الفصل الثاني

287 9 0
                                    


وقف عند الباب يطالعها بتمعن وهي ترتدي المعطف الطبي الذي جلبه لها، أخرجت خصلاتها الناعمة الطويلة من داخله، وعندما انتهت اقتربت منه وقالت بابتسامة جميلة :
- خلاص خلصت ..قولي بقا هنعمل إيه؟
لم يجبها بل كان هائمًا في ملامحها الخلابة؛ فعقدت حاجبيها بتساؤل، هاتفة وهي تشير بيديها أمام عينيه :
- هييي ! رُحت فين؟
انتبه لها فتمتم بارتباك :
- هاه ... أنتِ كنتِ بتقولي حاجة؟
اجابتة بمرح :
- أصلا!! لا كده اتطمنت، ربنا يستر.
هتف معتذرًا :
- معلش شكلي سرحت شوية.
صمتٌ غلف المكان لدقائق قبل أن يستطرد، وهو يبصرها بتدقيق :
- ناقصك حاجة واحدة بس ..
كانت علي وشك أن تسأله ما هي؛ فوجدته يقترب منها ويسحب السماعة الطبية عن رقبته، ثم وضعها علي رقبتها .. ابتعدت عن يديه بخجل، وهي تهمس :
- شكرا !
ابتسم لها وابتعد عنها متجهًا الي الباب، وفتحهُ قليلًا؛ ليطل برأسه منه ويرقب الأوضاع، وبعد دقائق أغلق الباب والتفت إليها هاتفًا بجدية :
- اسمعي.. أنا هخرج دلوقتي وأنتِ هتخرجي بعدي بخمس دقائق، هتنزلي الدور اللي تحتنا علي طول هتلاقي سلم علي اليمين مكتوب عليه للطورئ هتنزلي وتخرجي من الباب الأخير، هتلاقيني مستنيكي بعربيتي قدام الباب ..
صمت للحظات، بينما تتطالعه هي بتركيز؛ فأكمل بتحذير :
- ياريت تمشي بثقة ومتلفتيش الأنظار ليكِ..
أجابته بثقة أقرب منها إلى الغرور :
- لا ولا يكون عندك فكر، شوف..رئيس المستشفى نفسه مش هيشك إني من الفريق الطبي، ثق فيا!
هتف باضطراب من ثقتها الزائدة :
- ربنا يستر ...اجهزي يالا علشان أنا هخرج دلوقتي.
أومأت له بابتسامة يملؤها الحماسة؛ ففتح الباب وخرج يدعو الله ألا تتسبب تلك الفتاة في رفده من المشفى التى طالما سعى لينال فرصة العمل بها، وعندما جاء ليستقل المصعد أوقفته إحدى الممرضات هاتفة بصوت عالٍ :
- دكتور شهاب دقيقة لو سمحت ..
التفت إليها بتساؤل؛ فأكملت وهي تعطيه تقرير طبي لأحد المرضي :
- ممكن حضرتك تشوف تقرير الحالة دي، وتقولي هتاخد جرعة قد إية من الدواء اللي مكتوب ..
أومأ لها باسمًا وهو ينظر الي الملف تارة والي غرفة نارة تارة أخرى ..دقائق وخرجت نارة من الغرفة وهي تتلفت حولها يمينا ويسارًا، غير أنها بدأت تفرك يديها بطريقة ملفتة تنم عن التوتر والارتباك ..فجزَّ شهاب علي أسنانه بغضب مهمهمًا:
- نهارك أسود ومنيل هو دا اللي مش هلفت نظر حد ..
قالت الممرضة باستغراب :
- بتقول حاجة يا دكتور !؟
تنهد بضيق محاولًا التحكم في أعصابه، وأعطي الملف للمرضة وأخبرها عن الجرعة المحددة التي تناسب المريض، وعندما أخذت الممرضة الملف وذهبت، التفت إلى نارة لتجحظ عينه بصدمة يتمتم ساخطًا:
- نهارك أسود ومنيل بنيلة ..
كانت نارة في طريقها إلى الطابق المنشود، تتلفت حولها كاللصة من حين لآخر وعندما اقتربت من الدرج لتهبط إلى الطابق السفلي أوقفتها امرأة عجوز هاتفة بوهن :
- لحظة يا دكتورة لو سمحتي!
تيبست مكانها من الصدمة وأغمضت عينيها محاولة استجماع شجاعتها وقدرتها على تقمص دور الطبيبة، فاقتربت منها المرأة هاتفة :
- والنبي يا دكتورة ابني تحت في الاستقبال وتعبان أوي ولسه ماجاش حد يكشف عليه معلشي تيجي معايا تشوفيه ..
نظرت نارة حولها، ومن ثم عادت بنظراتها الي المرأة هاتفة ببلاهة وهي تشير الي نفسها :
- انا !؟
- أيوة يا بنتي هو في حد غيرك واقف قدامي ...
أغمضت نارة عينيها وقلبت شفتيها بحيرة، تفكر كيف تخرج من هذه الورطة، ولكن صوته جاء إليها كالنجدة..
أزاحها شهاب من أمام المرأة وهتف لها بابتسامة عريضة جعلت منه مخبولًا بهيئة طبيب :
- اؤمري يا ست الكل حضرتك محتاجه إيه؟
أجابته المرأة :
- ابني تعبان اوى تحت فى الطوارئ وكنت عاوزة الدكتورة تكشف عليه ..
أحاط شهاب كتف السيدة بيديه، وقال بحنان :
- تعالي معايا يا أمي، وأنا هكشف عليه ..
فدعت له السيدة هاتفة :
- ربنا يريح قلبك يا ابني ويرزقك ببنت الحلال يا قادر يا كريم ..
وبينما يذهب شهاب مع السيدة، أرسل إشارة بيده الأخري من الخلف إلى نارة التي كانت تقف تطالعهم ببلاهة، وعندما أدركت إشارته، ركضت بسرعة متابعة طريقها.
********
في فيلا كامل العدوي:
كان يجلس كامل في مكتبه واضعًا رأسه بين يديه منتظرًا اتصال من العميد شريف صديقه الذي أعطاه معلومات كافية عن نارة ليستخبر عن مكانها، دلفت إليه زوجته قائلة باضطراب :
- أنت كويس يا كامل ؟
رفع رأسه؛ ليطالعها بنظرات أرعبتها، وهتف بحدة :
- بنتك بس تقع في إيدي وأنا هبقا في أحسن حال ..
كانت علي وشك أن تجادله بعدما نفد صبرها، ولكن قاطعها رنين هاتفه؛ فانتفض من مجلسه مسرعًا ملتقطًا هاتفه وأجاب بتلهف:
- ها يا شريف لقيتها؟
أجابه شريف من الجانب الاخر :
- في بنت لقوها امبارح بنفس موصفات نارة في مخزن أحذية حصل فيه حريق، وهي دلوقتي في المستشفى بس الحمد لله حالتها..
قاطعه كمال مستخبرًا :
- مستشفى إيه؟
أعطاه شريف اسم المشفى وأغلق معه كامل وهو يلتقط حاجياته الخاصة استعدادًا للخروج ..اقتربت منه مشيرة والدموع قد أغرقت وجهها :
- بنتي مالها يا كامل حصلها إيه؟
أزاحها من طريقه بحدة، هاتفًا بسخرية وهو يخرج :
- هيكون مالها يعني ياختي زي القطط بسبعة أرواح ..
دلفت في ذلك الوقت بتول، وهي ترى والدها يخرج متعجلًا من الفيلا؛ فسألت والدتها :
- مامي هو في إيه؟
- مش عارفة والله يا بتول كل اللي فهمته إن نارة في المستشفي وكامل رايح يجيبها ..
شهقت بتول هاتفة بجزع :
- هي كويسة يا مامي؟
- مش عارفة والله يا بنتي.
احتضنت بتول والدتها وهي تربت علي كتفها هامسة بحنان :
- اهدي يا مامي.. أكيد نارة بخير.
***********
أمام الباب الخلفي للمشفي الخاص بالطوارئ كانت تقف نارة تنظر حولها منتظرة شهاب ..دقائق مرت حتى وجدت شهاب يتوقف أمامها بالسيارة هاتفًا بضيق :
- اركبي بسرعة!
صعدت إلي المقعد بجانبه، وعندما انطلق بالسيارة التفتت له متسائلة :
- قل لي بقا هنروح فين دلوقتي ؟
لم يجبها؛ فنظرت له بتمعن وجدته يضغط علي أسنانه بقوه محاولاً التحكم في غضبه؛ فزاغت مقلتيها يمينًا ويسارًا بتفكر متمتمة :
- هو أنا عملت حاجه غلط؟
تنفس بعمق قبل أن ينظر إليها بطرف عينيه مجيبًا بسخرية:
- غلط إزاي يا بنتي، دا أنتِ كنتِ هايلة، دا أنا من كتر دهشتي من موهبتك التمثيلية ماعرفتكيش.
- حاسة إنك بتتريق؟
- حاسة مش متأكدة!
اعتدلت في مقعدها بغضب تنظر إلى الأمام، قائلة بتهكم:
- قصر ذيل.. حقود!
مسح علي وجهة مستغفرًا في سره، وعاد ينظر أمامه بتركيز محاولا تجاهل نوباتها الاستفزازية غير مدرك سبب توريطه في تلك المسألة الجنونية "مساعدة فتاة هاربة يوم زفافها" بيد أنه قد ندم على إقدامه على تقديم يد العون لها، فلن ينقصه من المتاعب ما قد ينغص حياته التي لم تستقر بعد.
************
مد بخطواته بسرعة إلى داخل المشفي، وعندما وصل إلى الاستقبال، قال بلهجة غاضبة :
- في بنت جات امبارح بليل في حادثة حريق ...
نظرت موظفة الاستقبال أمامها لثوان، ثم هتفت بعملية :
- أيوه يا فندم، وهي دلوقتي في الغرفة 205 في الدور الثالث.
ركض بسرعة إلى المصعد، وهو يتوعد نارة بأشد العذاب، وعندما وصل إلى الطابق المنشود خرج من المصعد عدوًا إلى الغرفة ..
مد يده على مقبض الباب وهو يرسم نظرات الشر في عينيه ومن ثم فتحه بقوة وكانت الصدمة أنه لم يجد أحدًا في الغرفة؛ فذهب كالمجنون يبحث عنها في الحمام المرفق بالغرفة ولم يجدها؛ فخرج في عجلة من الغرفة وأوقف إحدى الممرضات :
- البنت اللي جاية في حادث الحريق امبارح مش في غرفتها متعرفيش هي فين؟
- حضرتك تقصد البنت اللي الدكتور شهاب أنقذها امبارح؟
- أيوه هي، ماتعرفيش ألاقيها فين أو ألاقي الدكتور شهاب ده فين؟
رفعت كتفيها دلالة علي عدم معرفتها، هاتفة بوضوح :
- والله يا أستاذ، أنا دخلت للبنت من شوية عشان أديها الدوا وكانت موجودة وقتها .. أما الدكتور شهاب شفته من شوية وهو بياخد إذن وخرج.
أخرج من جيبه بضع ورقات مالية ووضعها في يد الممرضة قائلاً :
- ماتعرفيش بقا بيت الدكتور شهاب ده فين؟
التقطت منه الممرضة المال بترقب ألا يراها أحد واضعة إياه في جيب معطفها وهتفت بابتسامة مشرقة :
- إلا أعرف يا باشا هو في حاجة هنا تخفى عليا، طب ده أنا مسميني...
قاطعها بضيق :
- أنتِ هتحكي لي قصة حياتك اخلصي قولي لي بيته فين؟
أخرجت الممرضة دفترًا صغيرًا من جيبها ودوَّنت علي إحدى وريقاته عنوان شهاب وأعطته لـ كامل الذي انتشل الورقة منها وركض خارجًا .

نارة (مكتملة) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن