندما راي قال :(انت ربي والهى!)هل المعجزة هى التي دفعته الي الايمان ؟اغلب الظن ان لا ،فهو لم يومن سوى لانه يريد ان يومن،وكان قد امن كليا ،من قبل،فى اعماق كيانه عندما كان يقول :(لن اومن طالما لم أرى) ربما يقال ان أليوشا كان محدودا قليل الثقافة لم يكمل دراسته فى الثانوية ،الخ.صحيح انه قطع دراسته في الليسيه ،لكن أن يقال انه غبي ومحدود فذلك غير عادل أبدا .واكرر ما سبق أن قلت:اذا كان قد اختار هذا الطريق ،فذاك لهذا السبب البسيط وهو ان هذا الطريق،فى تلك الفترة ،هو الذى قدم له فجاة مثال الخلاص لنفس تحترق للخروج من الظلمات الي النور .اضف الي انه كان شابا من ابناء جيلنا تقريبا شريفا فى طبيعته ،يطلب الحقيقة ويفتش عنها ويومن بها.فلما اكتسب الايمان ألح فورا،بكل شي فى سبيلها ،حتى لو كانت حياته ذاتها .وان كان هؤلاء الشبان ،مع الاسف ،لا يعرفون ان التضحية بالحياة هى ربما أسهل التضحيات فى عدد كبير من الحالات ،وان يضحى المرء،مثلا،بخمس سنين او ست من شبابه المندفع لدراسة صعبة وشاقة،وللعلوم،ولو ليضاعفو عدة مرات قواه الذاتية ذاته فى خدمة هذه الحقيقة عينها وهذا التقدم الذى أحبوه ونذروا أنفسهم لانجازه،هذه التضحية ،وهذا مايتاكد يوميا ،هى بالنسبة الي الكثير من الناس ،تفوق بكثير قواهم.ولم يختر أليوشا الا هذه الطريق التى هى نقيض كل الطرق الاخرى ولكن بالتعطش نفسه لتقدم سريع .وما ان اقتنع بعد تفكير عميق بان الله وخلود النفس موجودان بشكل طبيعى،حتى قال فى سره :(اريد ان اعيش للخلود ولا اقبل المساومة على النصف).وبالطريقة نفسها ،بالضبط،اقتنع بأنه اذا لا وجود لله ولا للخلود أصبح على الفور من الملحدين والاشتراكيين (لان الاشتراكية ليست المساله العمالية فقط او مسالة مايسمى بالدولة الرابعة ).لا،انها،فى الاساس،مسأله الالحاد ،مسالة التجسد الحديث للالحاد ،مسألة برج بابل القديمة ،الذى يشيد بدون الله ،ليس لبلوغ السموات من الارض بل لانزال السموات الي الارض ).وبدا لأليوشا أنه من الغريب والمستحيل العيش كما فى السابق ،فقد قيل :(أعط كل شى واتبعنى اذا أردت أن تكون كاملا ).فقال اليوشا فى نفسه عندئذ:(لا استطيع ان اعطى روبلين اثنين مقايل كل شئ).ومقابل (اتبعنى)،أذهب الي القداس .ربما احتفظ بذكريات من طفولته الاولى تتعلق بديرنا المجاور للمدينة حيث استطاعت أمه أن تصطحبه الي القداس ،وربما ايضا ان تكون تلك الأشعه المائلة للشمس الغاربة امام الايقونة التى كانت امه (المولولة )ترفعة بذراعيها باتجاهها قد تركت فيه أثرا بالغا .ربما لم يأت الى مدينتنا ،فى تلك الفترة،الا لكى يتحقق من أمر ما ،هل يعطى (كل شئ) الان أيضا أم يعطى روبلين فقط .وكان قد التقى فى الدير ذلك الناسك...         هذا الناسك ،كما سبق أن أشرت أعلاه ،هو الزاهد زوسيما .لكن يتوجب على أن اقول هنا بضع كلمات عما يمثله،بوجه عام،هؤلاء النساك فى أديرتنا،واسف،فى الحقيقة،لاننى لا بالمعرفة الراسخة ولا بالاطلاع الكافى .لذلك سأحاول أن أفسر الأمر ببضع كلمات وبشرح سطحى .قبل كل شئ ،يؤكد  المختصون أن الزهاد المتوحدين والمؤسسة التى يمثلونها لم يظهروا فى أديرتنا الروسية الا حديثا، منذ زمن لا يتعدى المئة سنة ،بينما وجدت المؤسسة فى الشرق الأرثوذكسي كله ،وبصورة خاصة فى سيناء وفى جبل اثوس منذ اكثر من ألف سنة .ويؤكدون أنها ،عندنا فى روسيا ،قد وجدت أو لنقل يجب أن تكون قد وجدت بالضرورة بعد كوارث التاريخ الروسي ،من غزو التتار والاضطرابات الداخلية وانقطاع العلاقات بالشرق بعد الاستيلاء على القسطنطينية ،وقد غمرها النسيان عندنا واختفى نساكها . ولم تر النور مجددا عندنا الا فى نهاية القرن الماضى بفضل جهود أحد كبار النساك (هكذا يسمونهم)،وهو الناسك بايسي فيليتشكوفسكى وتلامذته،ولكن،منذ ذلك الوقت ،وبعد مايقرب من المئة سنة ،لم يعد النساك موجودين الا فى عدد صغير من الاديرة ، لا بل عانوا،أحيانا،من الاضطهادات وكانهم بدعة جديدة فى روسيا .ازدهرت هذه المؤسسة عندنا،فى أرضنا الروسية ،فى منسك شهير،هو كوزلسكايا أوبتينا .متى وبواسطة من دخلت ديرنا (؟)   أيضا،لا اعرف ،لكنه كان يقال انهم فى التعاقب الثالث للناسك الذين كان اخرهم زوسيما ،والذى كان يشرف على الموت تقريبا بسبب المرض ، بينما لا يعرف من سيحل محله .وان هذه المساله كانت هامة بالنسبة الي ديرنا ،لانه حتى ذلك الوقت،لم يكن لديه شي يمنحه الشهره :فلا رفات قديسين شهداء ولا ايقونات عجائبية ،ولا أساطير مرتبطة بتاريخنا .لم يكن يعكس ماثر تاريخية ولم يسهم فى اي عمل تجاه وطننا.لقد ازدهر واصبح شهيرا فى روسيا كلها بفضل النساك الذينكانوا يجتذبون الحجاج الذين ياتون الي منطقتنا من مسافات تبعد الاف الفراسخ .فمن هو اذا الناسك؟ انه الناسك الذى يسيطر على نفسك وارادتك وبارادته هو ذاتها .تختار ناسكا وتتنازل عن ارادتك وتعطيه اياها بطاعة مطلقة متنازلا كليا عن (أناك).والذى يختار هذا الطريق مدرسة لهذه الحياة الرهيبة انما يقوم بذلك،طوعا،أملا فى ان يتغلب ،بعد طريق طويل ،على ذاته ويصبح سيد نفسه لكى يكون،فى النهاية،قادرا بالطاعة على ان يصل الي حرية كاملة ،حرية تجاه نفسه ،ولكى يتجنب مصير أولئك الذين عاشوا حياتهم ولم يتوصلوا الي معرفه انفسهم .وهذا الاختراع ،اعنى مؤسسة النساك ،ليس مجرد امر نظرى انما هو نشأ فى الشرق من ممارسة يعود تاريخها الى أكثر من  ألف سنة. فالواجبات تجاه الناسك لا علاقة لها (بالطاعة)المالوفة التى كانت موجودة دائما فى اديرتنا الروسية .وهنا،يقوم اعتراف أبدى من كل الذين يرتبطون بالراهب،وصلة لا تنفصم بين الذى يربط وبين المرتبط به.يحكى،على سبيل المثل،أن مبتدئا ،فى الازمنة الأولى من المسيحية ،لم يخضع لأوامر فرضها عليه ناسكه،فتركه وهجر الدير وسافر ال بلاد أخرى من سوريا الى مصر .وهناك،بعد أن بلغ تقدما روحيا كبيرآ،          استطاع ،أخيرآ،أن ينال التعذيب والموت شهيدآ فى سبيل أيمانه. والحالة هذه،       عندما دفنت الكنيسة جسده معتبرة أياه قديسآ،صاح الشماس فجأه :(فليخرج الموعوظون!)(catechumenes) فطار النعش من مكانه وفى داخله جسد الشهيد، الى خارج الكنيسة (الهيكل)،وتكرر ذلك ثلاث مرات. وعرف أخيرآ أن هذا الرجل القديس الذى عانى التعذيب ،خالف،فى مامضى ،نذر الطاعة وهجر ناسكه. فلذلك ، لايمكن أن ينال الغفران رغن عظمة تقدمه الروحى بدون أن يأذن ناسكه بذلك .وعندما استدعى الناسك للمساعدة أعفاه من نذره للطاعة .وعندئذ،تم دفنه .طبعا لم يكن كل ذلك سوى أسطورة قديمة . ولكن ،أليكم قصة حديثة واقعية:اعتكف أحد النساك ،الذين كانوا يعيشون فى عصرنا،فى جبل آثوس .وفجأة أمره مرشده الناسك بأن يترك جبل أثوس الذى تعلق به كأنه قديس القديسين وكملجأ أمين للسلام،من عمق أعماق روحه وصار يفضله على كل ماعداه .أمر أن يذهب،فى بادئ الأمر ،الى القدس ليحج ألى الاماكن المقدسة،ثم يعود الى شمال روسيا ألي سيبيريا .قال له:(هناك مكانك وليس هنا). حزن الراهب حزنا شديدا واستبد به الآلم فذهب ألى القسطنطينية ،الى رئيس البطاركة وتوسل اليه أن يعفيه من نذره للطاعة. أجابه البطريك بأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك ،رغم رتبته ،وبأنه لاتوجد فى العالم أى سلطة يمكنها أن تعفيه من هذا الواجب الذى فرضه عليه ناسكه.هكذا اذا، تتمتع هذه المؤسسة بسلطة يمكن أن تصبح بدون حدود ومغلقة .      ولهذا السبب تعرض اتباع هذا النظام فى عدد كبير من أديرتنا ،للاضطهاد فى           أول الأمر،لكن النساك كسبوا بسرعة احترام الشعب لهم.وهكذا كان نساك ديرنا يستقبلون زوارآ يتوافدون جماعات غفيرة من بسطاء الناس ومن نبلاء القوم يظهرون لهم اعجابهم ويعترفون لهم بشكوكهم  وخطاياهم عندما رأى خصوم الناسك ذلك ،  اشتكوا وادعوا انه بهذه الطريقه انما يفسد بشكل جائر وتافه سر الاعتراف، مع أن ماكان يبوح به الراهب المبتدئ أو العلمانى لهؤلاء النساك ،من أعماق نفسه، يناقض سر الاعتراف . فى نهاية المطاف ،استقرت، أخيرا، هذه المؤسسة وانتشرت ،شييئا فشيئا فى الأديرة الروسية. يجب القول أيضا أن هذا السلاح  الذى يعود الى أكثر من ألف عام ،والذى يهدف الى تحقيق أصلاح روحى للانسان يرفعه من العبودية الى الحرية والى الكمال الاخلاقى ،يمكن أن يتحول سلاحا ذا حدين وأن يولد لدى بعضهم ،كما أعتقد، لا تواضعا وسيطرة كاملة على الذات بل تكبرآ شيطانيآ يودى الى استعباد النفس وليس الى تحريرها .                                                                                                                     كان الناسك زوسيما فى الخامسة والستين من عمره،يتحدر من عائلة ملاكين عقاريين، وقد انخرط فى العسكرية ،وهو فى ريعان شبابه ،وعمل ضابطا أعلى فى القفقاس.بدون أى شك ،أدهش أليوشا بنوعية روحه المميزة.كان أليوشا يقيم فى الغرفة نفسها التى يعيش فيها الناسك الذى أحبه كثيرآ فارتضى أن يكون بقربه .وتجدر الاشاره هنا الى أن أليوشا ،وهو يعيش فى الدير،لم يكن قد ارتبط بعد بشئ ،ويستطيع الذهاب حيث يشاء ،ويغيب عن الديرأياما بكاملها .وان هو ارتدى جبة الراهب فانما فعل ذلك طوعا حتى لا يتميز بشى عن الرهبان الآخرين فى الدير.ومن الواضح أنه كان يحب ذلك .ولعل مخيلة أليوشا المراهقة قد تأثرت بقوة بالسلطة والمهابة اللتين كانتا تحيطان دون توقف بناسكه .وكان كثيرون يقولون ان زوسيما العجوز الذى استقبل ،خلال سنوات طويلة ،هذا العدد من الذين كانوا يجيئون اليه فيفتحون له قلوبهم متعطشين الى نصائحه والى كلامه صانع المعجزات ،اكتسب قدرة غريبة على معرفة النفوس والآلام يعذب ضميره ،فيدهش ويبعث الاضطراب فى من يرونه لأول مرة حتى ليكاد يلقى فى قلوبهم الذعر قبل ان يتفوهوا بكلمة واحدة.  مع ذلك ،لاحظ أليوشا أن عددا كبيرآ من الاشخاص ،جميعهم تقريبا ،الذين يدخلون على العجوز لأول مرة ،من أجل حديث حميم ،كان يبدو عليهم القلق عند وصولهم ،وعندما يخرجون كانوا جميعهم تقريبآ يخرجون رابطى الجأش ،فرحين سعداء .ومما أثر فى أليوشا ،بشكل غريب ،هو أن العجوز لم يكن قاسيا أبدآ .بالعكس. كان دائما فرحا فى اسلوبه . وكان الرهبان يقولون أنه يحب ،بصورة خاصة أولئك الذين تحمل ضمائرهم عددآ أكبر من الآثام ، وانه يعطف على الذين هم أكثر خطايا .ومن بين الرهبان ،حتى فى أواخر حياة العجوز، أفراد يكرهونه ويشعرون تجاهه بالحسد ولكن عددهم كان قليلا ،ويلزمون الصمت بصورة غير عادية .بالرغم من كل شئ ،انحاز أكثرية الرهبان الى الناسك العجوز نهائيا وكان من بينهم من يحبونه من صميم القلب بل ان منهم من أخلصوا له الى درجة التعصب . وكان هؤلاء يقولون بصراحة،وبصوت خفيض، انه قديس، وهذا مالا شك فيه ،وكانوا يتنبأون أن تحدث بعد وفاته، معجزات مباشرة ومجد عظيم سيحظى به الدير،فى مستقبل قريب.                 وكان أليوشا ،هو أيضا،يؤمن ،بدون أى شك،بالقوة العجائبية للناسك ، تمامآ كما كان مقتنعا بقصة النعش الذى طار الى خارج الكنيسة .ورأى أليوشا كم كان عدد الزوار كبيرآ يصلون الى اولادهم المرضى أو أقاربهم البالغين يسألون الناسك أن يضع يديه عليهم ويقرأ بعض الصلوات ،ويعودن سريعآ ، وبعضهم فى اليوم التالي ،فيرتمون على قدمى العجوز والدموع ملء عيونهم يشكرونه على شفاء أمراضهم .هل كان الشفاء حقيقيا أو مجرد تحسن فى حاله المرضى؟ لم يكن هذا السؤال ،بالنسبة لأليوشا موجودآ لأنه كان يؤمن بعمق قوه  معلمه الروحية ،وكانت عظمته كأنها نصر له ذاتى .كان قلبه يرتجف فرحآ عندما يخرج العجوز لمواجهةجمهرة الناس الحجاج البسطاء القادمين من أقاصى روسيا والذين ينتظرون خروجه عند مدخل المنسك لكى يروه وينالوا بركته. كانوا ينحنون أمامه ويقبلون رجليه والأرض التى يمشي عليها .                                    كان الراهب الناسك يحدثهن ويقرأ صلاه قصيرة ويباركهن قبل أن يصرفهن.                                             وفى الاونه الأخيره ، وبسبب تفاقم المرض لم يعد يملك القوة للخروج من حجرته ، فكان الحجاج ينتظرون خروجه أياما متتالية. بالنسبة لأليوشا ،لم يكن يستغرب أن يحبه الحجاج الى هذا الحد ، وأن يرتموا أمامه ويبكوا من الانفعال عندما يرون وجهه .كان يدرك تماما بأن نفسا متواضعة كنفس الشعب الروسي البسيط ، التى يرهقها العمل والبؤس ، ويضنيها الظلم الدائم والخطيئة المستمرة ،أن نفسا كهذه ، لا توجد بالنسبة اليها حاجة أقوى من أن تجد مكانا مقدسا أو قديسا تسجد أمامه خاشعه :(اذا كنا نحن نعيش فى الخطيئة والكذب والتجربة ،فلا يزال،يوجد على الأرض،فى مكان ما،قديس،كائن أسمى هو الذى يملك الحقيقة وهو يعرف الحقيقة ،اذن ،لم تمت الحقيقة بعد على الأرض ،ربما بين يوم وآخر ،ستمر من عندنا أيضا ويعود ملكها على الأرض كما هو موعود).كان أليوشا يعرف أن الشعب كان يحس ،على هذا النحو،      هو يفهم ذلك .أما كون الناسك هو ذاك القديس الرائع ،وحارس الحقيقة الالهية بنظر الشعب فذلك مالا يشك فيه لحظة واحدة ،وكان ايمانه به لا يقل عن ايمان الفلاحين الباكين مع زوجاتهم المريضات اللواتى يمددن أطفالهن الى الراهب الناسك .ولعل يقينه من أن الراهب الناسك سيكون للدير ،بعد وفاته،مصدر مجد خارق وأقوى من يقين أى راهب آخر فى الدير.وبشكل عام ،فى هذه الآونة الاخيرة ،كان يزخر بنوع من حماسة داخلية عميقة تلهب قلبه .وكان لا يقلقه أبدا أن يبقى هذا الناسك ،رغم كل شئ الأوحد أمامهم :(على كل حال،انه قديس ،وسر بعث جميع البشر ،يكمن فى قلبه ،هذه القدرة التى ستكفل اقامة الحقيقة على الأرض ويصبح جميع الناس قديسين يحبون بعضهم بعضآ،ولن يكون ثمة فقراء ولا أغنياء ولا متكبرون ولا مستذلون ،سيصبحون جميعأ كعبيد الله، وسيسود الملكوت الحقيقى فى الارض ).ذلك كان الحلم الذى يملأ قلب أليوشا.                                                                                                                       يبدو أن وصول أخويه اللذين لم يكن يعرفهما حتى ذلك الوقت قد أثر فى نفس أليوشا تاثيرا شديدا .لقد تفاهم مع أخيه ديمترى فيودروفتش ،مع انه الأخير الذى وصل، اسرع مما مع أخيه الشقيق ايفان .كان يرغب ايفان عن كثب ،ولكن لم يحدث بينهما أى تقارب .رغم أن الأخير كان يقيم هناك منذ شهرين،وكانا يلتقيان غالب الأحيان ، كان أليوشا يبقى صامتا كأنه ينتظر شيئآ ما أو يخجل من شئ ما.أما ايفان الذى لاحظ نظراته المفترسة والفضولية، أصبح لا يوليه اهتماما .لا حظ اليوشا ذلك مع نوع من الاضطراب فعزا ذلك الى الفرق بينهما فى السن وفى التربية .لكن أليوشا كان يفكر فى شئ آخر : فهذه الفضولية وقلة اكتراث ايفان ناشئتان ربما عن سبب لا يزال أليوشا يجهله،كان يبدو له أن ايفان منهمك البال دائما بشئ ما،بمسألة داخلية ومهمة ،وأنه   يطمح الي بلوغ هدف صعب جدا فلا يلهيه عند الاهتمام بأخيه وكان أليوشا يفكر فى شئ آخر أيضا :ليس هناك نوع من الاحتقار تجاه هذا المبتدئ الصغير احتقار عالم ملحد لراهب مبتدئ صغير؟ كان أليوشا يعرف أن أخاه ملحد .ومثل هذا الاحتقار _اذا وجد_ قد لا يزعج أليوشا ،بالرغم من ذلك كان أليوشا ينتظر ،وبقلق فيه شئ من الغموض ،اللحظة التى يقرر فيها أخوه التقرب منه .أما أخوه ديمترى فيودورفيتش فكان يتحدث عن أخيه باحترام بالغ ويتكلم عنه بنوع من الحماسة الاستثنائية،ومنه عرف أليوشا كل تفاصيل العلاقة الهامة التى توثقت بين الأخوين ، فى الاونه الأخيرة ،هذه العلاقة الحميمة ،فشدت أحدهما الى الآخر .وكانت الأصداء الحماسية التى بيديها ديمترى تجاه أخيه ايفان تكتسب المزيد من الدلالة فى نظر أليوشا خاصة أن ديمترى كان بالمقارنة بايفان رجلآ بدون ثقافة،والاثنان معا يشكلان مفارقة فى الطبع والشخصية يجعل من المستحيل تصور رجلين أكثر تناقضا منهما .                                                             فى تلك الفترة بالذات حصل اللقاء العائلى أو بتعبير أفضل ،اجتماع العائلة بكل أفرادها المتنافرين فى غرفة العجوز زوسيما ،فترك فى نفس أليوشا تاثيرا كبيرا .والحجة التى اتخذت لعقده كانت خاطئه. ففى تلك اللحظة بالضبط بلغ الخلاف القائم بين ديمترى فيودوروفتش ووالده فيودور بافلوفتش حول الأرث وتصفية الحساب ذروته ،وتفاقمت العلاقات المتوترة بين الوالد وابنه بحيث أصبحت لا تحتمل .يبدو أن فيودور بافلوفتش ، هو الذى اقترح على سبيل المثال فكرة عقد الاجتماع فى غرفة الناسك زوسيما ،دون أن يتدخل هذا الأخير مباشرة ،ربما تضفى مكانة هذا الانسان المحترم وشخصيته جوا يهدئ النفوس ويصالح القلوب .وفكر ديمترى فيودروفتش،الذى لم يسبق أن زار الناسك ،والذى لم يره أبدا ،تصور ،طبعا ، أن الهدف من هذا الاجتماع هو تخويفه من ومع ذلك ،وافق ديمترى على هذا التحدى لأنه كان ضمنا  يلوم ذاته على الحدة العنيفة التى كان يواجه بها والده فى الفترة الأخيرة.وتجدر الاشارة الى أنه ماكان يقيم فى منزل والده،مثل أخيه ايفان ،وانما كان يقيم وحيدا فى الطرف الاخر من المدينة . حدث،أثناء ذلك،أن بيوتر ألكسندروفتش ميوسوف الذى كان يقيم فى مدينتنا حينذاك ،تحمس بصورة خاصة لرأى فيودور بافلوفتش. وهو ليبرالى على طراز سنوات 1840_1850،ومفكر حر وملحد ،قد ساهم،ربما عن سأم ،فى هذه المسالة بشكل فعال،وربما عن مزاح طائش فى السخرية .ورغب ،فجأة ،أن يرى الدير و(القديس)،واذا كان النزاع بينه وبين الدير على تثبيت حدود ملكيته وحدود ملكيه الدير ،وعلى الحقوق الغامضة فى قطع أشجار الغابات وصيد أسماك النهر،لم يكن قد حسم والدعوى لا تزال قائمة سارع الى انتهاز هذه المناسبة بذريعة أنه يريد أن يتفق مع رئيس الدير ،لأنه ليس وسيلة لحل الخلاف الا حبيبا .وزائر بهذه النية الطيبة  من الممكن أن يستقبل بشكل ألطف من الاستقبال الذى سوف يلاقيه لو ذهب الى الدير بدافع الاستطلاع فحسب.أتاحت هذه الاعتبارات المتعددة تحريك بعض المؤثرات داخل الدير وأثرت فى الناسك المريض الزى اصبح منذ فترة لا يبارح غرفته ويرفض بسبب سوء حالته استقبال الزوار الذين اعتادوا القدوم اليه ،ووافق على الاجتماع وحدد يوم اللقاء .وقال الراهب الناسك لأليوشا مبتسما:(من فوضنى كى أكون الحكم بينهما؟).                                                                                  عندما علم أليوشا بشأن هذا اللقاء غاض فى اضطراب شديد.أذا كان ثمة أحد من بين هذين الرجلين المتخاصمين المتنازعين سوف يأخذ هذا الاجتماع بجدية فهو،بدون أدنى شك،أخوهما ديمترى .أما الآخرون فسيذهبون الى الدير بدوافع طائشة وسخيفة قد تسئ الى العجوز .هذا ماكان يدركه أليوشا بحق. فأخوه أيفان والسيد ميوسوف جاءا الى الدير بداعى الفضول .وليس مستعبدا أن يكون فى نية والده تمثيل مهزلة ساخرة .لزم أليوشا الصمت،وهو يحس ذلك،لأنه كان يعرف جيدا والده.فهذا الفتى كان أشد ذكاء مما يتصور بعض الناس .وكان ينتظر اليوم المحدد منقبض القلب بدون شك ،كان فى أعماق نفسه يتمنى أن تنتهى هذه النزاعات العائلية بشكل أو باخر .لكن همه الأساسى كان الراهب الناسك : كان يرتعد قلقا عليه وحرصا على مجده ، ويخشي أن يلحقوا به الأهانة،ويخشي،بصورة خاصة، السخريات اللطيفة المهذبة التى يعتمدها ميوسوف وغمزات الاحتقار التى يمكن أن يقوم بها أخوه المثقف أيفان ،:وهكذا ،كان يتصور الأمر .أراد،فى لحظة ما،أن يجازف ويعلم الراهب الناسك ،ويقول له شيئا ما عن هؤلاء الأشخاص الذين سيأتون لزيارته،لكنه فكر فى الأمر ولزم الصمت،أراد فى عيشة اليوم المحدد أن يبلغ أخاه ديمترى بواسطة صديق لهما أنه يحبه كثيرآ وهو يعتمد على وعده .وبقى ديمترى محتارا فى شأن هذه الرسالة لأنه لم يستطع أن يتذكر بماذا وعد أخاه ،ثم أجابه فى رسالة خطية بأنه سوف يبذل كل جهوده لكى لا تقع أى (سفالة).وأضاف انه رغم احترامه العميق للعجوز ولأخيه ايفان الا أنه كان واثقا بأن فى الأمر فخا أو مهزلة منحطة ،وختم بقوله :(أفضل أن أبلع لسانى على أن أقول مايؤذى هذا الرجل القديس الذى تحترمه أنت كثيرا.)لكن الرسالة لم تكن لتطمئن أليوشا.  

تم بفضل الله الانتهاء من الكتاب الاول ارجوه منكم التصويت والمشاركه من اجل دعمكم من اجل نشر الكتاب الثانى من الاخوه كارامازوف وشكرا لكم 

🎉 لقد انتهيت من قراءة رواية الأخوة كارامازوف 🎉
رواية الأخوة كارامازوفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن