الفصل الرابع

219 8 0
                                    

أغلق شهاب باب غرفة النوم حالما دلفا إليها، بينما ابتدرته نارة بنوبة غضب:
- ممكن أعرف إيه اللي حصل ده؟ هو أنا هربانة من جوازة علشان أتدبس في التانية، آااه قول بقا كده إنك استغليت أزمتي ووهمتني إنك هتساعدني علشان عجبتك وطمعت فيا و..
خطا شهاب نحوها بصرامة أفزعتها ووضع راحته على فمها بينما يحذرها بإشارة من يده الأخرى قائلًا:
- إياكِ تكملي، ماتخلينيش أندم إني حطيت نفسي وأهلي في موقف زي ده علشانك ويكون ده تفكيرك فيا.
تخدر جسدها وتلاشت ثائرتها، ترفرف بعينيها تطالعه بنظرات حالمة وقبل أن يغدو عقلها يتخذ مسارًا آخر في شروده، أنزل شهاب يده عن فمها وأشاح بنظره عنها قائلًا بلهجته الساخرة:
- وبعدين فيه واحدة تكلم جوزها كده يا ست هانم؟!
أثارت كلماته غيظها من جديد وأخذت تلكمه في كتفه وهي تردد:
- جوز مين! ها جوز مين! أنت صدقت نفسك ولا إيه؟!
أخذ ينظر إلى يدها وهي تلكمه وما لبث أن أمسك يدها ولف ذراعها خلف ظهرها بحركة سريعة؛ فأضحى ظهرها إليه وهي تتألم وتتميز غيظًا:
- ماعندناش ست تمد إيديها على راجلها.. فاهمة!
زمت فمها بحنق وقالت:
- وهي الرجولة إنك تمد إيدك على بنت؟
أفلت يدها من قبضته قائلًا باستغراب مفتعل:
- أنا! ماحصلش، ده كان لفت نظر بس.
أخذت تفرك معصمها بألم، ثم قالت:
- من الآخر، عايزة أفهم ليه قلت لأهلك إني مراتك؟
ضحك ضحكة قصيرة بتهكم وجلس على المقعد رافعًا ساقيه على الطاولة بارتياح:
- لسببين أولهم إن أهلي عمرهم ما كانوا هيوافقوا إني أخبي بنت هربانة من أهلها يوم فرحها، جو قادرة على التحدي والمواجهة ده مش عندنا، والسبب التاني هو إن بعد ما شفت أبوكي وباللي حكيتيهُ لي عن خطيبك؛ فأنا متأكد إنهم مش هيسكتوا غير لما يلاقوكي وزي ما أبوكي عرف يوصل لبيتي هناك هيقدر يوصل هنا، الحكاية مسالة وقت مش أكتر، وقتها بقا كل اللي عملناه ده هيروح على الأرض وهياخدوكي بكل سهولة وهيلبسوني في كلبش.
لاذت نارة بالصمت تفكر وتعقل كلامه، بدت مقتنعة بتفكيره بل وأعجبت بحسن تدبيره وشجاعته لإقدامه على ذلك الأمر والتصدي لوالديه فقط من أجل حمايتها ومساعدتها، لأول مرة في حياتها ترى معنى المروءة بحق، وكان متجسدًا في أفعال ذلك الرجل.
خرجت من تفكيرها لسماعه يقول:
- هروح أجيب لك حاجة تلبسيها مؤقتًا من عند نرجس عقبال ما ننزل بكرة نشتري لك لبس.
أومأت له موافقة بابتسامة رقيقة، ثم راحت تتفقد الغرفة البسيطة فراش ودولاب من الخشب الفاتح اللامع يبدو عليهما القدم وأمام الفراش يقبع مكتب مكسوًا بمفرش أبيض من الدانتيل، تحسست فوقه الأباجورة المعدنية القديمة وبعض من كتب الطب رصت عليه، وجدت الابتسامة طريقها إلى شفتيها وهي تتخيل شهاب يذاكر دروسه على ذلك المكتب، ويرتمي بجسده المنهك على ذلك الفراش الوثير. وفي لحظة اتجه بصرها إلى خزانة ملابسه، أثارها فضولها لتتفقدها، إذ كانت الغرفة بشتاتها توحي بأن صاحبها ليست الذي تعرفت عليه منذ صباح اليوم، الطبيب الوسيم الأنيق ذو المنزل العصري والملابس ذات أحدث صيحة في عالم الموضة، اختلست نظرة إلى الباب خشيت أن يأتي ويضبطها بالجرم المشهود لكنها طمأنت نفسها بأنها لن تأخذ سوى بضع ثوان، وركضت في الحال نحو الخزانة وفتحتها، لم تجد الكثير من الملابس حيث أن شهاب يقضي معظم أيامه في التجمع الخامس، لم تجد سوى قميصين قديمين وجلبابين بيضاوين وبينما كانت على وشك تكشف باقي الملابس وجدت رأسًا تشاركها فتحة الخزانة فشهقت والتفتت مرتعدة وعلى أثر ذلك صدمت رأسها بضلفة الدولاب فتأوهت لكن ما استرعى انتباهها ليس الألم بل ضحكة شهاب عليها؛ فزمت فمها بغيظ وقالت:
- أنت بتضحك؟
- أومال عايزاني أعمل! ألا قولي لي إيه اللي شدك لدولابي أوي كده.
حمحمت بإحراج وقالت بتلعثم:
- أاا..أ.. أبدًا أنا بس كنت بدور على ملاية للسرير حسيت الملاية مش نضيفة.
رفع حاجبيه وقلب فمه متعجبًا قائلًا:
- غريبة، مع إنهم لسه منضفين الأوضة ومغيرين فرشها.
صمتت وأشاحت بوجهها عنه تفرك جبهتها بألم؛ فضحك واقترب منها فتراجعت بشكل غريزي لتصطدم مؤخرة رأسها في الضلفة الأخرى فتألمت بيأس، بينما هز شهاب رأسه بجزع وأمسك برأسها بين بيديه قائلًا:
- اثبتي وبصي حواليكي، أنا مش هعضك، أنا جاي أشوف أثر الخبطة، دكتور أنا مش بياع كفتة.
شعرت بيديه الحانيتين، وتواجهت أعينهما وأخذت تزوغ في محاجرها، يصاحبها صوت دقات عالية، كأن حربًا نشبت بينهما فلا يجرؤان على التقهقر ما استطاعوا، رفرفت جفنيها بحالمية؛ فتنبه شهاب وترك رأسها قائلًا بسخريته المعهودة:
- لا خربوش بسيط، مش هتموتي ماتخافيش.
لم يثر سخطها كما ظن، لكنها حمحمت وقالت:
- طيب.. دلوقتي هننام ازاي؟ أكيد مش هتنام معايا في نفس الأوضة!
أطلق ضحكة عصبية وقال:
- يعني بذمتك عايزة عريس ليلة دخلته ينام فين غير في أوضته مع مراته حبيبته اللى اتحدى العالم كله علشانها؟
- نعم نعم؟ أنت قلت إيه؟ شهاب الكلمة دي بتعصبني ماتهزرش.. أنت عارف كويس إننا مش متجوزين وماينفعش ننام في أوضة واحدة.
ارتسمت الجدية على ملامحه وأردف:
- امم، أنتِ اتفرجتي على فيلم ليلة الزفاف قبل كده؟
قطبت حاجبيها بعدم فهم وهزت رأسها نفيًا؛ فاستطرد:
- يعني الحل هيكون في الملاية.. الحل الكلاسيكي الشهير.
- مش فاهمة.
بعد دقائق وقفت فيهم تشاهده وهو يصل بين الشباك خلف سريره والدولاب أمامه بحبل من حبال الغسيل، ثم تناول إحدى الملاءات ونشرها عليه لتصبح ساترًا بين فراشه والفراش الذى وضعه على الأرض.
ليتكرر مشهد سعاد حسني وأحمد مظهر في فيلم ليلة الزفاف، تنام هي على الفراش قلقة مضطربة، بينما يرقد هو على الأرض يفكر في الأمر برمته وكيف أضحى يشبه فيلم أبيض وأسود حتى أنه تعجب كيف أن عائلته صدقوا الأمر ولم يسألا عن قسيمة الزواج، ذلك القسم الذي رحمه من كذبة أخرى كان على وشك إطلاقها، وبينما كانت نارة تضع يدها على قلبها المنتفض تحت ضلوعها جاءها صوته هادئًا:
- نارة!
أغضمت عينيها وأخذت نفسًا مسموعًا وردت:
- امم.
- ممكن أسألك سؤال..شخصي شوية؟
- اتفضل!
- هو أنتِ هربتي من أهلك علشان عايزين يجوزوكي غصب ولا..
- ولا إيه؟ تساءلت بهدوء.
- ولا فيه حد تاني في حياتك؟
- لو فيه حد تاني في حياتي وسابني أوصل للمرحلة دي يبقى مايستاهلنيش.. تصبح على خير يا دكتور.
زين ثغرها ابتسامة وهي تدير وجهها للحائط محتضنة الوسادة، كما اتسع فمه بابتسامة رائعة وتنفس الصعداء وأغمض عينيه مسلمًا نفسه للنوم.
***********
خرجت فرح من غرفتها ثائرة ورمت الوسادة والغطاء على الأريكة هاتفة بصراخ:
- أنا غلطانة، أنا اللي وثقت في كلامك وكنت زي المغفلة مفكرة إنك مش بتخبي عليا حاجة، إنما ازاي لازم الأخ وأخوه يعملوا عصابة ع العيلة ويكسروا قلب المسكينة دي.
زفر سليم محنقًا:
- اللهم اغزيك يا شيطان، فرح لمي الدور وبلاش الكلام ده معايا، عيب!
- عيب! العيب هو اللي عمله أخوك، أخوك اللي داريت على عمايله السودا..
- فرح!
- بلا فرح بلا بتاع بقا.
خرجت شيماء من شقتها المواجهة لشقة فرح، ودموعها غزيرة على وجهها، تشعر كما لو أنها ستنفجر إذ لم تتحدث مع أحد؛ ففكرت أن تلجأ إلى أختها، لم تصدق حتى الآن ما حدث وكأنه كابوس غير قابل لأن يكون واقعًا بل مستنقعًا مظلمًا لا قرار له، اقتربت من شقتها وقبل أن تقرع الباب سمعت صوت شجارهما:
- استغفر الله العظيم، يا فرح اغزي الشيطان وقومي معايا ماينفعش تنامي في الصالة.
- خايف عليا أوي وماخفتش على مشاعري لما تخبي عليا جواز أخوك.
- يا بنتي افهمي...
- مش عايزة أفهم حاجة، خلاص أنا عرفت غلاوتي عندك.
تنهد قائلًا:
- خلاص يا ستي ما تزعليش حقك عليا، بس أنا فعلا ماخبتش عليكي حاجة، علشان ماكانش فيه حاجة أصلا تستخبى.
- يعني إيه بقا؟
- يعني مفيش جواز حصل ولا حاجة.
قفزت فرح من مكانها وقد احتلت الدهشة محياها:
- إيه اللي بتقوله ده، أنت مفكرني عبيطة ولا هبلة علشان أصدق الكلام ده.
- لا حاشا لله يا حبيبتي أنتِ مجنونة بس.. بقولك ماتجوزوش كل دي تمثيلية البيه أخويا دبس نفسه فيها علشان ينقذ البنت من جواز بالغصب.
- الكلام اللي بتقوله ده حقيقي؟ ده ولا كأنه فيلم أبيض وأسود.
- للأسف حقيقي، وإحنا دلوقتي معرضين لمشاكل كبيرة مع أبوها والنطع اللي كان هيتجوزها.
احتضنته فرح بحبور وهي تقول:
- مش مصدقة بجد، ده أحلى خبر سمعته، تعرف البت شيماء هتفرح أوي لما أقول لها.
- بس بس اقفي رايحة فين، شيماء مش لازم تعرف أبدًا بالكلام ده ولا أي حد من العيلة.
لم يكن يعلم أنها بالفعل قد سمعت كل شيء دار بينهما، فتبدلت دموعها بابتسامة حيية ولمعة تراقصت في عينيها وعادت إلى شقتها، وقد شرع يعمل عقلها الشيطاني على خطة للتخلص من تلك نارة في أقرب وقت ممكن، يتردد في بالها سؤال واحد: كيف تكشف حقيقة علاقتهما أمام العائلة؟
***********
فركت نارة عينيها وقد بدأ النوم يودعها لتحظى بيوم جديد في حياتها بأمال وأحلام جديدة كما اعتادت دائمًا أن تفعل كلما استيقظت في يوم جديد؛ فتشكر الله على تلك المنحة العظيمة عازمة أن تستغلها في تحقيق أحلامها دون تأجيل والقيام بأعمال مفيدة تضيف لحياتها قيمة ومعنى إذ أن إهدار الوقت دون فائدة ليس من شيمها بل هو أكثر ما تكرهه، فتحت عينيها رويدًا لتجد نفسها في غرفة شهاب، نائمة على فراشه، لوهلة سرت قشعريرة في جسدها والتفتت حيثما كان نائمًا على الأرض بجوارها لكنها لم تجده انتصبت جالسة وقد ارتفع وجيب قلبها وانتفضت فعلا حينما سمعت طرقًا على باب الغرفة، هتفت متسائلة من الطارق؛ فأتاها صوت أنثوي رقيق:
- دي أنا يا نارة، نرجس.
نزلت عن الفراش ورتبت شعرها بأصابعها بشكل غريزي، ثم فتحت لها الباب ليظهر وجه نرجس البشوش وعينيها اللامعتين البراقتين، تتراقص بهما ابتسامتها، لكنها تعجبت مما تحمله بيدها..
قالت نرجس:
- صباح الفل يا عروستنا!
وبابتسامة رقيقة ردت نارة:
- صباح النور يا نرجس.. هي الساعة كام دلوقتي؟
- الساعة دلوقتى 9.. اتفضلي!
تناولت منها نارة تلك الأغراض متسائلة:
- إيه ده؟
- دي يا ستي عباية علشان تلبسيها لما تطلعي نفطر .. يعني علشان مش هينفع تطلعي بالبيچامة وكده.
زوت نارة بين حاجبيها مستفهمة:
- ليه مش هينفع، ما أنتِ لبساها أهو.
ضحكت نرجس:
- أيوا أنا الرجالة الموجودين هنا في البيت أبويا واخواتي، لكن أنتِ مرات ابنهم وكده فمش هينفع، هي دي عاداتنا.
تنهدت نارة قائلة:
- حاضر يا ستي، أي خدمة تاني؟
هزت نرجس رأسها، فقالت نارة بضحك:
- إيه تاني؟
أخرجت نرجس من خلف ظهرها وشاح وأعطته لها قائلة:
- ياريت تلبس الطرحة دي يعني...
قاطعتها نارة:
- مفهوم مفهوم.. صحيح.. هو شهاب فين؟
- خرج مع أمي يجيبوا الفطار وحاجات من السوق، زمانهم جايين.
أومأت نارة مبتسمة، وأغلقت بابها وشرعت في تبديل ملابسها.
***********
في السوق توقف شهاب بجانب أمه يحمل قرطاس الطعمية وكيسين من الفول المدمس بينما أخذت الاولى تنتقي حبات الطماطم محدثة بائعتها:
- بكام الكيلو النهاردة يا أم رشا؟
- الكيلو وربع بخمسة يا أم سليم..
حينذاك قاطعتها إحدى الجيران وصافحتها بعدة قبلات، ثم نظرت إلى شهاب بنظرة خبيثة وعاودت بنظرها مرة أخرى إلى أمه قائلة:
- صحيح، سمعت إن الدَكتور شهاب اتجوز؟
دمدمت أم سليم بينها وبين نفسها "هو مفيش حاجة بتستخبى في البلد دي" ثم عادت تقول:
- آه يا حبيبتي، عقبال عندك، عقبال ما تفرحي بولادك.
- الله يخليكي ياختي، ألف مبروك بس مش كنتي تعرفينا يا أم سليم كنا نعمل الواجب.
- طبعا يا حبيبتي على عيني والله بس أنتِ عارفة بقا الأيام دي كورونا ومانعين التجمعات، وكتبوا الكتاب في جامع كبير في القاهرة علشان كده محدش عرف.
- آه، لا يقطعها الكورونا واللي عاملاه في الناس، ألف مبروك يا دكتور.
تنبه شهاب الذي كان يتأفف من ذلك اللغط إلى يد أمه تلكزه؛ فالتفت إلى السيدة قائلا:
- الله يبارك فيكي يا حاجة، متشكرين.. مش ياللا بقا ياما الطعمية بردت.
في شقة عم شهاب رحمه الله، جلست فاتن (والدة شيماء) إلى الطاولة بعدما أعدت طعام الإفطار ونادت على ابنتها بينما كانت تضع طبق البيض بالزبدة الساخن على الطاولة:
- يا شيماء، ياللا يا بنتي علشان نفطر.
انضمت إليها شيماء باسمة الثغر قائلة:
- صباح الفل ياماه.
تعجبت فاتن وربما يرجع إندهاشها لأنها اعتقدت أن شيماء ربنا تقع بحالة اكتئاب بسبب زواج شهاب فسألتها مباشرة:
- خير إن شاءالله، فرحانة على الصبح كده ده احنا قلنا هتعملي حداد وتقلبيها جنازة.
مصمصت شيماء بشفتيها وقالت:
- ليه ياماه هو أنا عبيطة، يعني.. هو اللي خلق سي شهاب ماخلقش غيره.
- جدعة يا بت وطالعة عاقلة لأمك، براوة عليكي.
تناولت كسرة من الخبز مغمسة بالفول ثم قالت بلئم:
- طبعا ياماه، طب تعرفي أنا قلبي حاسسني إنه شهاب اخد مقلب حياته في البت دي وهيندم ندم عمره بعد كده.
- ازاي تقصدي إيه؟
- إيه يا تونة ده أنتِ بتلقطيها وهي طايرة، البت شاكلها أخلاقها بايظة و..
- وإيه يا بنت فاتن عايزة توصلي لإيه؟
- أبدًا ياماه بس إيه اللي يعرفنا إنها شريفة يعني ممكن تكون لبسته السلطانية وأنتِ عارفة شهاب طيب و..
- اقطمي يا بت عيب اللي بتقوليه ده، دي أعراض ناس.
- وأنا قلت حاجة، أهو سكتّ.
قالتها بنظرة خبيثة شعت في مقلتيها وتناولت طعامها بتلذذ بينما أخذت فاتن تتناول طعامها بهداوة وعقل مشوش.
عاد شهاب ووالدته إلى البيت؛ فتقدمت نرجس نحوهما وأخذت الطعام لتضعه على الطبلية، وعلى حين غفلة سمع صوتًا جميلًا أسر حواسه وسلب أنفاسه:
- استني يا نرجس أنا هساعدك.
رفع عينيه إلى صاحبة الصوت ليجدها حسناء هيفاء ممشوقة القوام في عباءتها وردية اللون والوشاح الذي تغطي به رأسها بينما تتدلى منه غرتها المتمردة لتضفي عليها جمالًا فوق جمال، تسمرت نظراته عليه حتى عندما التفوا حول الطبلية وأجلستها نرجس بجانبه، جعل يختلس النظرات إليها غير آبه بأهله، ولم ينتبه لهمهمته وهو يغمز لها قائلًا "القالب غالب بردو".
- نعم! بتقول حاجة يا شهاب؟
سألته نرجس بلماضة؛ فالتفت إليها رافعًا حاجبه الأيسر بتحذير بينما فلتت ضحكة من نارة أخفتها.
نهضوا عن الطعام حينما نزلت فاتن وألقت التحية وهي تحدق نارة باشمئزاز وعجرفة، ثم أخذت أم سليم على جانب قائلة:
- عايزاكي في كلمتين يا أم سليم.
- عنيا ياختي تعالي.
************
- إيه اللي بتقوليه ده يا أمي! لحد هنا وكفاية.
- هو إيه ده اللي كفاية يا سبعي، و دي فيها إيه بقولك عايزين نشوف شرف مراتك.
- أنتِ مستوعبة اللي بتقوليه ياماه، مراتي أشرف من أي حد عرفتيه ويكون بعلمك علاقتي بمراتي تخصنا لوحدنا وبس مش من حق أي حد يطعن في شرفها أو يهينها.
- وأنت إيه اللي مزعلك أو كده، ما دي عوايدنا والعيلة كلها...
- والله والعيلة كلها؟ مش فاكر أنك قلتي كده لسليم يوم فرحه ياماه.
- علشان سليم متجوز بنتنا وضامنين شرفها كويس إنما أنت رحت جبت لنا واحدة...
- أمي! كفاية لأني مش هسامح بعد كده.
تركها وخرج ليصطدم بدموع نارة التي سمعت حديثهما صدفة حينما أتت لتبلغه بأن والده يريده، مسحت دموعها وفرت هاربة إلى غرفتها وهي تلقي بوشاحها أرضًا بغضب.
ضغط شهاب على قبضته ساخطًا ثم نظر إلى أمه بعتاب وما كان لها إلا أن مصمصت بشفتيها ولوت شدقها بامتعاض.
بعد دقائق ذهب شهاب إلى غرفته محاولا استجماع أعصابه ليواجه نارة بعد ما سمعته، لكنه صعق حينما وجد الغرفة فارغة وعباءتها ملقاة على الأرض، فتح الدولاب فلم يجد ملابسها، توقف برهة يستوعب الموقف قبل أن يطلق ساقيه للريح خارجًا من المنزل يثب الدرج بقلب أنهكته نبضاته المذعورة، لا يعرف لماذا شعر في تلك اللحظة أنه يفقد شيئًا غاليًا للغاية، اطمأن قلبه حينما رأها تركض على بعد أمتار من المنزل فركض نحوها ولحق بها وأمسكها من ذراعها لتلتفت وتواجه عينيه المتقدتين حالما همس بغضب لئلا يسمعهما المارة الذين بدأوا يحدقونهما بنظرات الفضول والتعجب:
- رايحة فين؟ ازاي تطلعي وتمشي كده من غير ولا كلمة؟
- سيب إيدي يا شهاب لو سمحت، أنا متشكرة جدا حقيقي إنك حاولت تساعدني وإنك دافعت عني قدام أهلك لكن أنا مش هسمح لحد يجرحني ويهين كرامتي، أنا هربت يا شهاب يوم فرحي لأنها كانت إهانة ليا، إن واحد يتجوزني تخليص حق، عمره ما كان هيحترمني ولا يقدرني، فأكيد مش هقبل أني أتهان من أهلك.. سلام.
كادت تغادر لولا أن أمسك برسغها بقوة وقد تبدلت لهجته لتصبح جافة قاسية لم تعهدها منه:
- هو إيه اللي سلام، أنتِ فاكراها سايبة يا مدام نارة؟ رايحة على فين بدون إذن جوزك؟ هه؟
همست بغضب:
- جوز مين ومرات مين؟ أنت صدقت نفسك ولا إيه؟
- بصي يا بنت الناس أنا أساعدك آه على عيني وعلى راسي لكن يكون التمن كرامتى وكرامة عيلتي ده مش هسمح بيه أبدًا.
- والله وأنا جيت على كرامتكوا ازاي بقا؟
- تفتكري الناس هتسكت لما يعرفوا إن مراتي اللي اتجوزتها امبارح طفشت وسابت البيت تاني يوم هيقولوا علينا إيه؟
برقت عيناها وهي تجوبانه بعدم تصديق وعجز لسانها عن النطق من شدة غيظها والأدهى أنها وجدت نفسها تنصاع لطلبه وتمشي خلفه بينما يمسك يدها ويجذبها بثقة أنها لن تقاوم.

نارة (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن