صراع مع النفس

4 1 0
                                    

القمر كامل الليلة‬ ‫ولكن تحجب السحب الهائمة رؤيته إلى حد ما‪ ،‬والجو بارد‪ ،‬لكنه‬ ‫اختار هذا الموعد ليكون فيه لقاؤنا وقال لي عندما قابلني‪ :‬اركب‬ ‫‪114‬‬ ‫السيارة‪.‬‬ ‫قلت له‪ :‬أين سنذهب؟ إلى القهوة؟‬ ‫‪ -‬اركب السيارة‪.‬‬ ‫‪ -‬حس ًنا‪ ..‬فلنرَ‪.‬‬ ‫‪ -‬هل قل َت شيئًا لـ«سارة»؟‬ ‫‪« -‬سارة» لا تعرف أي شيء ولكنها ستعرف‪ ..‬لقد قررت التوبة‪.‬‬ ‫‪ -‬دعك من قصة التوبة هذه وقل لي كم تريد‪.‬‬ ‫‪ -‬أستغفر الله يا أخي‪ ..‬أتظن ف َّي هذا؟ أتظنها مسرحية؟‬ ‫قال في سخرية‪ :‬أنت أكبر ممثل‪.‬‬ ‫‪ -‬ما دام الحديث أصبح صري ًحا‪ ..‬أريد نفس المبلغ السابق‪.‬‬ ‫قال متعجبًا‪ :‬وأنفقت كل هذا المال! كيف؟‬ ‫‪ -‬الكيف يا صديقي‪.‬‬ ‫‪ -‬الكيف؟ فع ًل كل شيء يجر بعضه‪.‬‬ ‫‪ -‬المهم أني مفلس ج ًّدا‪.‬‬ ‫‪ -‬وأنا ليس معي هذا المبلغ الآن‪ ..‬هل تظنني مليوني ًرا؟‬ ‫أنا فقط أعيش حياة متوسطة معك أنت وأختك‪ ،‬ولكن لو كنت‬ ‫مليوني ًرا كنت سأذهب في عرض البلاد أبحث عن حل لوجهي أو‬ ‫علاج إذا كان يوجد حل أص ًل‪.‬‬ ‫‪ -‬ألم ت ُقل لا يوجد أمل؟‬ ‫‪ -‬قالوا لي هذا‪ ،‬ولكني لا أصدق‪ ..‬أقنع نفسي أنهم كاذبون وسأجد‬ ‫‪115‬‬ ‫الحل يو ًما ما‪.‬‬ ‫‪ -‬أدعو الله أن تجد الحل‪.‬‬ ‫قال وهو يبطئ حركة السيارة في أحد الطرق الصحراوية‪ :‬سأنزل هنا‬ ‫لأرى العجلات‪ ..‬إنها تصدر صوتًا‪.‬‬ ‫قلت مبتس ًم‪ :‬شكلك غريب بهذه البدلة ورابطة العنق‪ ..‬دعني أ َر‬ ‫العجلات معك‪.‬‬ ‫قال مقاط ًعا‪ :‬لا‪ ..‬أنا أعرف ما سأفعله‪.‬‬ ‫‪ -‬كما تحب‪.‬‬ ‫سمعته يتحدث ويقول بصوت خافت‪ :‬هذه «بروفة»‪ ..‬ولننفذ غ ًدا‪.‬‬ ‫ما الذي تخطط له يا «رائد»؟‬ ‫‪116‬‬ ‫«سارة»‬ ‫قال لي «رائد» في أحد لقاءاتنا‪ :‬إن الحياة كشجرة‪ ،‬البعض يحاول‬ ‫طوال عمره أن يتسلقها ليصل إلى الفاكهة‪ ..‬والبعض يقع من أعلى‬ ‫فروعها‪ ..‬والبعض يجلس فقط عليها ليستمتع بالمنظر في هدوء‪..‬‬ ‫وقال لي إنه من النوع الأخير!‬ ‫تُوفيت أمي بعد صراع مع المرض ولم يظهر أخي بع ُد‪ ..‬لقد اختفى‬ ‫فجأة كأن الأرض انشقت وبلعته‪ ،‬كما يقولون‪ ،‬ولم نجد له أث ًرا‪..‬‬ ‫وكان آخر ما قاله لي في أحد الأيام التي عاد فيها ملابسه مغطاة‬ ‫بالرمال وشعره أشعث غريب الهيئة‪ :‬كوني مستيقظة يا «سارة»‪..‬‬ ‫احذري منه‪ ..‬إنه شخصية معقدة‪.‬‬ ‫لكنه الآن أب لطفلي الذي قررت أن أحتفظ به مهما كان رأي‬ ‫«رائد»‪ ..‬أحتاج لأن أشعر بالأمومة؛ فهي أصدق إحساس في هذا‬ ‫العالم‪..‬‬ ‫ذهبت لـ«رائد» أشكو له اختفاء أخي فقال لي في دهشة‪ :‬ياللعجب‪..‬‬ ‫لا بد من عمل محضر في قسم الشرطة فو ًرا‪ ..‬منذ متى وهو مخت ٍف؟‬ ‫‪ -‬منذ أسبوع تقريبًا‪ ،‬إنه حتى لم يحضر عزاء أمه‪ ..‬لا نستطيع العثور‬ ‫عليه في أي مكان‪.‬‬ ‫‪ -‬لا بد أن نبدأ فو ًرا في البحث‪ ،‬ربما يكون قد أصابه مكروه لا قدر‬ ‫الله‪.‬‬ ‫‪117‬‬ ‫‪ -‬هل كنت عند «حسام»؟‬ ‫قال متلعث ًم‪ :‬نعم‪ ..‬آاا‪ ..‬نعم‪ ..‬آه آه‪ ..‬ذهبت وعدت بسرعة‪.‬‬ ‫‪ -‬ألن تع ِّرفني به؟ لا بد أنه صديق مق َّرب لك ج ًّدا‪.‬‬ ‫‪ -‬طب ًعا «حسام» صديقي ج ًّدا‪ ..‬المهم‪ ..‬البقاء لله في والدتك‪.‬‬ ‫قلت في حسرة‪ :‬كانت مسكينة‪ ..‬المرض نهش في عظامها‪ ..‬لقد‬ ‫ارتاحت من العناء‪.‬‬ ‫‪ -‬نعم‪ ..‬الموت فع ًل يكون هو الراحة أحيانًا‪.‬‬ ‫‪ -‬فع ًل‪.‬‬ ‫قال فجأة وهو ينظر إلى بطني‪ :‬أنا مقدر الظروف ج ًّدا‪ ،‬ولكن ماذا‬ ‫عن الطفل؟ هل خطط ِت لإجهاضه؟‬ ‫قلت في غضب‪ :‬لن يحدث‪ ..‬سأحتفظ به حتى لو سأرعاه وحدي‪..‬‬ ‫هذه روح إنسان التي تريد قتلها‪.‬‬ ‫‪ -‬كلام فارغ‪ ..‬في النهاية اسمه «ابن حرام» كما يقولون‪.‬‬ ‫قلت في حزن‪ :‬أهذا جزائي يا «رائد»؟ كيف نطقت هذه الكلمة؟ وأنا‬ ‫التي ظننت أنك ستحدثني عن الزواج في يوم ما‪.‬‬ ‫‪ -‬زواج؟ لقد عش ِت في أحلامك فترة طويلة وصدق ِت أننا سنكمل‬ ‫للنهاية وندخل العش الذهبي وهذه الأحلام العابثة التافهة‬ ‫للفتيات‪ ..‬ونعيش مع بعض طوال العمر‪ ..‬كم عا ًما ستتحملين يا‬ ‫«سارة»؟ خمسة أعوام؟ لا‪ ..‬قولي عشرة أعوام مث ًل؟ دع ِك من دور‬ ‫المثالية‪ ..‬أنا مجرد إنقاذ لك من حياة الشارع وأن ِت لا تحبينني‪ ..‬لا‬ ‫‪118‬‬ ‫أحد يحب «رائد الألفي»‪.‬‬ ‫كررها مرة ثانية وهو يدمع ويرتمي على أريكته‪ :‬لا أحد سيحب‬ ‫«رائد الألفي»‪.‬‬ ‫معدوم الثقة تما ًما في نفسه‪ ..‬إحساسه بالقبح غلب كل إحساس‬ ‫وعاطفة عنده‪ ..‬الدمامة وصلت إلى روحه بعد أن غطت معالم‬ ‫وجهه‪ ..‬لا أعرف كيف أُقنعه أني أحبه‪ ..‬إنه لن يقتنع على الرغم من‬ ‫كل ما عشناه م ًعا وعلى الرغم من أني قلتها له أكثر من مائة مرة‪..‬‬ ‫إنه لا يريد حتى أن يصدق‪.‬‬ ‫‪119‬‬ 120 ‫«مريم»‬ ‫منذ أن فقدت «محمد البحيري»‪ ،‬زوجي المستقبلي‪ ،‬وأنا في حالة يُرثى‬ ‫لها‪ ..‬لا أستطيع أن أذوق طعم النوم وممتنعة حتى عن الطعام‪ ..‬لم‬ ‫يكن يساعدني في حالتي سوى صديقتي «يارا» وأبي‪.‬‬ ‫بعد وفاة أمي‪ ،‬منذ زمن بعيد‪ ،‬لم يتزوج أبي‪ ..‬كان وف ًّيا ج ًّدا لذكرى‬ ‫أمي‪ ..‬كنت أخاف من أن أحظى بزوجة أب تسيء معاملتي‪ ..‬كان‬ ‫لصديقتي زوجة أب تسمى «لبنى»‪ ،‬وهي من الأمثلة القليلة على‬ ‫مدى طيبة وبراءة زوجة الأب؛ فالمعتاد دائمًا أن زوجة الأب في‬ ‫الروايات والأفلام متسلطة وقاسية بشكل لا يُحتمل‪ ،‬لكن ربما كانت‬ ‫«لبنى» مثا ًل ناد ًرا‪.‬‬ ‫كانت صديقتي تروي لي أنها دائمًا ما تم ِّشط لها شعرها حتى أيام‬ ‫الجامعة وتقول لها‪ :‬قمر قمر‪ ..‬غ ًدا ستجدين ألف عريس على بابك‬ ‫يا جميلة الجميلات‪.‬‬ ‫كانت صديقتي تفرح كأي بنت بتلك ال ُجملة‪ ..‬كل بنت ترغب في‬ ‫أن تكون جذابة‪ ..‬أن يقف على بابها «العرسان» طوابير‪ ،‬كما كانت‬ ‫تقول‪.‬‬ ‫كان بعد ذلك يأتي الدور على «البخور»‪ ..‬إنها تبخرها كأنها ابنتها‬ ‫من لحمها ودمها وتقول لها وهي تذاكر دروسها وهي تدور حول‬ ‫رأسها برائحة البخور الشرقية الجميلة‪« :‬الأولة بسم الله والتانية‬ ‫‪121‬‬ ‫بسم الله»‪.‬‬ ‫وتردد بعض أسماء صديقاتها وتأتي بعروسة من ورق وتمارس دو ًرا‬ ‫غريبًا عليها‪ ،‬وهي من أبناء طبقة متعلمة‪ ،‬وتعمل «مهندسة»‪ ..‬لا‬ ‫أعرف ما حقيقة هذا البخور وهذه الأفعال العجيبة ولكني قرأت‬ ‫على شبكة الإنترنت عن أصل هذه العادة فوجدت ما يلي‪:‬‬ ‫«كان البخور يُستخدم في الحسد استخدا ًما شائ ًعا في القاهرة‪ ،‬وأشهر‬ ‫أنواع الحسد هو نظرة العين من النساء إلى الأولاد الذكور‪ .‬وأشهر‬ ‫أنواع البخور هو (الجاوي)‪ ،‬وكان يُستخدم في رقية الغلمان؛ حيث‬ ‫يوضع في مبخرة مشتعلة الفحم‪ ،‬ويعبر عليها الغلام سبع مرات‪،‬‬ ‫ويجب أن يخطو برجله اليمنى‪ ،‬وإلا فسدت الرقية‪ .‬وتقوم السيدة‬ ‫التي تمارس الرقية بطقوس معينة عندما يخطو الغلام فوق المبخرة‬ ‫جيئة وذهابًا‪ ،‬وتردد كلمات موزونة‪ ،‬وهي أصول العمل‪ ..‬وهذه‬ ‫الكلمات تعتبر من الأدب الشعبي‪.‬‬ ‫ثم تردد أسماء النساء التي تعتقد أن عين واحدة منهن أصابت‬ ‫ولدها‪ ،‬فارتفعت درجة حرارته‪ ،‬أو أصيب بالسعال‪ .‬وبعد إتمام‬ ‫مراسيم الرقية الأولى‪ ،‬وبعد أن يتم الغلام الخطوات السبع‪ ،‬تقوم‬ ‫أمه‪ ،‬أو السيدة التي ترقيه‪ ،‬بإحضار ورقة على شكل إنسان له رأس‪..‬‬ ‫ثم تخرق عينيه بإبرة الخياطة‪ ،‬وتقول كلمات أخرى في أثناء ذلك‪..‬‬ ‫ثم تمارس الرقية الثانية فتضع قطعة من الش ّبة في مجمرة البخور‪،‬‬ ‫وحين تتشكل الش ّبة في صورة إنسان‪ ،‬تلقي في النار بالورقة التي‬ ‫‪122‬‬ ‫خرقت عينيها‪ ،‬وتقول كلمات أخرى‪ .‬وبذلك تتم عملية رقية الطفل‬ ‫أو الغلام المصاب‪ ،‬وتعتقد أمه أنه سيُشفى بسبب ذلك‪.‬‬ ‫كان الجهل سائ ًدا‪ ..‬وكان كثيرون من المحتالين والمحتالات يتدخلون‬ ‫لشفاء المرضى‪ ..‬أو حل ال ُعقد بين المتخاصمين والمتخاصمات‪ .‬وفي‬ ‫الجيل الماضي كان طب ال ُّر ّكة ما زال موجو ًدا في القاهرة‪ .‬الولد‬ ‫الذي كان يصاب بضربة شمس كانوا يضعون في أذنيه محلول الملح‪،‬‬ ‫ويعصبون رأسه بمنديل كبير يوضع في وسطه مفتاح‪ ..‬ثم يطوون‬ ‫المنديل ببطء عن طريق المفتاح‪ ،‬وبذلك تخرج ضربة الشمس من‬ ‫الرأس‪.‬‬ ‫وكانوا يستخدمون المن ّومات في إنامة الصبي الذي تهتز أعصابه‪،‬‬ ‫وذلك عن طريق ثمار الخشخاش التي تغلي في الماء‪ ،‬ثم يشربها الولد‬ ‫وينام‪ .‬وكانت ثمار الخشخاش تباع في الدكاكين وهي ِح َزم صغيرة‬ ‫تضم أربع ثمرات‪ ،‬وثمنها مليم واحد‪ .‬أما أمراض العيون التي كانت‬ ‫منتشرة بشكل كبير‪ ،‬خاصة الرمد الطبيعي‪ ،‬فقد كان علاجها عندهم‬ ‫مسحوقًا أبيض يُذاب في الماء‪ ،‬واسمه (الششم)‪ .‬وكان أشهر أنواعه‪:‬‬ ‫(ششم الديك)‪ .‬ولم يكن يذهب إلى الأطباء إلا أبناء الطبقة القادرة‪.‬‬ ‫وفي عصر الدولة المملوكية‪ ،‬ارتفعت مكانة البخور‪ ،‬وكذلك المُب ِّخر‪،‬‬ ‫وهو الشخص الذي يقوم بمهمة التبخير‪ ،‬واستمرت هذه المكانة‬ ‫حتى العهد العثماني‪ ،‬واستُخدمت المبخرة في مناسبات كثيرة مثل‬ ‫مواكب الزواج‪ ،‬وتبخير الموتى‪ ،‬وتهيئة البيوت لاستقبال الضيوف‪،‬‬ ‫‪123‬‬ ‫والاحتفالات العائلية وخلال ليالي رمضان وأيام الأعياد‪.‬‬ ‫وللمسيحيين أي ًضا علاقة قوية بالبخور‪ ،‬وهو ُمستخ َدم في الكنائس‬ ‫منذ العهد القديم كطقس من طقوس الصلاة ورمز لصلوات‬ ‫القديسين المرفوعة أمام الله‪ ،‬باعتبار أن الإنسان لا بد من أن يكون‬ ‫ذا رائحة ذكية عندما يقف أمام الله‪.‬‬ ‫كلمة (البخور) عند الصينيين تُعرف باسم (شان شينانج)‪ .‬وقد لعبت‬ ‫الصين‪ ،‬بصفة خاصة‪ ،‬دو ًرا كبي ًرا في انتشار البخور‪ ،‬خاصة ما يُعرف‬ ‫باسم (العود)‪ ،‬في دول العالم كله‪.‬‬ ‫وشجرة البخور (آكيلاريا)‪ ،‬لكل جزء منها عبق خاص وميزة مختلفة‪،‬‬ ‫لكنها في مجملها من الجذور والساق والأغصان جميعها له عبق‬ ‫خاص حتى قبل تصنيعه‪ ،‬وتعمر شجرة البخور من خمسين عا ًما‬ ‫حتى مائتي عام‪ ،‬وهي شجرة راسخة على امتداد تاريخ النباتات في‬ ‫المناطق التي تنبت فيها‪.‬‬ ‫وثمة شجر بخور مكثّف العبق يُزرع في اليمن والسعودية ومصر‬ ‫وبعض دول الشام غير باردة المناخ‪ ،‬يعمر فقط لمدة خمس سنوات‪،‬‬ ‫لا يزيد ارتفاع الشجرة منها على خمسة أمتار‪ ،‬بينما الشجر المعمر‬ ‫يفوق ارتفاعه العشرين مت ًرا»‪.‬‬ ‫هذا ما قرأته على الإنترنت عن هذه العادة الغريبة على الرغم‬ ‫من أنها تُشعرني بأني مميزة ج ًّدا ولكني أحيانًا أشعر أنها نوع من‬ ‫الخرافات فلا أحب أن أتعلق به وأميل إليه‪.‬‬ ‫‪124‬‬ ‫كنت أتمنى أن أكون محظوظة مثلها‪ ..‬

للخيانة وجوه حيث تعيش القصص. اكتشف الآن