في الساعة الواحدة صباحًا بعد منتصف الليل، والظلام سادر على مدينة التجمع الخامس، وفي إحدى المناطق السكنية، بزغ في الأفق وهج عظيم لنيران مشتعلة ببناء يتألف من طابق أرضي وبدروم، يغطي صوت اشتعال النيران على صوت تلك التعسة التي تصرخ هلعًا بداخلها وهي ترى نهايتها الحتمية إن خرجت من ذلك الحريق البشع، لا تكف عن الاستنجاد إذ كان أملها الوحيد:
- الحقووووني! حد يخرجني من هنا..يا نااااااس!
هل يسمعها أحد؟ لا تعرف. أخذت تتراجع إلى الخلف والنيران تقترب منها كوحش مخيف مرعب، تبكي وتصرخ، سريعًا يمر أمام عينيها شريط تصويري لحياتها بأكملها، تذكر والدها ووالدتها وأختها الوحيدة، لا تريد الرحيل عنهم الآن، لا تريد أن تترك لهم جرح فقدان ابنتهم في مأساة بشعة كهذه، لكن ماذا عساها أن تفعل.. تصرخ!
خرج الناس من الأبنية المحيطة يصرخون فزعًا، واتجهوا نحو المبنى المحترق وقد شدوا خراطيم المياه من أبنيتهم لكن بمجرد أن تلاقت النيران مع المياه ازدادت اشتعالاً، هل أي نيران تطفئها المياه؟!
لم ينتبهوا لذلك في البداية حتى صرخ أحدهم ليتوقفوا وقد فطن أن الحريق حدث بسبب مواد كيميائية قابلة للاشتعال لن تطفئها المياه؛ فسأله جاره:
- طب هنعمل إيه يا دكتور..حد يتصل بالمطافي بسرعة!
لم يأبه لهم الطبيب بل كان يرهف السمع إلى ذلك الصوت الحثيث النابع وسط خشخشة النيران؛ فصاح بذعر تجلى في مقلتيه المتقدتين بانعكاس النيران فيهما:
- فيه حد جوا.. صوت بنت بتصرخ، فيه بنت جوا!
صاح الآخر ليُسمعه:
- المطافي والإسعاف على وصول.
هز الطبيب رأسه بغير اقتناع يهمهم بغضب:
- مستحيل تطلع سليمة عقبال ما يوصلوا.. مستحيل!
وفي غمضة عين كان قد قفز بداخل المبنى ولم يستطع أحد أن يثنيه عن قراره إذ أصبح بالداخل فعلًا، المشهد أشبه بالجحيم، قطعة من سجين، دلف سريعًا محاولا ألا يلمس الجدران، يثب فوق القطع المشتعلة أسفل قدميه بحثًا عن تلك الفتاة، صرخت بعزم قوتها حينما رأت انهيار أحد الجدران منصهرة خرساناته؛ فسمع صوتها واستطاع أن يحدد وجهته وبينما كان على مشارف الغرفة التي تقف بها سقط فوقه قطعة معدنية مشتعلة فتفاداها جزئيًا إذ نالت من ذراعه فأطلق صرخة ألم وصلت مسامعها؛ فأخذت تصيح وهي تسعل بقوة" ف.. فيه.. حد هنا؟.. الحقوني!!" لكن لم يأتها رد فحاولت الحديث مرة أخرى لكن الدخان كان قد ملأ رئتيها لم يكن بإمكانها حتى أن تسعله إذ غشيت الرؤية ولفَّ بها المكان حتى سقطت مكانها، والنار تزحف نحوها تتلوى كثعبان ماكر يتفنن في الانقضاض على فريسته، توقف على باب الغرفة عاجزًا، النار تمنعه من الوصول إليها، لن يمر بها حتى يصبح فتيلًا مشتعلاً، أخذ عقله يعمل بسرعة من أجل إيجاد طريق أخرى لإنقاذها.. ألم يجد حقا؟!
كلا، ساعده ذلك الجدار المنهار نصفه الذي يفصل بين تلك الغرفة ومجاورتها، كسر باب تلك الغرفة فسقط على قدمه قطعة خشبية محترقة ألهبتها، فكتم أوجاعه يزفر متألمًا، ثم دخل الغرفة وكانت أقل اشتعالا من الأخرى، ولج من الجزء المفتوح بحذر قبل أن ينهار جزء آخر منه ووثب فوق القطع المشتعلة وأزاح بعضها بقطعة خشبية لم تشتعل بعد، حتى وصل إليها.
خرج شهاب بأعجوبة من ذلك الجحيم، يحمل الفتاة فاقدة الوعي بين ذراعيه، يتدلى رأسها ويتأرجح شعرها المنسدل إلى الوراء متألمة ملامحها، غير واعية بما عاناه ذلك الرجل لإنقاذها من براثن الموت.
وصلت سيارة المطافىء وشرعت في إطفاء الحريق ومن خلفها تسلمت سيارة الإسعاف الفتاة وبينما كان شهاب على وشك العودة أوقفه طبيب الإسعاف:
- يا أستاذ، يا أستاذ!
توقف شهاب منصتًا بوهن؛ فأردف الطبيب:
- من فضلك اتفضل معانا حضرتك مصاب بحروق ولازم نعالجها بسرعة.
كان شهاب على وشك الرفض لكنه انصاع لرغبة الطبيب دون أن يعرف السبب واستقر في السيارة بينما شرعت الممرضة بإسعافه وانشغل الطبيب بتطبيب الفتاة.
أنت تقرأ
نارة (مكتملة)
Romanceيفر الناس من الحب خشية نيرانه، لكنني فررت إليها، منها بدأت قصتنا وهيهات أن تنتهي، وإلى كل من يعتقد نفسه غيثًا، هب أن تقترب من نيران حبي المقدسة، لن ينطفىء احتراق ذلك الجوى حتى تجف مياه البحار والأنهار فهو محموم بجمرتي المشتعلة، تتوهج عشقًا وصبابة، ج...