الفصل التاسع

202 5 0
                                    

سادت حالة من الضوضاء والهرج وهم يتساءلون عن طبيب في المكان، وحين سمع ذلك شهاب نهض سائلًا أحد النادلين:
- أنا دكتور، خير فيه إيه؟
- تعال معايا يا كتور لو سمحت، فيه واحدة من الزباين أغمي عليها.
سار معه شهاب ومن خلفه نارة حتى وصلا إلى مكان المريضة، تجمد شهاب من الدهشة وهتف بفزع:
- رانيا!!
ولم يتمهل إذ حملها بين ذراعيه ووضعها على أريكة طاولة فارغة وهو يربت بكفه على خدها مهمهمًا:
- رانيا! رانيا فوقي!
وراح يقيس نبض يدها ورفع جفنها يفحص رد فعل عينيها
ثم صاح بهم ومازال منهمكا بفحصها :
- مياه!
ناوله أحدهم كأسًا من الماء، ما كاد يأخذه حتى انتبه إلى صاحبة اليد وكانت نارة والتي بدت الدهشة والتساؤل في عينيها عن سبب خوفه ولهفته إلى هذا الحد ومَن تلك رانيا، لم يخطئها حدسها حينما أخبرها أن علاقته بتلك الفتاة وطيدة وصلته به عميقة ربما أعمق من علاقتهما التي لم تدم سوى بضعة أيام.
ازدرد لعابه وأخذ يقطر المياه برفق على وجه رانيا؛ فجفلت وبدأت تستفيق رويدًا..
تستجمع الرؤية وتموجاتها حتى استعادت وعيها تمامًا وما كان منها عند رؤيتها شهاب سوى أن ألقت بنفسها بين ذراعيه دون الالتفات للناس من حولهما، صدم شهاب فعلتها تلك وتحرك ناظريه تلقائيا إلى نارة التي أضرج وجهها بالدماء وخفقان قلبها ظاهرًا في علو صدرها وهبوطه بشكل عنيف، دقائق وابتعدت رانيا عن شهاب وكأنما وعيت لما فعلته واستدركته معتذرة:
- أنا آسفة يا شهاب.
ارتبك وقال:
- لا أبدًا.. إيه اللي حصل لك؟
رفعت كتفيها وقالت:
- مش عارفة، يمكن علشان ماكلتش من الصبح والشغل كان كتير في المستشفى أنت عارف.
أومأ برأسه وقالت صديقتها ريم بخوف:
- ألف سلامة عليكي يا رانيا خضتيني عليكي.
ابتسمت رانيا بوهن وانتبهت لوجود نارة، فحمحم شهاب قائلًا:
- نارة مراتي، رانيا.. زميلتي في الكلية والمستشفى.
هزت نارة رأسها في ترحاب وقالت بصعوبة:
- ألف سلامة عليكي.
- الله يسلمك ميرسي.. عدت على خير حظي حلو شهاب دايما بينقذني، يا بختك بيه.
حاولت نارة الابتسام مجاملة لكن فمها لم يطعها، وأثار حنقها أكثر ما قاله شهاب بعد:
- طب ياللا قولوا لي، أطلب لكم إيه؟
- لا مش عايزين نبوظ لكم الخروجة، ارجعوا أنتوا ترابيزتكم بليز.
- لا طبعا ماينفعش نسيبكم وأنتِ تعبانة كده، هنتغدا وأوصلكم، مش عايز نقاش، ولا إيه يا نارة؟
كانت نارة مذهولة إلى الحد الذي جعلها تهز رأسها موافقة دون أن تعي علام وافقت.
بعد أن استقروا جميعًا حول المائدة أشار شهاب للنادل فحضر على الفور، قال شهاب بعفوية:
- مكرونة وايت صوص وفرايد تشيكن.. مظبوط؟
ابتسمت رانيا وقالت:
- لسه مانستش طبقي المفضل! مظبوط.
ابتسم شهاب بتردد وهي يبدل نظره إلى نارة من طرف خفي ثم استدار إلى ريم وسألها عما تحب أن تأكل.
شرع شهاب يتحدث محاولًا تلطيف الأجواء فيخبر نارة عن صداقته مع رانيا أيام الجامعة لكنه في الواقع لم يتطرق إلى حقيقة علاقته بها، ولو أن هناك ما يوصف تلك المشاعر المتخبطة: صدمة.. دهشة.. صمت.. ضجيج.. عدم فهم.. غيرة.. رغبة في البكاء.. تظاهر بالقوة، لكان وصف ما تشعر به نارة والتي لم تتفوه بحرف منذ ذلك الوقت وحتى نزول رانيا وريم من سيارتهما أمام منزل تلك الأولى ثم غادراهما.
وقفت رانيا تشيعهم بنظرات غريبة لم تتفهمها ريم، لم تكن نظرة صداقة ومودة كالتي كانت تبثها طوال الجلسة بل نظرات تشبه نظرة الذئب المحتال الذي يهاجم فريسته على مهل بوجه مكشوف؛ فقالت ريم:
- رانيا! مالك؟ حاسة إنك فيكي حاجة متغيرة؟
التفتت إليها وهي تحمل على طرف شفتيها ابتسامة خبيثة ساخرة وما لبثت مثلت كأنما ستفقد وعيها ولحقت بها ريم فزعة هاتفة:
- رانيا! رانيا فيه إيه؟
فتحت رانيا عينيها وغمزت ضاحكة ودوى صدى ضحكاتها في المنطقة ثم ركضت درج العمارة ووقفت ريم في قمة ذهولها تتابعها بعينيها بعدما أدركت أن كل ما حدث في المطعم لم يكن سوى تمثيلية من صديقتها؛ فغضبت وأثارها الغيظ أن صديقتها استخفت بها واستغبتها مستغلة إياها في تمثيليتها السخيفة وغادرت إلى منزلها بدلا من أن تبيت معها لتطمئن على صحتها.
***********
- كانت خروجة حلوة مش كده؟!
قال شهاب وهو يرقب الطريق مبتسم الثغر، لكنه لم يتلق إجابة سوى الصمت، زوى ما بين حاجبيه في استغراب ثم قال:
- إيه مالك، شكلك مش طبيعي أنتِ كويسة؟
صمت.
- نارة! أنا بكلمك.
ظلت نارة على هيئتها دون تغيير، تراقب الطريق من النافذة وكأنها لم تسمع شيئًا، حتى توقف شهاب بسيارته بعنف على جانب الطريق حتى كادت تصطدم نارة بتابلو السيارة؛ فالتفتت إليه ورمته بنظرة نارية ثم فتحت بابها ونزلت من السيارة تسير في إتجاه الأمام دون أن تعرف إلى أين ستذهب! ركض شهاب من خلفها في خفة وجذبها من ذراعها وأدارها نحوه متسائلًا بغلظة:
- هو إيه العند والتجاهل ده، فيه إيه؟ إيه اللي حصل فجأة؟
- فجأة؟!! تخلت نارة عن صمتها وهتفت بغضب
- إيه أنت ماكنتش واعي لنفسك طول القاعدة ولا إيه؟
- مش فاهم إيه اللي حصل يعني، دي زميلتي وشوفتي حصل معاها إيه كنت أسيبها يعني مابقاش راجل.
- بجد! ماتبقاش راجل غير لما تبقى هتموت من القلق على زميلتك قدام الناس في وجود مراتك وتصمم إنهم يقعدوا معانا ده على أساس لو قعدوا على ترابيزة لوحدهم هتموت، وتطلب لها أكلتها المفضلة وتصمم توصلها وتقعد الهانم تشجيني بمغامراتكم أيام الجامعة، كل ده وتقوللي زميلتك هو أنا أباجورة؟! ولا مش مالية عينكم؟!
رفرف بجفنيه غاضبًا ثم رد:
- أيوا زميلتي وكان لازم أعمل معاها كده، وبعدين تعالي هنا اللي يسمعك يفكرك غيرانة، إحنا بنمثل يا نارة اهدي شوية مش كده.
- حتى لو بنمثل، قدام الناس أنا مراتك ولازم تحترمني وتحترم وجودي وعلى فكرة بقا الهانم دي مش سالكة.
- نعم؟!
- أيوا ولو أنت مش شايف ده ومش واخد بالك إنها حاطة عينها عليك تبقى أعمى ومابتفهمش.
- نارة!! صاح بحدة. ياريت ماتتعديش حدودك في الكلام معايا، ياللا اتفضلي خلينا نمشي.
رمقته بنظرة مطولة وهي تنتفض من الغضب ثم تركته وتابعت سيرها قائلة:
- مش راكبة، امشي لوحدك بقا.
- يا نارة ماتعصبنيش، هتروحي فين دلوقتي.
- مالكش دعوة، اتفضل أنت.
لم يجد مفرًا من الأمر جذبها من ذراعها بحدة وما لبث أن باغتها بحملها وذهب بها نحو السيارة، انتظر صراخها، عنادها، حركتها المفرطة ليتركها، لكنه تعجب لصمتها وسكونها ونظراتها الباردة كالجليد تقتحم عينيه لتوخزه بشعور تأنيب الضمير، لم يشعر بنفسه وهو واقف أمام باب السيارة يحملق فيها بتيه، ملامحها الجميلة، وداعة عينيها، عبراتها التي كانت على وشك الفرار، شفتيها الآسرتين، لم يجد داعيًا أن يترك التحديق في ذلك الجمال ويعود إلى واقعه، لم يكن يشعر سوى بأنه يريد تقبيلها بقوة، لكنها أخرجته من شدوهه متمتمة بصوت مبحوح:
- نزلني يا شهاب!
أنزلها برفق وأغلق باب السيارة بعدما ركبت ثم عاد يتخذ مقعده خلف عجلة القيادة وتابع طريقه حتى عادا أدراجهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتح باب الشقة، دلفت نارة حانقة متجهمة الوجه، خلعت نعليها وألقتهما على الأرض بإهمال، ثم اتجهت إلى غرفتها مباشرة وصفقت بابها من خلفها بشدة، بينما ارتمى شهاب متعبًا حائرًا على الأريكة وضم كفيه إلى فمه يفكر ويفكر ولا يعرف في أي شيء يفكر، أم أنه لا يريد الاعتراف لنفسه أنه يقارن ويفاضل بين حبيبته الأولى التي اقتحمت حياته من جديد وكشفت نقطة الضعف تجاهها وبين وزوجته الزائفة.. أهي حقًا زائفة؟!
علاقة زوجية مكتملة، مشاعر خفية بين الطرفين ولكنها مع ذلك متبادلة، غيرة، خوف كل طرف على الآخر، ذلك الأمر الذي كان يشعره بأنه خائن عند التفكير في رانيا هو أنه كان موقن بحقيقة مشاعره تجاه نارة، نعم لن يحنث بوعده إزاء طلاقهما ولكنه...
لم يجد نفعًا من حديثه مع نفسه، لذا وجد نفسه يخطو نحو غرفتها وكأنه يرجوها أن تنتشله من تلك الحيرة التى أودت بأعصابه.
طرق الباب ولم ينتظر ردها ودخل، كانت آنذاك تبدل ثيابها وبقيت بالقميص الداخلي، شهقت وهي تستر جسدها من عينيه بفستانها الذي خلعته لتوها لكنه ومع ذلك لم يتزحزح ولم يعتذر حالما صرخت به:
- أنت إزاي تدخل عليا كده وأنا بغير هدومي؟
تحرك خطوة نحوها وقال ببرود:
- وفيها إيه؟! أنتِ مش مراتي!!
صمتت وأزاحت نظرها بعيدًا عنه، ابتسم رغما عنه وهو يطالعها بعينين مفتونتين واقترب منها بتؤدة وشبق ونبض قلبه يتسارع، توقف أمامها وأمسك ذقنها برفق يدير وجهها نحوه، طالعته بعينين لائمتين لم تلبثا أن أصبحتا هائمتين تتفرس ملامحه الوسيمة كما كان يتنقل بنظره بين عينيها وشفتيها لمس نعومة خديها ومن ثم قرر أن ينهل من رقة شفتيها والتحمت الشفاه في قبلات لهفة واشتياق، أسقطت حينها نارة فستانها ولفت يديها حول رقبته فقربها منه ثم حملها إلى الفراش ليقضيا ليلة أخرى سعيدة في زواجهما الزائف!

نارة (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن